خطبة الاسبوع arrow خطبة الاسبوع arrow مَنَاسِكُ الحََـجِّ ثِـمـَارٌ وَأَسْرَارٌ
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

مَنَاسِكُ الحََـجِّ ثِـمـَارٌ وَأَسْرَارٌ طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
01/11/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 8 ذي القعدة 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مَنَاسِكُ الحََـجِّ ثِـمـَارٌ وَأَسْرَارٌ
   الحَمْدُ للهِ ذِي الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، وَالطَّوْلِ وَالإِنْعَامِ، فَرَضَ عَلَى المُستَطِيعِ مِنَ النَّاسِ حَجَّ بَيْـتِهِ الحَرَامِ، فَقَالَ عَزَّ قَائلاً عَلِيمًا: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً))(1)، سُبْحَانَهُ جَعَلَ الحَجَّ إِلَى بَيْـتِهِ مِنْ أَعْظَمِ الأَركَانِ فِي الإِسْلاَمِ، وَدَلِيلاً عَلَى مَا استَقَرَّ فِي القُلُوبِ مِنْ إِيمَانٍ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ حَجَّ واعتَمَرَ، وانْتَهَى عَمَّا نَهَى اللهُ والتَزَمَ بِمَا أَمَرَ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

 أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   الحَجُّ إِلَى بَيْتِ اللهِ الحَرَامِ قَصْدٌ وَنِيَّةٌ، وَعِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ وَبَدَنِيَّةٌ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِعبَادِهِ أَنْ فَرَضَهُ عَلَى المُستَطِيعِ القَادِرِ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي العُمرِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: خَطَبَنا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-  : لَو قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا استَطَعْـتُمْ، ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُمْ كَثْرَةُ سُؤالِهِمْ وَاختِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائهِمْ، فَإِذَا أََمَرتُكُمْ بِشَيءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا استَطَعْـتُمْ، وَإِذَا نَهَيْـتُكُمْ عَنْ شَيءٍ فَدَعُوهُ))، وَالحَجُّ عِبَادَةٌ يَانِعَةُ الثِّمَارِ، حَافِلَةٌ بِالأَسْرَارِ، يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَعْرِفُهُ أُولُو النُّهَى وَالأَبْصَارِ، وَلَقَدْ أَذَّنَ بِهَذِهِ العِبَادَةِ مُنْذُ عَهْدٍ قَدِيمٍ خَلِيلُ اللهِ إِبرَاهيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، استِجَابَةً لأَمْرِ اللهِ المَعْبُودِ، فَأَسْمَعَ اللهُ أَذَانَهُ كُلَّ الوُجُودِ، قَالَ تَعَالَى آمِرًا لَهُ: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ))(2)، إِنَّ الحَجَّ سَفَرُ طَاعَةٍ مُبَارَكٌ، رَضِيَهُ اللهُ تَعَالَى وَبَارَكَ، يَتْرُكُ فِيهِ المُسلِمُ الأَهْـلَ وَالبَلَدَ، وَالمَالَ وَالوَلَدَ، تَلْبِيَةً لأَمْرِ اللهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ، يَتَزَوَّدُ المُسلِمُ فِيهِ بِخَيْرِ زَادٍ، وَهَلْ بَعْدَ تَقْوَى اللهِ مِنْ زَادٍ؟ إِنَّهُ زَادٌ يُسْعِدُ حَيَاةَ الإِنْسَانِ وَيُنْجِيهِ يَوْمَ التَّنَادِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإَِِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)) (3) .
