خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

(( لاَ تَــبْخَسُوا الـنـَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ )) طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
11/10/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 17 شوال 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
(( لاَ تَــبْخَسُوا الـنـَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ))
   الحَمْدُ للهِ الذِي أَمَرَ عِبَادَهُ بِتَحقِيقِ العَدْلِ وَالإِنْصَافِ، وَجَعَلَهُ مِنْ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ وَأَجْمَلِ الأَوصَافِ، وَنَهاهُمْ عَنِ الظُّلْمِ وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الحَيْفِ وَالإِجْحَافِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ  وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَه،ُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ وَأْنْزَلَ الكُتُبَ؛ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وَالمِيزَانِ، وَإِعْطَاءِ الحُقُوقِ دُونَ بَخْسٍ وَنُقْصَانٍ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، جَاءَ بِالحَقِّ وَدَعَا إِلَيْهِ وَدَعَّمَ أَركَانَهُ، وَحَفِظَهُ وَرَعَاهُ وَصَانَهُ، وَجَعَلَ مِنَ الظُّلْمِ البَيِّنِ ضَياعَ الحَقِّ أَو نُقْصَانَهُ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الذِينَ كَانُوا إِلَى الخَيْرِ مُسَارِعِينَ، وَلِلْحُقُوقِ رَاعِينَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ لِلنَّاسِ حُقُوقاً وَعَلَيْهِمْ وَاجِبَاتٍ، بِمُرَاعَاتِهَا تَستَقِيمُ الحَيَاةُ وَتَنْتَظِمُ، وَتَتَعَافَى جِرَاحُ الأَخْلاَقِ وَتَلْتَئِمُ، فَمَنَ عَرَفَ وَاجِبَاتِهِ فَأَدَّاهَا، وَعَرَفَ حُقُوقَهُ فَلَمْ يَطْلُبْ سِوَاهَا؛ سَلِمَتْ أَخْلاَقُهُ مِنَ الاضْطِرَابِ وَالخَلَلِ، وَبَرِئَتْ مِنَ الأَسقَامِ وَالعِلَلِ، فَوَضَعَ بِذَلِكَ الدَّلِيلَ وَالبُرْهَانَ عَلَى حُسْنِ الإِيمَانِ، فَالخُلُقُ السَّلِيمُ السَّوِيُّ وَلِيدُ إِيمَانٍ قَوِيٍّ، وَفِي كَثِيرٍ مِنْ أَحَادِيثِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-  نَلْحَظُ الرَّبْطَ الوَثِيقَ وَالوَصْـلَ الدَّقِيقَ بَيْنَ الإِيمَانِ وَالأَخْلاَقِ، فَهُوَ -صلى الله عليه وسلم-  يَنْفِي الإِيمَانَ عَنِ الإِنْسَانِ الذِي آذَى جَارَهُ بِالفِعْـلِ أَو سَلاَطَةِ اللِّسَانِ؛ فَيَقُولُ –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((وَاللهِ لاَ يُؤمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤمِنُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا بَوائِقُهُ؟ قَالَ: شَرُّهُ))، كَمَا يَنْفِي -صلى الله عليه وسلم-   الإِيمَانَ عَنْ شَخْصٍ آخَرَ نُزِعَ مِنْهَ الحَيَاءُ، فَاقْتَرَفَ الرَّذَائلَ عَلَناً، لَمْ يَمْـنَعْهُ خَجَلٌ، وَلَمْ يَحُلْ بَيْـنَهُ وَبَيْنَ الرَّذِيلَةِ شُعُورٌ بِخَوْفٍ وَوَجَل، فَرَاحَ يَقْتَرِفُ الخَطَايَا وَيَفْعَلُ الدَّنَايَا غَيْرَ آبهٍ لِشُعُورِ الآخَرِينَ، وَلاَ مُكْتَرِثٍ لِفعْـلِهِ المَشِينِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((الحَيَاءُ وَالإِيمَانُ قُرَنَاءُ جَمِيعاً، إِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الآخَرُ))، وَمِنَ الأَخْلاَقِ التِي حَرَصَ الإِسْلاَمُ عَلَى استِمْرَارِهَا وَبَقَائِهَا، وَسَلاَمَتِهَا وَنَقَائِهَا، إِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، دُونَ تَعقِيدٍ أَو مَشَقَّةٍ، وَهُوَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوَانِ السَّمَاحَةِ التِي يُرِيدُهَا الإِسْلاَمُ وَاقِعاً مَلْمُوساً، وَيُرِيدُ أَثَرَهَا مُشَاهَداً مَحْسُوساً، كَمَا أَنَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الرِّفْقِ فِي التَّعَامُلِ، وَالرِّفْقُ فِي كُلِّ الأُمُورِ زِينَةٌ وَجَمَالٌ، وَسُمُوٌّ وَكَمَالٌ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلاَّ شَانَهُ))، وَالرِّفْقُ إِذَا تَوَارَى أَو عُدِمَ حَلَّ العُنْفُ مَحَلَّهُ، فَهُضِمَتْ بِذَلِكَ حُقُوقٌ وَضَاعَتْ، وانْتَشَرَتِ المَظَالِمُ وَشَاعَتْ، يَقُولُ الرَّسُولُ –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي عَلَى  الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى العُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى سِوَاهُ)).
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ إِعْطَاءَ الحُقُوقِ لأَرْبَابِهَا وَإِيصَالَهَا لأَصْحَابِهَا بِيُسْرٍ وَسُهُولَةٍ هُوَ سِمَةُ العِفَّةِ وَالشَّهَامَةِ وَالبُطُولَةِ، لِذَلِكَ حَرَّم اللهُ عَلَى كُلِّ مَنْ تَحَلَّى بِهَا واتَّصَفَ، فَلاَنَ وَسَهُلَ وَتَعفَّفَ؛ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ النَّارَ، لأَنَّهَا مَأْوَى كُلِّ غَلِيظٍ مُتَكبِّرٍ جَبَّارٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَو بِمَنْ تََحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ تَحْرُمُ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ))، وانْطِلاَقاً مِنْ مَبْدأِ الرِّفْقِ وَالسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ وَالسُّهُولَةِ حَرَّمَ الإِسْلاَمُ البَخْسَ، وَهُوَ نَقْصُ الشَّيءِ عَلَى سَبِيلِ الظُّلْمِ، وَقَدْ شَاعَ استِعْمَالُهُ فِي المَوازِينِ وَالمَكَاييلِ، وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لِمَنِ اقتَرَفَهُ العَذَابَ الوَبِيلِ، فَقَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ))(1)، وَالتَّعَامُلُ بِالبَخْسِ إِذَا شَاعَ فِي أُمَّةٍ وَانْتَشَرَ؛ عُدِمَ الخَيْرُ وَانْدَثَرَ؛ فَدَمَّرَها اجتِمَاعِيَّاً وَأَخْلاَقِيَّاً واقتِصَادِيَّاً، وَمَاذَا يَبقَى لِهَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ هَذَا التَّدْمِيرِ الذِي يَشْمَلُ كُلَّ مُقَوِّمَاتِ حَيَاتِهَا؟ إِنَّ عَوَاقِبَ البَخْسِ إِذاً جِدُّ خَطِيرَةٍ، لاَ يَستَهِينُ بِهَا إِلاَّ جَاهِلٌ مَطْمُوسُ البَصِيرَةِ، وَمِنْ عَوَاقِبِ البَخْسِ فِي الكَيْلِ وَالمِيزَانِ وُقُوعُ الأَزَمَاتِ، وَحُدُوثُ القَحْطِ وَالمَجَاعَاتِ وَذَهَابُ البَرَكَاتِ، فَلاَ عَجَبَ أَنْ أَرْسَلَ اللهُ بَعْضَ رُسُلِهِ فِي أُمَمٍ مَارَسَتْ هَذِهِ المُعَامَلاَتِ المَشِينَةِ، واقتَرَفَتْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ المُهِينَةِ، فَعَمَّ الظُّلْمُ فِيهِمْ وَسَادَ، وَأَوقَعُوا فِي الأَرضِ الفَسَادَ، وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَرَ أَنْ تَبقَى الأَرْضُ صَالِحَةً مُطهَّرَةً، وَمَعَالِمُ الخَيْرِ مِنْهَا وَاضِحَةً ظَاهِرَةً، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ شُعَيْبٍ –عَلَيْهِ السَّلاَمُ- لِقَوْمِهِ: ((يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))(2)، إِنَّ قَوَاعِدَ السُّلُوكِ وَالأَخْلاَقِ وَالتَّعَامُلِ تَنْبَثِقُ مِنْ قَاعِدَةٍ أَسَاسِيَّةٍ أَصِيلَةٍ، مِنْهَا تَنْتَشِرُ كُلُّ فَضِيلَةٍ وَتُعْدَمُ كُلُّ رَذِيلَةٍ، هَذِهِ القَاعِدَةُ هِيَ إِفْرَادُ اللهِ بِالأُلُوهِيَّةِ وَالعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَها شُعَيْبٌ-عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فِي دَعْوَتِهِ، حَيْثُ هِيَ أَسَاسُ رِسَالَتِهِ وَقَاعِدَةُ دَعْوَتِهِ، فَمَنْ بَخَسَ الأَشْيَاءَ وَظَلَمَ النَّاسَ؛ فَبِنَاؤهُ قَائمٌ عَلَى غَيْرِ قَاعِدَةٍ وَأَسَاسٍ، فَحُسْنُ المُعَامَلَةِ مِنْ جَوْهَرِ الدِّينِ، بِهِ تَستَقِيمُ الحَيَاةُ وَيَتََحَقَّقُ الانْسِجَامُ، ويَتَرَسَّخُ الإِخَاءُ، وَيَعُمُّ الخَيْرُ وَالرَّخَاءُ، فَالمُعَامَلَةُ الطَّيِّبَةُ تَكْفُلُ لِلنَّاسِ سَعَادَتَهُمْ، وتُحَقِّقُ لَهُمْ رَاحَتَهُم.
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   إنَّ بَخْسَ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ لَيْسَ مَقْصُوراً عَلَى البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَمَا يَتَعلَّقُ بِهِمَا مِنْ مَكَاييلَ وَمَوَازِينَ ومَقَاييسَ، بَلْ يَعُمُّ كُلَّ مُعَامَلَةٍ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَأَخِيهِ الإِنْسَانِ، فَمَنِ استَدَانَ دَيْـناً أَدَّاهُ لِصَاحِبِ الحَقِّ دُونَ بَخْسٍ وَنُقْصَانٍ، وَبِذَلِكَ يَضَعُ الدَّلِيلَ وَالبُرْهَانَ عَلَى حُسْنِ التَّقْوَى وَقُوَّةِ الإِيمَانِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً))(3)، ومَنِ استَهَانَ بِشَأْنِ أَخِيهِ الإِنْسَانِ وَاحتَقَرَهُ؛ فَقَدْ بَخَسَهُ حَقَّهُ وَحَطَّ قَدْرَهُ؛ لأَنَّ حَقَّ الإِنْسَانِ عَلَى أَخِيهِ الإِنْسَانِ أَنْ يُعَامِلَهُ بِاحتِرَامٍ وَتَقْدِيرٍ، وَإِعْزَازٍ وَتَوقِيرٍ؛ فَالإِنْسَانِيَّةُ رَحِمٌ بَيْنَ كُلِّ النَّاسِ عَلَى اختِلاَفِ العَقَائِدِ وَالأَلْوَانِ وَالأَجْنَاسِ، وَلَقَدْ أكَّدَ القُرآنُ الكَرِيمُ هَذَهِ الحَقِيقَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ آيَةٍ، حَيْثُ رَدَّ أَنْسَابَ النَّاسِ جَمِيعِهِمْ إِلَى ذَكَرٍ وَاحِدٍ وَأُنْثَى وَاحِدَةٍ، هُمَا بِمَنْزِلَةِ دَوْحَةٍ تَوَحَّدَ أَصلَُهَا وَتَشَعَّبَتْ فُرُوعُهَا وَأَغْصَانُهَا، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً))(4)، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ تَـشَعُّبَ النَّاسِ إِلَى شُعُوبٍ وَقَبَائلَ مَثَارَ تَعَارُفٍ لاَ تَنَاكُرٍ، وَمَدْعَاةَ ائتِلاَفٍ لاَ اختِلاَفٍ، فَقَالَ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(5)، وَقَدْ أَشَارَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  إِلَى هَذِهِ الرَّحِمِ الإِنْسَانِيَّةِ وَالآصِرَةِ القَوِيَّةِ فِي أَرْوَعِ جُمُوعٍ حَاشِدَةٍ، ضَمَّتْ قُلُوباً نَقِيَّةً وَعُقُولاً رَاشِدَةً، فَقَالَ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: ((أَيُّها النَّاسُ: إِنَّ رَبَّكَمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ)). وَلَقَدْ مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  جِنَازَةٌ فَقَامَ لَهَا، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِأَنَّهَا جَنَازَةُ غَيْرِ مُسلِمٍ أَجَابَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّها نَفْسٌ بَشَرِيَّةٌ، لَهَا حَقٌّ مَكْفُولٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولٌ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ بَخْسَ النَّاسِ أَشْيَاءَهُمْ والتَّنْقِيصَ مِنْ أَقْدَارِهِمْ؛ هَدْرٌ لِلْحُقُوقِ، وَظُلْمٌ وَعُقُوقٌ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   مَنْ وُكِلَ إِلَيْهِ عَمَلٌ مِنَ الأَعْمَالِ لَهُ شَأْنٌ وَعَلاَقَةٌ بِالنَّاسِ وَخِدْمَاتِهِمْ ومُتَطلَّبَاتِهِمْ فِي الحَيَاةِ لَزِمَهُ أَنْ يُيَسِّرَ لِلنَّاسِ أُمُورَهُمْ، ويَقْضِيَ لَهُمْ مَطَالِبَهُمْ، ويُحَقِّقَ لَهُمْ مَآرِبَهُمْ مَا استَطَاعَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلاً، ذَلِكَ حَقُّهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَهَاوَنَ وَقَصَّرَ، أَو ضَيَّقَ وَعَسَّرَ -مَعَ وجُودِ مَسَاحَةٍ وإِمكَانِيَّةٍ مُتَاحَةٍ لِتَحقِيقِ المَطَالِبِ وإِنْجَازِ المَآرِبِ- فَقَدْ بَخَسَ هَؤلاَءِ المُرَاجِعِينَ حُقُوقَهُمْ، وَفِي المُقَابِلِ فَإِنَّ وَاجِبَ المُراجِعِ أَلاَّ يُحَمِّلَ المَسؤولَ مَا لاَ يُطيقُهُ، وَمَا يَتعَذَّرُ عَلَيْهِ تَحِقيِقُهُ، ويُضَيِّعَ الوَقْتَ فِي أَخْذٍ ورَدٍّ؛ فَيَبْخَسَ حُقُوقَ الآخَرِينَ مِنْ بَقِيَّةِ المُرُاجِعِينَ المُنْتَظِرِينَ، إِنَّ ضَياعَ وَقْتِ الإِنْسَانِ وَتَضْييعَ أَوقَاتِ غَيْرِهِ سُدًى هُوَ هَدْرٌ وغَبْنٌ لِنِعْمَةِ الأَوقَاتِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ تَرَاكُمِ الأَعْمَالِ وَمَا يُسَبِّبِهُ مِنْ أَزَمَاتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ))، وَبَيْنَ العَامِلِ وَصَاحِبِ العَمَلِ حُقُوقٌ مُتَبَادَلَةٌ، يَجِبُ صِيَانَتُها ورِعَايَتُها، فَعَلَى العَامِلِ أَلاَّ يَبْخَسَ صَاحِبَ العَمَلِ حَقَّهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُتقِنَ عَمَلَهُ ويُحسِنَ ويُجِيدَ، وَبِذَلِكَ يُفِيدُ ويَستَفِيدُ، كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ المُحَافِظَةَ عَلَى آلِيَّاتِ العَمَلِ ومُعَدَّاتِهِ، وأَنْ يَعْمُرَ بِخِبْرَتِهِ وَعَمَلِهِ كُلَّ أَوقَاتِهِ، بَدْءاً مِنْ حُضُورِهِ وانْتِهَاءً بِمَوْعِدِ انْصِرَافِهِ، فَإِنْ فَرَّطَ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَخَسَ صَاحِبَ العَمَلِ حَقَّهَ وَضَرَّهُ وَأَسَاءَ إِلَيْهِ، وَفِي المُقَابِلِ يَجِبُ عَلَى صَاحِبِ العَمَلِ ألاَّ يَبْخَسَ العَامِلَ حَقَّهُ، فَيُكَلِّفَهُ مَا يَفُوقُ طَاقَتَهُ، وَيَزِيدُهُ رَهَقاً وَمَشَقَّةً، أَو يَستَغِلَّ كَدَّهُ وَعَرَقَهُ دُونَ أَنْ يُعْطِيَهُ أَجْرَهُ وَحَقَّهُ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ ابنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهَ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: ((أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْـلِ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ))، إنَّ كُلَّ جُهْدٍ يُبْذَلُ وعَرَقٍ يَتَصَبَّبُ وفِكْرٍ يُبْـتَكَرُ يَجِبُ أَنْ يَلْقَى مُقَابِلاً مَعقُولاً، لاَ يَشْعُرُ مَعَهُ المُوظَّفُ أَو العَامِلُ أَنَّ جُهْدَهُ أُهْدِرَ؛ وَأَنَّ مَوَاهِبَهُ لَمْ تُقَدَّرْ حَقَّ قَدْرِهَا، فَصَاحِبُ المَالِ يُصَانُ مَالُهُ، وَالعَامِلُ يُقَدَّرُ جُهْدُهُ وتُثَمَّنُ أَعْمَالُهُ؛ لاَ تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وقَدِّرُوا الحَيَاةَ وَالأَحْيَاءَ، وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ الأَشْيَاءَ.
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة المطففين/ 1-6.
(2) سورة الأعراف/ 85.
(3) سورة البقرة/ 282.
(4) سورة النساء/ 1.
(5) سورة الحجرات/ 13.
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.