خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

النـَّـقْدُ الـبَـنَّـاءُ طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
06/05/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 13 جمادى الأولى 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
النـَّـقْدُ الـبَـنَّـاءُ

   الْحَمْدُ للهِ المُتَفَرِّدِ بِالكَمَالِ، المُتَّصِفِ بِصِفَاتِ الجَلاَلِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ بِالنَّصِيحَةِ لِلْمُسلِمِينَ، وَشَرَعَ التَّوجِيهَ وَالإِرْشَادَ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وَنَبِيَّنا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَمَرَهُ رَبُّهُ بِالشُّورَى فَكَانَتْ نَهْجَهُ وَسَبِيلَهُ، وَفَطَرَهُ رَبُّهُ عَلَى التَّواضُعِ فَكَانَ يُنَاقِشُ وَيُحَاوِرُ، وَيَسْمَعُ مِنَ المُخَالِفِ الرَّأْيَ الآخَرَ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِمْ، وَاقتَفَى أَثَرَهُمْ فِي هَدْيِهِمْ وَنُصْحِهِمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

     أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّها المُؤْمِنُونَ :
   إِنَّ تَشْرِيعَاتِ الإِسْلاَمِ الفَاضِلَةَ، وَتَعالِيمَهُ المُتَكَامِلَةَ، تَهْدِفُ إِلَى تَكْوِينِ مُجتَمَعٍ مُتَمَاسِكٍ، يَقُومُ بُنْيَانُهُ عَلَى المَحَبَّةِ وَالتَّعَارُفِ، وَالصَّـفاءِ وَالتَّآلُفِ، مِنْ خِلاَلِ قِيَمٍ كَرِيمَةٍ، وَشِيَمٍ نَبِيلَةٍ، رَبَّى الإِسْلاَمُ الحَنِيفُ المُؤْمِنينَ عَلَيْهَا، وَأَدَّبَهُمْ بِهَا، تُشَيِّدُ بَيْنَهُمْ بُنْيَانَ الأُخُوَّةِ الصَّـادِقَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ))(1)، تِلْكَ الأُخُوَّةِ التِي تَدْفَعُ إِلَى النُّصْحِ لِكُلِّ الإِخْوَانِ، فَقَدَ ذَكَرَ المُصْـطَفَى -صلى الله عليه وسلم-  مِنْ حُقُوقِ المُؤْمِنِ عَلَى المُؤْمِنِ: ((وَإِذَا استَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ))، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-  : ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ وَلِكِتَابِهِ وِلرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّـتِهِمْ))، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-  فِي وَصِيَّـتِهِ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ: ((وَأَنْ تَنْصَحَ لِكُلِّ مُسلِمٍ))، إِنَّ العَيْنَ لاَ تَرَى نَفْسَها، وَلاَ تُبْصِـرُ وَجْهَها، إِلاَّ بِمِرْآةٍ تُظْهِـرُ مَا يَكُونُ قُبالتَها، وَكَذَا الإِنْسَانُ رُبَّمَا لاَ يَنْتَبِهُ لِبَعْضِ هَفَوَاتِهِ، أَو تَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ عُيُوبِهِ، فَيَحتَاجُ عِنْدَها إِلَى مَنْ يُبَصِّرُهُ بِهَا، وَيُنَبِّهُهُ عَلَيْهَا، وَهُنَا يَأْتِي دَوْرُ الأَخِ المُشْفِقِ وَالنَّاصِحِ المُخْلِصِ، الذِي هُوَ مِرآةٌ لأَخِيهِ، كَمَا يَقُولُ المُصْـطَفَى -صلى الله عليه وسلم-  : ((المُؤْمِنُ مِرآةُ المُؤْمِنِ))؛ حَيْثُ يَدْفَعُهُ إِيمَانُهُ أَنْ يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))، فَإِنْ رَأَى خَيْرًا شَجَّعَهُ وَحَثَّهُ، وَإِنْ رَأَى خَلَلاً أَو تَقْصِيرًا نَبَّهَهُ وَأَرشَدَهُ.