   أيُّهَا المُسلِمُونَ :
   لِلْحَجِّ مَوَاقِيتُهُ الزَّمَانِيَّةُ، وَهِيَ مَوَاقِيتُ لاَ تُحْسَبُ بِالأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، بَلْ بِالأَشْهُرِ المَعلُومَاتِ، حتَّى يَستَطِيعَ النَّاسُ أَنْ يَأْتُوا لأَدَاءِ مَنَاسِكِهِ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، وَبَلَدٍ نَاءٍ وَسَحِيقٍ؛ وَلِيَتَمَكَّنَ كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ أَدَاءِ المَنَاسِكِ عَلَى الوَجْهِ المَرْضِيَّ وَالمَنْشُودِ، فِي المَكَانِ المُعَيَّنِ وَالزَّمَنِ المَحْدُودِ، كَمَا أَنَّ لِلْحَجِّ مَوِاقِيتَهُ المَكَانِيَّةَ التِي عِنْدَهَا يَبْدَأُ الحَاجُّ عَقْدَ نِيَّـتِهِ وَالدُّخُولَ فِي عِبَادَتِهِ؛ فِي هَذِهِ الأَمكِنَةِ أَو مَا يُحَاذِيهَا يَبْدَأُ الإِحْرَامُ، فَيُغَيِّرُ الحَاجُّ أَو المُعْـتَمِرُ مِنْ بَاطِنِهِ وَظَاهِرِهِ، أَمَّا تَغْيِيرُ البَاطِنِ فَيَكْمُنُ فِي عَدَمِ الاهتِمَامِ بِالدُّنْيَا وَمُلْهِيَاتِهَا، وَشَهَواتِهَا وَمُغْرِيَاتِهَا، وَطَرْحِ كُلِّ مَا يُعكِّرُ الرُّوحَ مِنْ تَفْكِيرٍ فِي الأَهْـلِ وَالوَلَدِ، وَالمَالِ وَالبَلَدِ، أَمَّا تَغْيِيرُ الظَّاهِرِ فَيَكْمُنُ فِي طَرْحِ كُلِّ اهتِمَامٍ بِزِينَةِ اللِّبَاسِ وَفَخَامَتِهِ، وَشَكْلِهِ وَصُورَتِهِ، فَيَخْلَعُ الرَّجُلُ عَنْ بَدَنِهِ الثَّوْبَ المُعتَادَ، وَيَلْبَسُ إِزَارًا وَرِدَاءً لِيَكُونَ فِي غَايَةِ التَّواضُعِ ومُنْتَهَى الخُضُوعِ لِلإِلَهِ المَعْبُودِ، وَبِذَلِكَ يَبْـتَعِدُ عَنِ الكِبْرِ وَالغُرورِ، وَهُوَ رَاضٍ سَعِيدٌ فَرِحٌ مَسْرورٌ، أَمَّا المَرأَةُ فَتُحْرِمُ فِي ثِيَابِهَا المُعْـتَادَةِ كَاشِفَةً عَنْ وَجْهِهَا وَكَفَّيْها فَقَطْ، غَيْرَ أَنَّها تَبْـقَى كَالرَّجُلِ بَعِيدَةً عَنْ كُلِّ مَحْظُورَاتِ الإِحْرَامِ، فَلاَ اهتِمَامَ لَهَا بِشَكْلٍ أَو زِينَةٍ؛ إِذْ حُلِيُّهَا أَخْلاَقٌ حَمِيدَةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ رَزِينَةٌ.
   عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ الحَرَامِ لَيْسَ مُجَرَّدَ حَرَكَةٍ جُسْمَانِيَّةٍ، بَلْ هُوَ تَعْبِيرٌ عَنْ تَوَجُّهِ القُلُوبِ لِلهِ حينَ دَوَرَانِهَا بِبَيْتِهِ، اِلْتِمَاسًا لِرَحْمَتِهِ، وَطَلَبًا لِرِضْوَانِهِ وَمَثُوبَتِهِ، إِنَّهُ الْتِفَافٌ حَوْلَ بَيْتِ اللهِ الكَرِيمِ؛ لِيَنَالَ الطَّائِفُ عَطَاءَهَ، وَيُدْرِكَ فَضْلَهُ وَنَعْمَاءَهُ، وَإِذَا كَانَتْ مَظَاهِرُ كَرِمِ اللهِ تَصِلُ إِلَيْنَا فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ مَكَانٍ سَحِيقٍ، وَطُفْنَا بِبَيْـتِهِ العَتِيقِ؟ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّـفَا وَالمَروَةِ هُوَ تَذْكِيرٌ لِلسَّاعِي بِأَمْرٍ هُوَ فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الاعتِمَادُ عَلَى اللهِ وَحُسْنُ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، دُونَ تَوَاكُلٍ وَاستِكَانَةٍ، بَلْ مَعَ سَعْيٍ دَؤُوبٍ، لِيَحْظَى فِي النِّهَايَةِ بِرِزقِهِ المَكْتُوبِ، فَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ يُذكِّرُنَا بِسَعْيِ السَّيِّدَةِ هَاجَرَ أُمِّ إِسَماعِيلَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- التِي تَرَدَّدَتْ بَيْنَ هَذَيْنِ المَكَانَيْنِ تَسْـتَمْطِرُ الرَّحَمَاتِ وتَلْتَمِسُ البَرَكَاتِ، تَطْـلُبُ مِنَ اللهِ أَنْ يُنْقِذَ وَلَدَهَا إِسَمَاعِيلَ مِمَّا يُعَانِيهِ، فَهُوَ فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَى شَرْبَةِ مَاءٍ تُرْوِيْهِ، وَتُنْقِذُهُ مِنَ الخَطَرِ وَتَحْمِيهِ، فَكَانَ سَعْيُهَا حَرَكَةً، جَلَبَتِ الخَيْرَ وَالبَرَكَةَ، بِهَذَا يَتَعلَّمُ المُؤمِنُ أَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَى اللهِ أَمْرٌ مَحْـتُومٌ، لَكِنَّ السَّعْيَ لِتَحقِيقِ الأَمَلِ أَمْرٌ ضَرورِيٌّ وَمْعلُومٌ، لَقَدْ تَوكَّلَتِ السيِّدَةُ هَاجَرُ عَلَى اللهِ وَالتَمَسَتِ الأَسْبَابَ، فَأَغَاثَهَا اللهُ وَوَلَدَهَا بِمَاءٍ مَعِينٍ، أَرْوَاهُمَا بَلْ أَرْوَى غَيْرَهُمَا مِنَ الآمِّينَ لِهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ، فَزَمْزَمُ الآنَ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ وَزَمَانٍ لِسَانُ حَالِهَا يَقُولُ: مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ كَانَ حَسْبَهُ وَكَافِيَهُ، وَحافِظَهُ وَحَامِيَهُ، ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) (4)، وَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الصَّـفَا وَالمَروَةِ دَرْسٌ لأَهْـلِ الإِيمَانِ بِأَنَّ الوُصُولَ إِلَى الهَدَفِ وَالمُرَادِ يَتَطَلَّبُ المُحَاوَلاتِ وَالتَّرْدَادَ، فَمَنْ أَرَادَ تَحْـقِيقَ هَدَفٍ وأَخفَقَ مَرَّةً، فَعَلَيْهِ أَلاَّ يَيْأَسَ بَلْ يُحَاوِلَ إِعَادَةَ الكَرَّةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) (5) .
