الإسلامُ دِينُ الوَاقِعِيَّة
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
30/05/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 1جمادي الأولى 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلامُ دِينُ الوَاقِعِيَّة
   الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالمين، أكرَمَنا فجَعَلنا أُمَّةً وَسَطا، ويَسَّرَ فَلمْ يُكلِّفْ عِبادَه شَطَطا، سُبْحَانَه خَلقَ الإنْسانَ وكَرّمَه، وَأفَاضَ عَليه مِنْ أنْوارِه ما جَعَله يَفقَهُ الأمُورَ بِوَعْيِه، وَيَعمُرُ الكَونَ بِعِلمِهِ وَسَعيِه، أحمَدُه سُبْحانَه بِما هو له أهلٌ مِنَ الحَمدِ وأُثني عَليه، وَأُؤمِنُ به وأتَوكَّلُ عَليه، مَنْ يَهدِه اللهُ فَلا مُضلَّ له، وَمَنْ يُضللْ فَلا هَادِيَ لَه، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَاحِبُ الهِدَايَةِ الرَّاشِدة، والأخلاقِ الرًّائِدَة، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وباركْ عليه وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ أجمعين، والتابعين لهُم بإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. مَّا بَعْدُ، فَيَا أيُُّها المُسلِمُونَ:
   الوَاقِعِيَّةُ بِمَدلُولِها اللُّغَويِّ تَعني النِّسْبَةَ إلى الوَاقِع، فالإسلامُ دِينُ الوَاقِعَِّية بِمعنى أنَّهُ يُراعِي وَاقِعَ الإنْسانِ وَوَاقِعَ الحَياةِ، بَعيداً عَنِ الشَّطَطِ والخَيَالِ، والعَشْوائِيَّةِ والارتِجَالِ، لا زَيغَ فِيه ولا انْحِرَافَ، وَلا بُعْدَ عَنِ الواقعِ ولا انصرافَ، وأوَّلُ مَا تَتَجلّى وَاقِعِيَّةُ الإسلامِ وتَظْهَرُ فِيما احتَضَنَهُ واحتَواهُ كِتَابُهُ المَجِيدُ المُطهّرُ؛ فَهو كِتابٌ قيِّمٌ لا عِوَجَ فِيه، تَتَجلّى الوَاقِعِيَّةُ فِي أُسْلُوبِه وألفَاظِه ومَعَانِيه، يَقُولُ اللهُ تَعالى: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا، قَيِّماً))(1)، إِنَّه كِتَابٌ شَديدُ التَّأثِيرِ فِي عَقلِ الإنْسانِ وَفيما أُودِعَ فِيه مِنْ عَاطفةٍ وَعقلٍ وضَميرٍ. إِنَّ مَا أَمرَ بِه الإسلامُ أو نَهى عنه جاءَ مُتَوافِقاً وَمُنْسَجِماً مَعْ خِلقَةِ الإنْسانِ وتَكْوينِه؛ فَهُو مَخلُوقٌ مُزدَوجُ الطَّبِيعةِ، فيه عُنصُرٌ طِينيٌّ وعُنْصُرٌ رُوحيٌّ، وهذا سِرُّ جَمالِهِ وحُسنِهِ واعْتدَالِهِ، يَقولُ اللهُ تَعَالى: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ))(2)، فَعُنصُرُ الإِنْسَانِ الطَّيْنِيُّ يَهْبِطُ بِهِ ويَجْذِبُهُ إِلى أَسْفَلَ، وُعُنْصُرُهُ الرُّوحِيُّ يَسْمُو بِهِ َويَرْفَعُهُ إِلى مَا هُوَ أَرْقَى وَأَمْثَل، فَهُوَ بِمادِّيَّتِهِ ضَعِيفٌ، وَلِذلِكَ جَعَلَ اللهُ مِْن مَبَادِئِ شَرْعِهِ لِلإِنْسَانِ اليُسْرَ وَالَتَخِْفيفَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً)) (3)، وَالإِنْسَانُ بِعُنْصُرِهِ الرُّوحِيِّ مُهَيَّأٌٌ لِلتَّحْلِيقِ فِيْ أُفُقٍ أَعْلَى، والتَّطَلُّعِ إِلى عَالَمٍ أَرْقَى، وَحَيَاةٍ هِيَ خَيْرٌ وَأَبْقَى، وخَلْقُ الإِنْسَانِ عَلَى هَذِهِ الطَبِيعَةِ يَتَّفِقُ مَعْ َرِسَالَتِهِ، وَيَتَنَاسَبُ مَعْ مُهِمَّتِهِ، إِذْ لَوْلا وُجُودُ عُنْصُرٍ مَادِيٍّ فِيهِ مَا سَعَى فِي مَنَاكِبِ الأَرْضِ يَعْمُرُهَا وَيَكَْتَـشِفُ مَا أَوْدَعَ اللهُ فِيهَا مِنْ خَيرَاتٍ، ويُسَخِّرُ لِمَصْلَحَتِهِ أَيضاً ما في السَّمَاواتِ، يَقُولُ اللهُ تَعالى: ((وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)) (4) ، ولولا وُجُودُ عُنْصرٍ رُوحيٍّ فيه لَتَخَلّى عَنِ الإيمانِ، واسْتَمرأَ الظُلمَ والطُغْيَان.