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِذَا كَانَ النُّصْـحُ وَالنَّقْدُ بِتِلْكَ المَكَانَةِ وَالمَنْزِلَةِ؛ فَمَا أَحْوَجَنا أَنْ نَتَبيَّنَ الطَّرِيقَ القَوِيمَ فِي نُصْحِنَا وَنَقْدِنَا لِلآخَرِينَ، حتَّى نَعُودَ مِنْهُ بِالنَّفْعِ العَمِيمِ، ذَلِكَ أَنَّ لِلنَّقْدِ البَنَّاءِ أَهْدَافًا وَمَقَاصِدَ، وَأَسَالِيبَ وَضَوَابِطَ، تُمَيِّـزُهُ عَنِ النَّقْدِ الهَدَّامِ، فَالنَّقْدُ البَنَّاءُ يَقُومُ عَلَى الإِخْلاَصِ للهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ، وَابتِغَاءِ الخَيْرِ لِلإِخْوَانِ، وَالسَّعْيِ لإِصْلاَحِ حَالِهِمْ، وَالارتِقَاءِ بِهِمْ نَحْوَ الأَفْضَلِ، أَمَّا إِذَا تَكَدَّرَتِ النِّيَّةُ، وَخَبُثَتِ الطَّوِيَّةُ، وَكَانَ النَّقْدُ بِهَدَفِ التَّنْقِيصِ وَالتَّشْهِيرِ، أَوِ الاستِهْزَاءِ وَالتَّعْيِيرِ، كَانَ فَضْحًا لاَ نُصْحًا، يَبْنِي صَاحِبُهُ قَصْرًا وَيَهْدِمُ مِصْرًا، وَلَرُبَّمَا دَمَّرَ وَلَمْ يُعَمِّرْ، وَكَانَ إِلَى التَّخْرِيبِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى الإِصْلاَحِ، وَهُوَ سَبِيلُ المُغْرِضِينَ، وَدَيْدَنُ الشَّامِتِينَ، وَفِي الأَثَرِ: ((لاَ تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ؛ فَيُعَافِيَهُ اللهُ وَيبْتَلِيكَ))، إِنَّ العَلاَقَةَ بَيْنَ المُؤْمِنينَ قَائِمَةٌ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ))(2)، وَهَذا خُلُقٌ سَامٍ، وَأَدَبٌ إِسْلاَمِيٌّ رَفِيعٌ، يَمْنَعُ المُؤْمِنَ مِنَ التَّجَسُّسِ وَتَتَبُّعِ العَوْرَاتِ، أََو تَصَيُّدِ الهَفَواتِ وَالعَثَراتِ، أَو تَصْدِيقِ مَا قَدْ يُنْشَرُ فِي أَخِيهِ مِنْ شَائِعَاتٍ، فَيَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنْ أَنْ يَرتَجِلَ الأَحكَامَ فِي حَقِّهِ، أَو يُلْقِي التُّهَمَ عَلَيْهِ، بَلْ يَتَعامَلُ مَعَهُ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، وَيَتْرُكُ لِلْخَالِقِ مَا خَفِيَ مِنَ السَّرائِرِ، فَهُوَ أَعْـلَمُ بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ، كَمَا أَنَّ شَهَامَةَ المُؤْمِنِ وَأَخْلاَقَهُ الإِسْلاَمِيَّةَ، تَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَعْمِدَ إِلَى غِيبَتِهِ، فَقَدْ نَفَّرَ الهَدْيُ القُرآنِيُّ الخَالِدُ عَنْ هَذَا الخُلُقِ أَيَّمَا تَنْفِيرٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (( وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ))(3)، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَنْتَقِصُهُ فِي المَجَامِعِ وَالمَحَافِلِ، بَلْ يَتَّخِذُ الكِتْمَانَ مَسْلَكًا، وَالنَّقْدَ فِي السِّـرِّ طَرِيقًا وَمَنْهَجًا، فَالنَّقْدُ فِي السِّـرِّ مَوَدَّةٌ وَنُصْحٌ، وَفِي العَلَنِ تَشْهِيرٌ وَفَضْحٌ، يَقُولُ بَعْضُ العُلَمَاءِ: "مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَ لَهُ وَزَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ".