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   إِنَّ الوُقُوفَ بِعَرَفَةَ لَيْسَ مُجَرَّدَ وُقُوفٍ نِصْفَ النَّهَارِ وَجُزْءًا مِنَ اللَّيلِ ثُمَّ انْصَرافٍ، إِنَّهُ تَعْـلِيمٌ وَتَدْرِيبٌ، وَتَقْوِيمٌ وَتَهْذِيبٌ، وَنِظَامٌ وَتَرتِيبٌ، فَتَحْدِيدُ بَدْءِ زَمَنِ الوُقُوفِ وَتَحْدِيدُ نِهَايَتِهِ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَهَمِيَّةِ الوَقْتِ وَتَرتِيبِ كُلِّ عَمَلٍ فِيهِ، وَبِذَلِكَ يُبَارِكُ اللهُ فِي الوَقْتِ؛ فَيَتَّسِعُ لِلأَعْمَالِ مَهْمَا كَثُرَتْ، وَيُحَقِّقُ المُسلِمُ جَمِيعَ أَهْدَافِهِ مَهْمَا وَفَرَتْ، وَكَمَا نَظَّمَ الإِسلاَمُ بَدْءَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالوُصُولَ إِلَيْهَا، نَظَّمَ طَرِيقَةَ الانْصَرِافِ مِنْهَا، فَفِي كِلاَ الأَمْرَيْنِ دَعَا الإِسلاَمُ لِلنِّظَامِ وَعَدَمِ العَجَلَةِ، لِيَتَحَقَّقَ اليُسْرُ وَيَنَالَ كُلُّ إِنْسَانٍ أَمَلَهُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّ أَهْـلَ الشِّرْكِ وَالأَوثَانِ كَانُوا يَدفَعُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ قَبْـلَ غُروبِ الشَّمْسِ وَأَنَا أَدفَعُ مِنْهَا بَعْدَ غُرُوبِهَا فَلاَ تَعْجَلُوا))، وَلَقَدْ تَعَوَّدَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ انْصِرَافُهُمْ مِنْ مَوَاقِعِ أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ أَدَائِهَا تَأْخُذُ صُورَةَ العَجَلَةِ وَالازْدِحَامِ، وَفِي هَذَا مَا يُسَبِّبُ لَهُمُ العَنَتَ وَالمَشَقَّةَ، وَيَحُولُ دُونَ الانْدِفَاعِ إِلَى الأَمَامِ، فَعَلَّمَ الإِسلاَمُ النَّاسَ وَقْتَ إِفَاضَتِهِمْ مِنْ عَرَفَاتٍ أَنْ يَفِيضُوا عَلَى مَهَلٍ، وَيَتَجَنَّبُوا الإِسْرَاعَ وَالعَجَلَ، وَحثَّهُمْ عَلَى الانْصِرَافِ بِهُدُوءٍ وتُؤَدَةٍ، لِيَبقَى لِلْمَوقِفِ رَوْعَتُهُ وَلِلْحَجِّ وَقَارُهُ، فَالاستِعْجَالُ لَهُ مَضَارُّهُ وَأَخْطَارُهُ، إِنَّ هَذَهِ الأَبْدَانَ التِي ظَلَّتْ فِي المَوقِفِ العَظِيمِ بِعَرَفَةَ خَاشِعَةً هَادِئَةً وَادِعَةً، لاَ يَلِيقُ بِهَا أَنْ تَنْتَقِلَ مِنْ رَوْعَةِ الخُشُوعِ إِلَى السُّرْعَةِ وَإِيذَاءِ الجُمُوعِ، وَلَقَدْ حَرَصَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  عَلَى أَنْ يَلْتَزِمَ المُنْصَرِفُونَ مِنْ عَرَفَاتٍ بِذَلِكَ؛ لِيَتَجنَّبُوا المَخَاطِرَ وَالمَهَالِكَ، وَلِيَبْـقَى ذَلِكَ لَهُمْ عَادَةً، تُحَقِّقُ الأَمَانَ وَالسَّعَادَةَ، لِذَلِكَ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-  وَهُوَ يَدفَعُ مِنْ عَرَفَاتٍ: ((أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ؛ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ)) أَي الإِسْرَاعِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الإِسلاَمَ يُلْبِسُ كُلَّ حَالٍ لَبُوسَهَا، ويُعْطِي كُلَّ وَضْعٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وَهَذَا مِنْ هَدْيِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي حَجِّهِ، فَقَدْ كَانَ –عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- إِذَا بَلَغَ أَودِيَةً فَسِيحَةً وَأَمكِنَةً رَحْبَةً أَسْرَعَ بَعْضَ الشَّيءِ، فَعَنْ جَابِرِ بنِ زَيْدٍ قَالَ: سُئلَ أُسَامَةُ بنُ زَيْدٍ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ؟ قَالَ: ((كَانَ يَسِيرُ العَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً - أَي مُتَّسَعًا- نَصَّ))، والعَنَقُ سَيْرٌ بَيْنَ الإِبْطَاءِ وَالإِسْرَاعِ، وَالنَّصُّ سَيْرٌ فَوقَ العَنَقِ، إِنَّ السَّيْرَ عَلَى مَهَلٍ وَقْتَ الازْدِحَامِ فِيهِ حِرْصٌ مِنَ الإِسلاَمِ عَلَى سَلاَمَةِ الإِنْسَانِ مِنْ أَيِّ عَطَبٍ يُؤذِيهِ أَو خَطَرٍ يُرْدِيهِ، وإِنَّ السَّيْرَ بِسُرْعَةٍ فِي غَيْرِ الزِّحَامِ فِيهِ حِرْصٌ عَلَى أَنْ يَصِلَ الحُجَّاجُ إِلَى مَنَاسِكِهِمْ فِي وَقْتِهَا بِسَلاَمٍ.
