فَضَائـلُ الصَّبرِ وَمجَالاتهُ |
|
|
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء
|
11/02/2009 |
خطبة الجمعة بتاريخ 17 صفر 1430هـ بسم الله الرحمن الرحيم فَضَائـلُ الصَّبرِ وَمجَالاتهُ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، يَجْزِي الصَّابِرِينَ فَيُضَاعِفُ لَهُمْ أُجُورَهُمْ، ويُيَسِّرُ لَهُمْ أُمُورَهُمْ، وَيَرفَعُ بِفَضْـلِهِ أَقْدَارَهُمْ، وَيَمْحُو بِرَحْمَتِهِ أَوزَارَهُمْ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، مَنْ رَضِيَ بِقَضَائِهِ لَطَفَ اللهُ بِهِ وَكَانَ مَأْجُورًا، وَمَنْ سَخِطَ عَلَى قَضَائِهِ أَمْضَى اللهُ قَضَاءَهُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَوزُورًا، وَأشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَثْبَتُ النَّاسِ قَلْبًا وَأَجْمَلُهُمْ صَبْرًا، وَأَرفَعُهُمْ قَدْرًا وَأَعْظَمُهُمْ أَجْرًا، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : عِنْدَ وُقُوعِ الشَّدَائِدِ وَحُدُوثِ الخُطُوبِ؛ فَلَيْسَ كَالصَّبْرِ عِلاَجٌ يَشُدُّ العَزَائِمَ ويُثَبِّتُ القُلُوبَ، فَفِي جَوفِ الظُّلُمَاتِ الحَالِكَةِ؛ يُضِيءُ الصَّبْرُ مُبَيِّنًا للإِنْسَانِ مَخَارِجَهُ وَمَسَالِكَهُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((الصَّبْرُ ضِيَاءٌ))؛ فَلاَ شَيءَ أَعظَمُ وَأَكْمَلُ وَأَحْسَنُ وَأَجْمَلُ مِنَ الصَّبرِ، وَلمَّا كَانَ الإِنْسَانُ لاَ غِنَى لَهُ عَنِ الصَّبرِ وَلاَ بَدِيلَ؛ وَجَبَ أَنْ يَسلُكَ طَرِيقَهُ، وَيُحَاوِلَ بِشتَّى الوَسَائِلِ تَحقِيقَهُ، فَإِنْ تَعذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ تَظَاهَرَ بِالصَّبْرِ وَتَكلَّفَهُ؛ حتَّى يُصْبِحَ الصَّبرُ لَهُ عَادَةً وَمَنْهَجًا، وَحِينَئذٍ يَجِدُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضَيْقٍ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ يَتَصبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)). إِنَّ المُؤمِنَ الحَقَّ الرَّاضِيَ بِأَحكَامِ اللهِ؛ إِنْ حَدَثَ لَهُ مَا يَضُرُّهُ فِي بَدَنِهِ أَو أََهلِهِ، أَو وَلَدِهِ أَو مَالِهِ؛ لاَ يَتَصَرَّفُ تَصَرُّفًا يُؤدِّي إِلَى ضَعْـفِ إِيمَانِهِ وَضَياعِ أَعمَالِهِ، إِنَّهُ بِدَافعٍ مِنْ رَغْبَتِهِ فِي مَرضَاةِ رَبِّهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ يَلْجأُ إِلَى رَبِّهِ وَيَقْتَرِبُ، ويَرضَى بِقَضَائِهِ وَيَحتَسِبُ؛ فَيَجْنِي بِذَلِكَ خَيْرَ الدَّارَيْنِ وَسَعَادَةَ الحَيَاتَيْنِ، فَعَنْ أَبِي يَحيَى صُهَيْبِ بنِ سِنَانٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((عَجَبًا لأَمْرِ المُؤمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ)). إِنَّ سُنَنَ الكَوْنِ القَائِمَةَ، ونُظُمَهُ المُستَمِرَّةَ الدَّائِمَةَ؛ تُهِيْبُ بِالإِنْسَانِ وَتُنَادِيْهِ أَنْ تَدَرَّعْ بِالصَّبْرِ وَتَسلَّحْ؛ لِتَخْرُجَ مِنَ الأَزَمَاتِ وَالشَّدَائِدِ أَصلَبَ عُودًا، وَأَكْثَرَ تَفَوُّقًا وَصُعُودًا، فَالحَبَّةُ حِينَ تُوضَعُ فِي الأَرضِ لاَ تَنْبُتُ حِيْنَ وَضْعِهَا، وَحِيْنَ تَنْبُتُ لاَ تُعْطِي ثَمَرَها فِي الحَالِ، وَإِنْ أَعْطَتِ الثَّمَرَةَ أَعْطَتْهَا نِيْـئَةً غَيْرَ نَاضِجَةٍ، فَلاَ بُدَّ مِنَ الصَّبْرِ حَتَّى يَصِلَ وَقْتُ الحَصَادِ، وَحِينَئذٍ يَجْنِي الإِنْسَانُ ثِمَارَ جُهْدِهِ، وَنَتِيجَةَ تَعَبِهِ وَكَدِّهِ. أَيُّها المُسلِمُونَ : إِنَّ الإِيمَانَ بِاللهِ وَمَعْرِفَةَ طَبِيعَةِ الحَيَاةِ أَمْرَانِ ضَرُورِيَّانِ وَبَاعِثَانِ أَسَاسِيَّانِ عَلَى الصَّبرِ، فمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَانْصَاعَ لأَمْرِهِ، وَرَضِيَ بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، تَنْزِلُ بِهِ الشَّدَائِدُ وَتَمُرُّ بِهِ الصِّعَابُ؛ فَلاَ يَضْعُفُ وَلاَ يَخْنَعُ، وَلاَ يَسْخَطُ وَلاَ يَجْزَعُ، بلْ يَتَصَدَّى لَهَا بِمِقْدَارِ مَا يُخَفِّفُ البَلاَءَ أَو يَدفَعُهُ، ويُعْـلِي مَـكَانَ الصَّابِرِ عِنْدَ اللهِ وَيَرفَعُهُ، مِنْ تَضَرُّعٍ وَدُعَاءٍ، وَعَمَلٍ إِيجَابِىٍّ بَنَّاءٍ، وَحِينَئذٍ تَمُرُّ بِهِ الشَّدَائِدُ وَالأَزَمَاتُ كَمَا تَمُرُّ الرِّيحُ بِالسُّنبُلَةِ مِنَ النَّبَاتِ؛ تُمِيلُها مُدَّةً ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ نَمَاءٍ وَصُعُودٍ، وَهَذَا مَا عَنَاهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- بِقَولِهِ: ((مَثَلُ المُؤمِنِ كَمَثَلِ الخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ تُفَيِّئُها الرِّيْحُ، تَصْرِمُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حتَّى يَأْتِيَهُ أَجَـلُهُ))، وَمِمَّا يَبْعَثُ عَلَى الصَّبرِ وَيُعِينُ عَلَى تَحقِيقِهِ مَعْرِفَةُ طَبِيعَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً، فَمَنْ عَرَفَ طَبِيعَتَهَا تَقبَّـلَ مَا يَقَعُ لَهُ فِيهَا مِنْ مَكَارِهَ مَهْمَا تَرَادَفَتْ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ الصِّعَابُ مَهْمَا تَراكَمَتْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))(1)، إِنَّ تَغيُّرَ أَحْوَالِ الدُّنْيَا أَمْرٌ لاَزِمٌ، يَعْرِفُ ذَلِكَ كُلُّ عَاقِلٍ حَازِمٍ، وَحَيَاةُ الإِنْسَانِ طَالَتْ أَم قَصُرَتْ لاَ بُدَّ أَنْ يَتَعَرَّضَ فِيهَا لِمُتَغيِّرَاتٍ وَابتِلاَءَاتٍ وَاختِبَارَاتٍ، وَمِنْ هُنَا فَالمُؤمِنُ بِاللهِ، العَالِمُ بِطَبِيعَةِ الحَيَاةِ، تَتَّضِحُ أَمَامَهُ مَعَالِمُ الطَّرِيقِ، فَلاَ تُبْطِرُهُ سَعَةٌ وَلاَ يُسْخِطُهُ ضَيْقٌ، إِذَا أَمَدَّهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِنِعْمَةٍ شَكَرَ اللهَ الكَرِيمَ المَنَّانَ، وَرَدَّدَ مَا قَالَهُ نَبِيُّ اللهِ سُلَيْمَانُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: ((هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ))(2)، وَإِنْ أَحَاطَتْ بِالمُؤمِنِ المَتَاعِبُ، وَحَلَّتْ بِسَاحَتِهِ المَصَاعِبُ؛ تَذكَّرَ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِذَا أَحَبَّ اللهُ قَومًا ابتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، ومَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))، فَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ وَتَجَمَّـلَ بِالرِّضَا، وَعَرَفَ أَنَّ هَذَا مِنَ اللهِ ابِتَلاَءٌ؛ فَهَانَتْ عَلَيْهِ بَلْوَاهُ فِي مُقَابِلِ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ حُسْنِ الجَزَاءِ. أَيُّها المُؤمِنونَ : إِنَّ الصَّبرَ خَيْرُ زَادٍ وَخَيْرُ رَفِيقٍ، لاَ غِنَى عَنْهُ فِي بَيْتٍ أَو دَائِرةِ عَمَلٍ أَو طَرِيقٍ، فَهُوَ فِي البَيْتِ أَكْبَرُ عَوْنٍ للإِنْسَانِ عَلَى أَنْ يَعِيشَ بَيْنَ أَفْرَادِ أُسْرَتِهِ مُستَرِيحَ البَالِ سَعِيدَ الحَالِ، سَالِمًا مِنْ أَضْرَارِ الغَضَبِ وَالانْفِعَالِ، بِهِ تَستَقِرُّ الحَيَاةُ الزَّوجِيَّةُ وَالأُسْرِيَّةُ؛ فَلاَ تَتَعَرَّضُ الحَيَاةُ الزَّوجِيَّةُ لِمَا يَهُزُّ كِيَانَها وَيُزَعْزِعُ بُنْيَانَها، وَبِالصَّبْرِ يُصْـلِحُ الوَالِدَانِ شُؤونَ الأَولاَدِ مِنْ غَيْرِ شِدَّةٍ، وَقَسْوَةٍ وَحِدَّةٍ، وَبِالصَّبْرِ يَعِيشُ الإِنْسَانُ فِي مُجتَمَعِهِ مُحِبًّا مَحْبُوبًا، إِلْفًا مَأْلُوفًا، وَدُودًا عَطُوفًا، لاَ يُقَابِلُ الإِيذَاءَ بِالإِيذَاءِ، وَلاَ يُواجِهُ البَذَاءَ بِالبَذَاءِ، بَلْ يَتَحَمَّـلُ وَيَصْبِرُ؛ فَيُحِيلُ بِصَبْرِهِ وَتَحَمُّلِهِ العَدُوَّ اللَّدُودَ إِلَى صَدِيقٍ وَدُودٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ))(3)، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ:((وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ))(4)، وَلَقَدْ كَانَ المُشْرِكُونَ يَستَهْزِئُونَ بِمَا يُخْبِرُهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ سَخَطِ اللهِ وَعَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ - إِنِ استَمرُّوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ عِنَادٍ وَشِرْكٍ -، فَكَانَ القُرآنُ الكَرِيمُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِالصَّبْرِ الجَمَيلِ، كَمَا جَاءَ فِي مُحْـكَمِ التَّنْزِيلِ: ((فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلاً))(5)، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - يُؤْذَى؛ فَيَتَذكَّرُ أَخَاهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَيَذْكُرُ صَبْرَهُ فَيَقُولُ: ((رَحِمَ اللهُ أَخِي مُوسَى، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ)). فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واجعَلُوا الصَّبْرَ لَكُمْ شِعَارًا، وَتَجَمَّـلُوا بِهِ سِرًّا وَجِهَارًا، وَلَيْلاً وَنَهَارًا؛ تَنَالُوا مِنَ اللهِ رِفْعَةً وَعِزَّةً، وَمِنْ عِبَادِهِ احتِرَامًا وَوَقارًا. أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ. *** *** *** الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : اتَّقُوا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَاعلَمُوا أَنَّهُ لَولاَ الصَّبْرُ مَا أُقِيمَتْ طَاعَةٌ، وَمَا هُجِرَتْ مَعْصِيَةٌ، وَمَا تُحُمِّلَتْ مُصِيْبَةٌ، فَطَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَةٍ إِلَى صَبْرٍ دَائِمٍ، يَتَحلَّى بِهِ أُولُو النُّهَى وَالعَزَائِمِ، فَالصَّلاَةُ -وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ- قَرَنَها اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالصَّبْرِ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ))(6)، وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا))(7)، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ وَإِخْرَاجُ الصَّدَقَاتِ فِي حَاجَةٍ إِلَى صَبْرٍ؛ إِذِ الإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ مُحِبٌّ لِلْمَالِ حَرِيصٌ عَلَيْهِ، فَلَولاَ تَهْذِيبُ هَذَا الطَّبْعِ بِالصَّبْرِ مَا أََخْرَجَ زَكَاةً، وَمَا امتَدَّتْ يَدُهُ بِصَدَقَاتٍ، وَالحَجُّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ مَالِيَّةٌ تَتَطَلَّبُ مِنَ المُؤمِنِ تَحَمُّلاً، وَصَبْرًا وَتَجَمُّلاً، وَبِالصَّبْرِ يَتَغلَّبُ الإِنْسَانُ عَلَى الشَّيْطَانِ وَنَفْسِهِ الأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ وَهَوَاهُ، فَيَمتَنِعُ عَنِ المَعْصِيَةِ بِدَافِعٍ مِنْ إِيمَانِهِ وَتَقْوَاهُ، وَبِالصَّبْرِ لاَ يَدْهَشُ المُؤمِنُ لِلصِّعَابِ إِذَا لاَقْتُهُ، وَلاَ يَتَبَرَّمُ بِالآلاَمِ إِذَا مَسَّـتهُ، بَلْ هُوَ بإِيمَانِهِ الرَّاسِخِ وَقَلْبِهِ السَّلِيمِ يَتَقبَّـلُ كُلَّ ذَلِكَ بِصَبْرٍ وَتَسلِيمٍ، وَفِي آيَةٍ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ يَذْكُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَلوَانًا مِنَ الابتِلاَءَاتِ التِي قَلَّ أَنْ يَنْجُوَ مِنْهَا إِنْسَانٌ، ثُمَّ يَزُفُّ البُشْرَى لِمَنْ صَبَرَ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ))(8)، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مِنْ أَلوَانِ الابتِلاَءِ نَقْصَ الثِّمَارِ، وَفِي الغَالِبِ يَتْبَعُ ذَلِكَ غَلاءٌ فِي الأَسْعَارِ، وَالمُؤمِنُ يَتَلقَّى هَذَا الابتِلاَءَ بِالصَّبْرِ، فَلاَ يَتألَّمُ وَلاَ يَتَحَسَّرُ، بَلْ يَلْجَأُ إِلَى رَبِّهِ فَيَدْعُوهُ أَنَّ يُيَسِّرَ عَلَيْهِ مَا تَعَسَّرَ، وَفِي الأَثَرِ: ((مَا يَمْـنَعُ أَحَدَكُمْ إِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ أَمْرُ مَعِيشَتِهِ أَنْ يَقُولَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيتِهِ: بِسْمِ اللهِ عَلَى نَفْسِي وَمَالِي وَدِينِي، اللَّهُمَّ رَضِّنِي بِقَضَائِكَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا قُدِّرَ، حتَّى لاَ أُحِبَّ تَعْجِيلَ مَا أَخَّرْتَ، وَلاَ تَأْخِيرَ مَا عَجَّلْتَ))، فَبِالصَّبْرِ يَتَحلَّى الإِنْسَانُ بِالقَنَاعَةِ، فَلاَ يَتَطَلَّعُ إِلَى مَا عِنْدَ الآخَرِينَ، رَاضِيًا بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْهِ، وَلَو عَدَّها - وَمَا هُوَ بِمُستَطِيعٍ - لَوَجَدَها كَثَيِرَةً، فَجَمَعَ بِذَلِكَ بَيْنَ فَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((انظُروا إِلَى مَنْ هُوَ أَسفَلَ مِنْكُمْ، وَلاَ تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَلاَّ تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ))، وَمِنْ مَجَالاَتِ الصَّبْرِ المُهِمَّةِ: صَبْرُ الدَّائِنِ عَلَى المَدِينِ المُعْسِرِ، خُصُوصًا إِذَا تَسَبَّبَتْ فِي إِعْسَارِهِ ظُرُوفٌ خَارِجَةٌ عَنْ إِرَادَتِهِ، فَقَدْ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الإِعْسَارِ بِسَبَبِ حَرِيقٍ أَو إِعْصَارٍ أَو غَلاَءٍ لِلأَسْعَارِ؛ فَعَلَى الدَّائِنِ -وَحَالُ المَدِينِ هَكَذَا- أَنْ يَصْبِرَ عَلَيْهِ لِحِيْنِ مَيْسَرَةٍ؛ فَبِذَلِكَ يَنَالُ أَجْرَ الصَّابِرِينَ، وَيُمْـنَحُ ثَوابَ المُيَسِّرِينَ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ نَالَ كَذَلِكَ أَجْرَ المُتَصَدِّقِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:((وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ))(9). فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واصْبِرُوا صَبْرًا جَمِيلاً؛ تَنَالوا أَجْرًا جَزِيلاً، وَلْيُعِنِ الدَّائنُونَ مِنْ أَهْـلِ الثَّرَاءِ إخوانَهُمُ المُعْسِرِينَ الفُقُراءَ، فَلاَ يُطَالِبُوهُمْ بِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وَلْيَصْبِرُوا حتَّى يُفَرِّجَ اللهُ عَنْهُمْ. هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (10). اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ. اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ. عِبَادَ اللهِ : (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )). (1) سورة العنكبوت/ 2-3. (2) سورة النمل/ 40. (3) سورة فصلت/ 34. (4) سورة فصلت/ 35. (5) سورة المعارج/ 5. (6) سورة البقرة/ 153. (7) سورة طـه/ 132. (8) سورة البقرة/ 155. (9) سورة البقرة / 280. (10) سورة الأحزاب / 56 . |