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ النَّقْدَ البَنَّاءَ يُقْصَدُ مِنْهُ تَقْوِيمُ السُّلُوكِ، وَإِصْلاَحُ مَا وُجِدَ مِنَ الخَلَلِ، وَلِذَا فَهُوَ يُعْنَى بِالعَمَلِ وَلَيْسَ بِالأَشْخَاصِ، وَلِذَا كَانَ احتِرَامُ ذَاتِ الإِنْسَانِ أَسَاسَ النَّقْدِ، وَكَانَ مِنْ أَسَالِيبِهِ النَّاجِحَةِ استِعْمَالُ الخِطَابِ الرَّاقِي، بِالأَسْمَاءِ المَرْغُوبِ فِيهَا، وَالكُنَى المُحَبَّبِ إِلَيْهَا، تَأَمَّلُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ – نَبِيَّـكُمْ - عَلَيْهِ أَزْكَى صَلاَةٍ وَتَسلِيمٍ - حِينَ وَجَدَ أَحَدَ أَصْحَابِهِ يَضْرِبُ عَبْدًا لَهُ فَقَالَ لَهُ: ((اعلَمْ يَا أَبَا مَسْعُودٍ، اعلَمْ يَا أَبَا مَسْعُودٍ، أَنَّ اللهَ أَقْدَرُ عَلَيْـكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلاَمِ))، فَيَا أَخِي المُسلِمَ: إِنْ قَامَ أَخُوكَ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، فَعَلَيْـكَ أَلاَّ تَنْتَقِصَ شَخْصَهُ، وَلاَ تَتَعَرَّضَ لِذَاتِهِ، وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ لَهُ نَاصِحًا فِي تَواضُعٍ جَمٍّ، غَيْرَ مُحتَقِرٍ لَهُ أَو مُتَكبِّرٍ عَلَيْهِ، وَيَكْفِيكَ زَاجِرًا عَنْ ذَلِكَ قَولُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((بِحَسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّـرِّ أَنْ يَحْـقِرَ أَخَاهُ المُسلِمَ))، وَلْتَبْدَأْ بِالمَحَاسِنِ وَالإِيجَابِيَّاتِ، مُؤَخِّرًا فِي حَدِيثِكَ النَّواقِصَ وَالسَّـلْبِيَّاتِ، أَلاَ تَرَى كَيْـفَ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  يُرشِدُ أَصْحَابَهُ إِذَا أَخْطَأوا، وَكَيْـفَ أَشَادَ بِالنِّيَّةِ الحَسَنَةِ لِلْرَّجُلِ الذِي سَابَقَهُ فِي الصَّلاَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ لَهُ مُجَانَبَةَ سُلُوكِهِ لِلصَّـوابِ، فَقَالَ لَهُ: ((زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ))، وَلاَ بُدَّ مِنَ الاستِمَاعِ لِحُجَجِ الطَّرَفِ الآخَرِ وَمُسَوِّغَاتِهِ، فَلَرُبَّما لَمْ يَتَّضِحْ لَكَ بَعْضُ الأَمْرِ، أَوِ استَعْجَلْتَ فِي الحُكْمِ، فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  يَستَمِعُ لِلْمُنَافِقِينَ وَحُجَجِهِمْ، وَهُوَ يَعْـلَمُ كَذِبَهُمْ وَتَزْوِيرَهُمْ، أَفَلاَ نَستَمِعُ لإِخْوَانِنَا قَبْـلَ أَنْ نَحْـكُمَ عَلَيْهِمْ؟                                          
   عِبَادَ اللهِ :                                     
   إِنَّ النَّقْدَ البَنَّاءَ يَقُومُ عَلَى الأَسَالِيبِ الإِرْشَادِيَّةِ الرَّاقِيَةِ، التِي تَتَّخِذُ الرِّفْقَ سَبِيلاً وَمَنْهَجًا، كَمَا كَانَ المُعَلِّمُ الأَوَّلُ -صلى الله عليه وسلم-  الذِي امتَدَحَ اللهَ رِفْقَهُ وَلِينَهُ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَاكَ مِنْ أَسبَابِ نَجَاحِهِ، وَتَقَبُّـلِ النَّاسِ لِشَخْصِهِ وَدَعْوَتِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ))(4)، فَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - إِذَا أَرَادَ النَّقْدَ عَلَّمَ وَأَرشَدَ، وَكَانَ بِمَنأًى عَنِ التَّجْرِيحِ وَالتَّعْنِيفِ، وَتَعلَمُونَ قِصَّةَ الرَّجُلِ الذِي تَكلَّمَ فِي الصَّلاَةِ، فَرَمَقَهُ النَّاسُ بِأَبْصَارِهِمْ، وَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  بِكُلِّ رِفْقٍ وَلِينٍ: ((إِنَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ لاَ يَصْـلُحُ فِيهَا شَيءٌ مِنْ كَلاَمِ الآدَمِيِّينَ))، وَلَيْسَتْ قِصَّةُ الأَعرَابِيِّ عَنْكُمْ بِبَعِيدَةٍ، ذَاكَ الذِي بَالَ فِي المَسْجِدِ، فَمَا لَقِيَ مِنْ صَاحِبِ القَلْبِ العَظِيمِ -صلى الله عليه وسلم-  إِلاَّ جَمِيلَ الرِّفْقِ وَلِينَ الأُسلُوبِ. إِنَّ النَّاقِدَ الحَكِيمَ هُوَ مَنْ يُوَضِّحُ المَطْـلُوبَ، وَيُبَيِّنُ المَقْصُودَ، فَهُوَ يَنْقُدُ لاَ لِذَاتِ النَّقْدِ، فَلاَ يَشْغَلُهُ التَّفْصِيلُ فِي السَّـلْبِيَّاتِ عَنْ سُبُلِ عِلاَجِهَا، وَبَيانِ دَائِهَا وَدَوَائِهَا، بَلْ يَضَعُ الحُلُولَ التِي يَأْمُلُ مِنْهَا إِصْلاَحَ الخَلَلِ، وَالاقتِرَاحَاتِ التِي يَرْجُو فِيهَا إِصْلاَحَ العَمَلِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَلْيَكُنْ هَدَفُكُمْ مِنَ النَّقْدِ الخَيْرَ وَالإِصْلاَحَ، واعلَمُوا أَنَّ النَّقْدَ هَدِيَّةٌ؛ فَأَحْسِنُوا اختِيَارَهَا وَتَقْدِيمَهَا.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                         *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   كُلُّنَا بَشَرٌ نُصِيبُ وَنُخْطِئُ، وَنُسِيءُ ونُحْسِنُ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ هُوَ مُنَزَّهٌ مَعْصُومٌ، وَالعَاقِلُ مِنَّا مَنْ وَعَى هَذِهِ الحَقِيقَةَ، فَأَدْرَكَ أَنَّ نُصْحَ الإِخْوَانِ لَهُ حَاجَةٌ دَائِمَةٌ وَمَطْلَبٌ مُستَمِرٌّ، فَإِذا كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  يُشَاوِرُ أَصْحَابَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَيأْخُذُ بِآرَائِهِمْ فِي التَّخْطِيطِ وَالتَّدْبِيرِ، وَيَستَمِعُ لِنَقْدِهِمْ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ؟ فَهَا هُوَ -صلى الله عليه وسلم-  يَستَمِعُ لِلْحُبَابِ بنِ المُنْذِرِ وَيَأْخُذُ بِرَأْيِهِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ فَحِينَ نَزَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  فِي مَوْضِعٍ قَالَ لَهُ الحُبَابُ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ، وَلاَ نَقْصُرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالحَرْبُ وَالمَكِيدَةُ)) فَقَالَ الحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ القُلُبَ -أَي الآبَارَ- كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيْبٍ بِهَا إِلاَّ قَلِيْبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احفِرْ عَلَيْهِ حَوضًا، فَنُقَاتِلُ القَوْمَ وَنَشْرَبُ وَلاَ يَشْرَبُونَ، حتَّى يَحْـكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَبيْنَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ))، فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَهَذا مِثَالٌ وَاحِدٌ مِنْ سِيرَةِ الرَّسُولِ الأَعْظَمِ -صلى الله عليه وسلم-  مَعَ أَصْحَابِهِ، يُبَيِّنُ لَنَا كَيْفَ كَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ ذَلِكَ المُجتَمَعِ يُدْلِي بِرَأْيِهِ حَتَّى فِي أَخْطَرِ القَضَايَا، فَيَكُونُ لِلنَّقْدِ البَنَّاءِ وَزْنُهُ وَثِقَلُهُ، وَيُؤْتِي ثِمَارَهُ وَنَتائِجَهُ الطَّيِّبَةَ.