                      
   فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ-، والتَزِمُوا بِهَدْيِ الإِسلاَمِ، تَنْعَمُوا بِالأَمْنِ وَالسَّلاَمِ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّها المُسلِمُونَ :
   إِنَّ السَّلاَمَ الذِي نَسْعَى لِلْعَيْشِ فِي ظِلاَلِهِ تُعلِّمِنَا إيَّاهُ مَنَاسِكُ الحَجِّ، فَقَدْ حَدَّدَ الإِسلاَمُ حَجْمَ الحَصَى الذِي يُرمَى بِهِ الجَمَراتُ -وَهُوَ حَصَى الخَذْفِ الصَّغِيرِ-، وَفِي ذَلِكَ حِرْصٌ عَلَى ألاَّ يُؤذَى أَحَدٌ مِنَ الحُجَّاجِ أَو يُضَارَّ، أَو يَتَعرَّضَ لِشَيءٍ مِنَ الأَخْطَارِ، لِذَلِكَ أَكَّدَ الإِسلاَمُ عَلَى صِغَرِ حَجْمِ الحَصَاةِ، وَعَلَى تَحَرِّي الصَّوابِ فِي رَمْيِهَا، وَتَحقِيقًا لِلأَمْنِ وَالسَّلاَمِ فِي الحَجِّ نَهَى الإِسلاَمُ عَنِ الجِدَالِ وَالخِصَامِ، وَكُلِّ فِسْـقٍ أَو فُحْـشٍ فِي الكَلاَمِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ))(6)، وَيَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ))، وَفِي الحَجِّ يَتَجلَّى َمظْهَرُ الوَحْدَةِ بَيْنَ المُسلِمِينَ جَلِيًّا ظَاهِرًا مَرئيًّا، حَيْثُ يَلْتَقُونَ عَلَى صَعِيدٍ وَاحِدٍ، بِزِيٍّ وَاحِدٍ وَلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهَدَفٍ وَاحِدٍ، فَتَتَجلَّى فِي اجتِمَاعِهِمْ وَحْدَةُ الكَلِمَةِ وَوَحْدَةُ المَظْهَرِ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي خُطْبَةِ الوَدَاعِ حِينَ قَالَ: ((أَيُّها النَّاسُ: إنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لآدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، لَيْسَ لِعَرَبِيٍّ فَضْـلٌ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ اشهَدْ)).
                      
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واعلَمُوا أَنَّ مَنَاسِكَ الحَجِّ تَظْهَرُ فيها غَايَاتُ الإِسلاَمِ جَلِيَّةً وَاضِحَةً مَرئيَّةً؛ فَلاَ تَعَصُّبَ أَو أَيَّ نَزْعَةٍ عُنْصُرِيَّةٍ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (7).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة آل عمران / 97 .
(2) سورة الحج / 27-28 .
(3) سورة البقرة / 197 .
(4) سورة الطلاق / 3 .
(5) سورة العنكبوت / 69 .
(6) سورة البقرة/ 197.
(7) سورة الأحزاب / 56 .
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.