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ وَاقِعيّةَ الإسلامِ تَتَجلّى فِي عَقيدَتهِ الدَّاعِيةِ إلى الإيمانِ باللهِ وَمَلائِكَتِه وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليومِ الآخرِ والقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه، يَقُولُ اللهُ تَعالى: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)) (5) ، وَيَقُولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- لِجبريلَ -عليهِ السلامُ- حِينَ سَألَه عَنِ الإيمان: ((أَنْ تُؤمِنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِه وَكُتُبِه وَرُسُلِه وَاليومِ الآخرِ والقَدرِ خَيرِه وَشرِّه))، فالإيمانُ بِهَذا كُلِّه يُعْطِي لِلإنسانِ قِيمَتَه، وَيُعِينُه عَلى أَنْ يُؤدِّيَ بِكُلِّ إيجَابِيَّةٍ رِسَالَتَه، وَيُطَهِّرَ نَفسَه ويُزَكِّيها، وَيسمو بأخلاقِه ويُرَقِّيها، وَبِهذا يَتَوجَّهُ سُلُوكُه وِجهَةَ الخَيرِ والحقِّ باسْتِمرار؛ فَلا يَصدُرُ مِنْه ضَرَرٌ ولا إِضرَارٌ. إنَّ العَقيدةَ مَنْهَجٌ رَشيدٌ، وَطَريقٌ سَديدٌ، يَصِلُ بالإنسانِ فِي النِّهايَةِ إِلى أَنْبَلِ هَدَفٍ وأشْرَفِ غَايَةٍ. ليسَتِ العقيدةُ فِي الإسلامِ أمراً يَنْزَوي فِي الوِجْدَانِ، بَعيداً عَنْ وَاقِعِ الحَياةِ وَوَاقعِ الإنْسانِ، إنَّها عِلْمٌ وَحياةٌ تَنْعَكِسُ آثَارُها الوَاقِعِيَّةُ على الوِجدَانِ ضِيَاءً، وَعَلى المُجْتَمَعِ بِنَاءً، إِنَّها عَقِيدةٌ تَتَّخِذُ مِنَ العِلْمِ صَدِيقاً وَدُوداً، وَمِنَ الجَهلِ عَدُوّاً لَدُوداً، فَهِيَ عَقِيدَةٌ إِيجَابِيَّةٌ لا سَلْبِيّةٌ.
   عِبَادَ الله :
   لَقَدْ فَرَضَ الإِسْلامُ عَلَى المُؤمِنِ عِبَادَاتٍ، بِأًدَائِها يَكُونُ المُؤمِنُ عَلَى صِلَةٍ بِرَبِّهِ، وَلا تَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صِلَتِهِ بَمُجْتَمَعِهِ، وَالإِسْلامُ بِوَاقِعِيَّتِهِ رَاعَى الطَّاقَةَ البَشَرِيَّةَ المَحْدُودَةَ لِلإِنْسَانِ؛ فَلَمْ يَفْرِضْ عَلَيْه مَا فِيه عَنَتٌ وَحَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ، وَبِذَلِكَ رَاعَى التَّوَازُنَ بَيْنَ وَاقِعِ حَيَاةِ الإِنْسَانِ وَظُرُوفِهِ الأُسَرِيَّةِ وَالاجْتِمَاعِيَّةِ وَالاقْتِصَادِيَّةِ وَبَيْنَ وَاجِبَاتِهِ العِبَادِيَّةِ؛ فَالشَّعَائِرُ الدِّينِيَّةُ التِي كَلّفَ الإِسْلامُ المُؤمِنَ القِيَامَ بِها لا تَسْتَغْرِقُ وَقْتَهُ كُلَّهُ، بَلْ هِيَ عِبَادَاتٌ تُحَقِّقُ لَهُ عِمَارَةَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ مَعاً، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا))(6)، وَقَالَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- لأَحَدِ أَصْحَابهِ: ((سَاعَةٌ وَسَاعَة)) - أَيْ أَنَّهُ لا بُدَّ فِي الحَيَاةِ مِنْ سَاعَةِ دَعَةٍ وَرَاحَةٍ كَمَا أَنَّ فِيها سَاعَةَ جِدٍّ وَعَمَلٍ-. إِنَّ المُؤْمِنَ يُؤَدِّي شَعَائِرَهُ الدِّيِنَيِّةَ ثُمَّ يَنْطَلِقُ بَعْدَ أَدَائِها إِلى العَمَلِ وَالحَرَكَةِ؛ لِيُفَرِّغَ الشُّحْنَةَ الإِيمَانِيَّةَ التي تَزَوَّدَ بِها فِي قَالِبٍ وَاقِعِيٍّ سُلُوكِيٍّ مِنَ المُعَامَلَةِ الطَّيِّبَةِ مَعْ إِخْوَانِهِ خِلاَلَ ابْتِغَائِهِ لِلرِّزْقِ الذِي قَسَمَهُ اللهُ لَهُ؛ فَالْعِبَادَةُ تُثْمِرُ العَمَلَ النَّافِعَ وتُزَكِّيهِ وتُنَمِّيهِ وَتَضَعُ البَرَكَةَ فِيه، كَمَا أَنَّ العَمَلَ لِتَحْصِيلِ الرِّزْقِ وَعِمَارَةِ الحَيَاةِ يُبَارِكُ العِبَادَةَ وَيَجْعَلُها أَرْجَى قَبُولاًًََ وَأَعْظَمَ أَجْراً، وَفِي سُورَةِ الجُمُعَةِ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِالْقِيَامِ بِرِحْلَتَيْنِ: رِحْلَةٍ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، لِيُبَاشِرُوا بَعْدَهَا رِحْلَةً أُخْرَى لِلسَّعْيِ فِي طَلَبِ مَا قَسَمَ اللهُ لَهُم مِنْ رِزْقٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ))(7)، فَالمَفْهُومُ مِنَ الآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُم كَانُوا قَبْلَ السَّعْيِ لِلصَّلاةِ يُبَاشِرُونَ أَعْمَالَهُم، ثُمَّ يَأْمُرُهُمْ سُبْحَانَه بِالعَودَةِ إِلَيْها بَعْدَ أَدَاءِ العِبَادَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (8) .
   عبادَ اللهِ :
   كَمَا تَجَلَّتْ وَاقِعِيَّةُ الإِسْلامِ فِي العَقِيدةِ والعِبَادَةِ تَجَلَّتْ أَيْضاً فِي الأَخْلاقِ، فَبَيْنَ جَمِيعِ هَذِهِ الأُمُورِ الثَّلاَثَةِ فِي الإِسْلاَمِ ارْتِبَاطٌ وَثِيقٌ وَوَصلٌ دَقِيقٌ، فَالأَخْلاَقُ الفَاضِلَةُ الكَرِيمَةُ ثَمَرَةُ عَقِيدَةٍ مَكِينَةٍ وَعِبَادَةٍ خَالِصَةٍ؛ فَلا قِيمَةَ لِعَقِيدَةٍ وَلا لِعِبَادَةٍ لا تُهَذِّبُ السُّلُوكَ وَالأَخْلاقَ، وَلا تُثْمِرُ العَمَلَ النَّافِعَ الخَلاََّقَ، وَكَثِيراً ما يُنَادِي اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِبَادَهُ بِالصِّفَةِ المُحبَّبَةِ إِلَيْهِ - وَهِيَ صِفَةُ الإِيمَانِ - ثُمَّ يُتْبِعُ النِّدَاءَ العُلْويَّ الكَرِيمَ أَمْراً فِيه دَعْوَةٌ إِلَى فَضِيلَةٍ أَوْ نَهْيٌ عَنْ رَذِيلَةٍ؛ مِمّا يَدُلُّ دَلالَةً قَاطِعَةً عَلَى رَبْطِ العَقِيدَةِ وَالعِبَادَةِ بِالأَخْلاقِ، وَأَنَّ المُسْلِمَ مُطَالَبٌ بِالالْتِزَامِ بِجَمِيعِها عَلَى الإِطْلاقِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَاَد الله-، وَعِيشُوا وَاقِعَكُم، وَاعْمَلوا لِدُنْيَاكُم وَأُخْرَاكُم؛ تَنَالُوا خَيْرَ الحَيَاتََيْنِ وَسَعَادَةَ الدَّارَيْنِ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ مِنْ صُوَرِ الوَاقِعِيَّةِ فِي الإِسْلامِ وَاقِعِيَّتَهُ فِي التَّرْبِيَةِ وَتَقْوِيمِ السُّلُوكِ، فَتَرْبِيَتُهُ لِلإِنْسَانِ مُتَوَازِنَةٌ؛ حَيْثُ لا يَدَعُهُ يَغْرَقُ فِي الشَّهَوَاتِ، وَلا يَتْرُكُهُ يُغَالِي فِي العِبَادَاتِ، وَمِنْ وَاقِعِيَّةِ التَّرْبِيَةِ فِي الإسْلامِ حَثُّهُ الآبَاءَ عَلَى تَقْوِيمِ أَوْلادِهِم، وَالعَمَلِ عَلَى تَهْذِيبِ سُلُوكِهِمْ، وَعَاطِفَةُ الأُبُوَّةِ خَيْرُ مُعِينٍ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَبْقََ مِنَ الآبَاءِ سِوَى التَّوْجِيهِ وَالإرْشَادِ لِلأَبْنَاءِ، وَمِنَ الوَاقِعِيَّةِ أَيْضاً وَضْعُ مُعْظَمِ المَسْؤُولِيَّةِ عَلَى