   أَيُّها المُسلِمُونَ :
   إِنَّ العَاقِلَ البَصِيرَ يَستَمِعُ فِي تَعَقُّلٍ، وَيُحَاوِرُ فِي تَواضُعٍ وَتَجَمُّلٍ، وَيَزِنُ مَا يُوَجَّهُ لَهُ مِنْ نَقْدٍ مِنْ غَيْرِ إِصْرارٍ وَمُكَابَرَةٍ، فَإِنْ وَجَدَ الصَّـوابَ لَزِمَهُ، وَمتَى مَا رَأَى الحَقَّ تَمَسَّـكَ بِهِ وَالتَزَمَهُ، لاَ يَجِدُ فِي ذَلِكَ حَرَجًا وَلاَ غَضَاضَةً، مُوقِنًا أَنَّ فِي نَقْدِ الإِخْوَانِ لَهُ، مَصْـلَحةً وَفَائِدَةً، وَأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ لَهُ الخَيْرَ، وَيُحِبُّونَ لَهُ مَا يُحِبُّونَ لأَنْفُسِهِمْ، حتَّى لَوْ كَانَ النَّاقِدُ خَصْمًا وَعَدُوًّا، أَو يُظَنُّ فِيهِ النِّيَّةُ السَّيِّئَةُ، فَالمُؤْمِنُ لاَ يَتَّهِمُ النِّيَّاتِ، وَلاَ يَبْحَثُ فِي الخَبَايَا وَالطَّوَايَا، إِنَّمَا الخَيْرُ مَطْـلَبُهُ، وَالحِكْمَةُ ضَالَّتُهُ، فَفِي الأَثَرِ: ((الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، أَنَّى وَجَدَها فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا))، وَلْيَكُنْ لِلْغَيْظِ كَاظِمًا، وَعَمَّنْ أَسَاءَ القَصْـدَ أَوِ الأُسلُوبَ عَفُوًّا صَافِحًا، لِيَكُونَ مِنَ المُحسِنِينَ الذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))(5)، وَلْيَعلَمْ أَنَّ الحَسَدَ يَأْكُلُ صَاحِبَهُ، وَالأَحْـقَادَ لأَهلِهَا قَاتِلَةٌ، فَلْيَأخُذْ مَا يُهِمُّهُ، وَلْيَطْرَحْ جَانِبًا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَتَقبَّـلُوا النَّقْدَ البَنَّاءَ بِصَدْرٍ رَحْبٍ، بَلِ اطلُبُوهُ مِنْ إِخْوَانِكُمْ وَأَصْحَابِكُمْ، فَإِنَّ فِيهِ الخَيْرَ، وَالمُؤْمِنُونَ يُكَمِّلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (6).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.                                    
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.                                    
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ))
(1) سورة الحجرات/ 10.
(2) سورة الحجرات/ 12.
(3) سورة الحجرات/ 12.
(4) سورة آل عمران/ 159.
(5) سورة آل عمران/ 134.
(6) سورة الأحزاب / 56 .

 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.