كَاهِلِ الأَبَوَيْنِ؛ لأَنَّهُمَا بِالأَوْلادِ أَلْصَقُ، وَبِهِمْ أَرْفَقُ وَأَشْفَقُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعَيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي بَيْتِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعَيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِها وَمَسْؤُولةٌ عَنْ رِعَيَّتِها))، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ-: ((كَفَى بِالمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يقُوتُ))، وَذَلِكَ لا يُقَلِّلُ مِنْ دَوْرِ الآخَرَينَ مِنْ مُربِّينَ وَمُعلِّمِينَ، لِذَلِكَ وَجَبَ تَضَافُرُ الجُهودِ لِتَعْوِيدِ النَّشْءِ عَلَى عَمَلِ الطَّاعَاتِ وَفِعْلِ الخَيْرَاتِ؛ لِيَنْشَؤوا صَالِحينَ، وَيَعِيشُوا آمِنينَ سَالِمينَ.
   أَيُّهَا المُؤمِنونَ :
   وَمِنْ وَاقِعِيَّةِ الإِسْلامِ مُرُونَتُهُ وَتَفَاعُلُهُ مَعَ الحَيَاةِ وَمُسْتَجَدَّاتِها؛ لأَنَّ وُقُوفَهُ وَالحَيَاةُ تَتَحَرّكُ وَتَسِيرُ أَمْرٌ صَعْبٌ وَعَسيرٌ، لذلكَ حَرَّكَ الإسلامُ العُقُولَ والأفهامَ، وأَمَرَ بالتزوُّدِ بالعِلمِ النَّافعِ بإخلاصٍ َدائبٍ وَفِكْرٍ ثاقبٍ، بهَدَفِ الوُصولِ إلى رأيٍ صائبٍ، فالإسلامُ دِينٌ يرتَبِطُ بالحياةِ ويمضي معها في رِحلتِها المديدةِ، وقضَاياها العديدةِ، يُتابِعُ ما يَجِدُّ مِنْ قضايا، ويستعينُ بما يُستحدَثُ مِنْ وسائلَ. إنَّ الإسلامَ دِينُ التقدُّمِ والصُّعودِ، لا مكانَ فيه لِتَحَجُّرٍ وجُمودٍ، فالتفكيرُ أساسُهُ وهاديهُ ونِبْراسُهُ، يقولُ اللهُ تعالى: ((كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))(9) ، قد يصلُ الفِكْرُ ببعضِ الناسِ إلى رأيٍ ما، بينما يصلُ بآخرينَ إلى رأيٍ مغايرٍ، فالإسلامُ بوَاقِعِيَّتِهِ المعهودةِ يُقَدِّرُ الفريقَينِ ويَحتَرِمُ الرأيَيْنِ، ما دامتِ الآراءُ مَحكُومةً بحُسْنِ الِّنيَّةِ، مضبوطةً بشَرَفِ الوِجْهةِ، وقد عرضَ القرآنُ الكريمُ قضيةً كان ِلداودَ -عليهِ السلامُ- فيها رأيٌ، بينما كانَ لابنِه سليمانَ -عليهِ السلامُ- رأيٌ آخرُ، فيهِ عدالةٌ في القضيَّةِ، وفوائدُ دُنيويَّةٌ، فأثنى القرآنُ الكريمُ على الرسولَينِ الكريمَينِ، وقدّرَ لِكُلٍّ منهما اجتهادَه، وأعلْنَ أنَّ فَهْمَ سليمانَ كانَ أكثرَ إفادةٍ، يقولُ اللهُ تعالى: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً)) (10) .
   فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واعلموا أنَّ الإسلامَ دِينُ الوَاقِعِيَّةِ، يضعُ الإنسانَ على طريقٍ واضحٍ سواءٍ، لا غموضَ فيهِ ولا انحرافَ ولا التواءَ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (11).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
              
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الكهف / 1-2 .
(2) سورة الشجدة / 7-9 .
(3) سورة النساء / 28 .
(4) سورة الجاثية / 13 .
(5) سورة البقرة / 285 .
(6) سورة القصص / 77 .
(7) سورة الجمعة / 9 .
(8) سورة الجمعة / 10 .
(9) سورة البقرة / 219-220 .
(10) سورة الانبياء / 78-79 .
(11) سورة الأحزاب / 56 .