خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

الـتَّر بيةُ الإِيجَابـيَّةُ طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
16/05/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 27 جمادى الأولى 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الـتَّر بيةُ الإِيجَابـيَّةُ

    الحَمْدُ للهِ وَاهِبِ النِّعَمِ، وَبَارِئِ النَّسَمِ، نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَنُثْنِي عَلَيْهِ، وَنُؤْمِنُ بِهِ وَنَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، وَنَستَغْفِرُهُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، شَرَعَ لَنَا تَرْبِيَةَ الأَولاَدِ عَلَى الخُلُقِ وَالدِّينِ، وَجَعَلَ فِي صَلاَحِهِمْ رَاحَةَ البَالِ وَقُرَّةَ العَيْنِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، المُعلِّمُ الأَوَّلُ وَالمُرَبِّي الأَكْمَلُ، صَـلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اقتَفَى أَثَرَهُ وَتَرَسَّمَ خُطَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

     أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ :
    الأَبْنَاءُ أَمانَةٌ عَظِيمَةٌ، ومِنَّة امتَنَّ اللهُ بِهَا عَلَيْنَا فَقَالَ: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً))(1)، وَبِعَظِيمِ مَكَانَتِهَا وَحَجْمِ العَلاَقَةِ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ أَقْسَمَ فَقَالَ: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ))(2)، ثُمَّ أَشَارَ سُبْحَانَهُ أَنَّ تَرْبِيَتَهُمْ وَالعِنَايَةَ بِهِمْ مِنْ أَجَلِّ صُعُوبَاتِ الحَيَاةِ فَقَالَ: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ))(3)، فَالتَّربِيَةُ كَأَيِّ مَطْلَبٍ عَظِيمٍ، لاَ يُوْصَلُ لِزَهْرِهِ إِلاَّ بِتَحَمُّـلِ الشَّوْكِ، وَلاَ يُقْطَفُ ثَمَرُهُ مِنْ غَيْرِ جِدٍّ وَنَصَبٍ، وَلاَ يَتَحقَّقُ مِنْهَا المُبتَغَى إِلاَّ بِالحِكْمَةِ وَحُسْنِ السِّيَاسَةِ، لِذَا كَانَ حَرِيًّا بِالمُرَبِّي الحَصِيفِ اتِّخَاذُ الإِيجَابِيَّةِ مَنْهَجَهُ فِي التَّرْبِيَةِ، وَدَلِيلَهُ فِي دَرْبِ التَّنْشِئَةِ، مُنْطَلِقًا مِنْ رَبْطِ الطِّفْلِ بِمُوْجِدِهِ، وَتَقْوِيَةِ عَلاَقَتِهِ بِخَالِقِهِ، حَيْثُ المَنْبَعُ الفَيَّاضُ لِلْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَالمَعِينُ العَذْبُ لِلاستِقْرَارِ النَّفْسِيِّ، وَالاتِّزِانِ العَاطِفيِّ وَالوِجْدَانِيِّ، فَخَالِقُ الإِنْسَانِ أَدْرَى بِمَصْـلَحَتِهِ، وَأَعْـلَمُ بِمَنْفَعَتِهِ، انْظُرُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - كَيْفَ أَوْلَى المَنْهَجُ النَّبَوِيُّ هَذَا الجَانِبَ عِنَايَتَهُ، وَكَيْـفَ وَجَّهَ -صلى الله عليه وسلم-  ابنَ عَمِّهِ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ قَائِلاً: ((يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعلِّمِكَ كَلِمَاتٍ: احْـفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْـفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا استَعَنْتَ فَاستَعِنْ بِاللهِ))، هَذَا المَنْهَجُ النَّبَوِيُّ القَوِيمُ يَأْمُرُنَا أَنْ نُعلِّمَ الطِّفْلَ الصَّلاَةَ وَهُوَ ابنُ سَبْعِ سِنِينَ، فَيَلْتجِئُ بِهَا إِلَى رُكْنٍ رَكِينٍ، وَيَأْوِي بِهَا إِلَى حِصْنٍ حَصِينٍ، وَيستَمِدُّ مِنْهَا مَعَانِيَ إِيجَابِيَّةً، وَثَمَراتٍ رُوْحَانِيَّةً، يَعِيشُ مَعَ نَفَحَاتِهَا مَدَى الحَيَاةِ، مُتَمثِّـلَةً فِي الصِّـلَةِ القَوِيَّةِ بِاللهِ، وَالارتِباطِ الوَثِيقِ بِخَالِقِهِ وَمَوْلاَهُ، وَهُوَ يُرَدِّدُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ رَكَعَاتِهَا: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))(4)، فَينْشَأُ بِاللهِ وَاثِقًا، وَيُوقِنُ أَنَّ لَهُ حَافِظًا وَرَازِقًا، فَتَمْلأُ الطُّمَأْنِينَةُ قَلْبَهُ، وَتَغْشَى السَّكِينَةُ وِجْدَانَهُ. إِنَّ قَلْبَ الطِّفْلِ إِذَا تَرَبَّى عَلَى عَلاَقَةٍ وَثِيقَةٍ بِالخَالِقِ العَظِيمِ، نَشَأَ عَلَى العِزَّةِ وَالكَرَامَةِ، لاَ يَقْبَلُ الذُّلَّ وَالمَهَانَةَ، وَلاَ يَرْضَى بِالصَّغَارِ وَالاستِكَانَةِ، حَيْثُ الارتِبَاطُ بِمَصْدَرِ القُوَّةِ وَمَنْبَعِ العِزَّةِ: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا))(5)، تِلْكَ العِزَّةُ التِي حَـلَّى اللهُ بِهَا عِبَادَهُ المُتَّقِينَ فَقَالَ: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ))(6)، إِنَّكَ حِينَ تُحْسِنُ رَبْطَ الطِّفْلِ بِخَالِقِهِ إِنَّمَا تُرَبِّي وِجْدَانَهُ عَلَى المَيْـلِ إلى مَعالي الأُمُورِ، وَتُبْعِدُهُ عَنِ السَّـفَاسِفِ وَالتَّفَاهَاتِ، وَهَذَا لاَ يَتَحقَّقُ إِلاَّ بِتَعْوِيدِ الطِّفْلِ الأَذْكَارَ الثَّابِتَةَ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  ، وَتَعْوِيدِهِ أَدَاءَ مَا افْتَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ تَكُونَ لأَوِامِرِ اللهِ قِيمَْتُها فِي المُحِيطِ الأُسْرِيِّ، بِالقُدْوَةِ وَالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ.                                                                   
    أيُّهَا المُسلِمُونَ :                                                                 
    إِنَّ مِنْ أَركَانِ التَّربِيَةِ الإِيجَابِيَّةِ تَنْشِئَةَ الطِّفْلِ عَلَى الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ، وَالإِيمَانِ بِقُدُرَاتِهِ وَمَواهِبِهِ، وَعَدَمِ الانْتِقَاصِ مِنْ قَدْرِهِ وَقِيمَتِهِ، أَو إِهَانَتِهِ وَالسُّخْرِيَةِ مِنْهُ، فَطُوبَى لِمَنْ وَعَى النَّهْجَ النَّبَوِيَّ الخَالِدَ، القَائِمَ عَلَى إِعْطَاءِ جَمِيعِ النَّاسِ قِيمَتَهُمْ، صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، فَعَنْ سَهْـلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: ((أُتِيَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلامٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ، وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ؛ فَقَالَ: يَا غُلامُ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَهُ الأشْيَاخَ؟ فقَالَ: مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِي مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ))، إِنَّ الطِّفْلَ لاَ يَشْعُرُ بِالثِّقَةِ بِنَفْسِهِ إِلاَّ عِنْدَمَا يُحِسُّ أَنَّهُ مَحَلُّ ثِقَةٍ مِنْ وَالِدَيْهِ، يَمْـتَدِحَانِ مَا أَحْسَنَ فِيهِ، ويُصَحِّحَانِ مَا جَانَبَ فِيهِ الصَّوابَ، ويُشَجِّعَانِهِ عَلَى اجتِيَازِ الصِّعَابِ، يُستَشَارُ فِيمَا يَعْـقِلُ مِنَ الشُّؤونِ الأُسْرِيَّةِ، ويُستَأْمَنُ فِيمَا يَستَطِيعُ حَمْـلَهُ مِنَ الأَسْرَارِ العَائِلِيَّةِ، فَهَذَا الصَّحَابِيُّ الجَلِيلُ أَنَسُ بنُ مَالِكٍ يَفْخَرُ الفَخْرَ الحَسَنَ حِينَ كَانَ مَحَلَّ ثِقَةِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  وَمَوْضِعَ سِرِّهِ وَهُوَ صَبِيٌّ صَغِيرٌ، وَكَانَ مَحَلَّ تَشْجِيعٍ مِنْ وَالِدَتِهِ، فَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: ((أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-  وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ؛ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَت: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-  لِحَاجَةٍ؛ قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَحَدًا))، إِنَّ تَوكِيلَ الطِّفْلِ بَعْضَ المُهِمَّاتِ، تُشْعِرُهُ أَنَّهُ أَهْـلٌ لِتَحَمُّـلِ المَسؤُولِيَّاتِ، قَادِرٌ عَلَى اجتِيَازِ الصُّعُوبَاتِ، وَتَعْوِيدُهُ الاستِقْلاَلِيَّةَ بِالتَّدْرِيجِ فِي النَّواحِي المَالِيَّةِ وَالحَيَوِيَّةِ، يَرفَعُ مِنَ المَعَانِي الإِيجَابِيَّةِ فِي نَفْسِهِ، وَيَزِيدُ مِنْ إِيمَانِهِ بِذَاتِهِ، كَمَا أَنَّ تَدْرِيبَ الطِّفْلِ وَالصَّبِيِّ عَلَى المُشَارَكَةِ الاجتِمَاعِيَّةِ، وَحُضُورِ مَجَالِسِ الكِبَارِ، وَالجُلُوسِ إِلَى الضُّيُوفِ وَالزَّائِرِينَ يَرفَعُ ثِقَتَهُ بِنَفْسِهِ، وَيُرَبِّيهِ عَلَى مَعَانِي الرُّجُولَةِ، فَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-  إذا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ)).
    عِبَادَ اللهِ :
    لَقَدْ وَصَفَ اللهُ طَبْعَ الإِنْسَانِ بِالجَزَعِ وَالهَلَعِ، فَقَالَ تَعَالَى: ((إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلاَّ الْمُصَلِّينَ))(7)، فَالإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ إِلَى الجَزَعِ يَمِيلُ، وَلَرُبَّمَا غَشِيَهُ الإِحبَاطُ أَوْ خَامَرَهُ اليَأْسُ وَالقُنُوطُ، وَلاَسِيَّما إِذَا عَضَّهُ الدَّهْرُ، أَو أَرْهَقَتْهُ الحَيَاةُ بِمَصَاعِبِها، أَوْ أَرَّقَتْهُ بِهُمُومِهَا وَمُشْكِلاَتِهَا، لِذَا كَانَ مِنْ جَمَالِ التَّربِيَةِ تَزْيِينُ جَوَانِبِ النَّفْسِ بِالتَّفاؤُلِ، وَمَلْءُ أَركَانِهَا بِالطُّمُوحِ وَحُسْنِ الأَمَلِ، هَكَذا رَبَّانا القُرآنُ: ((فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا))(8)، ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا))(9)، ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا))(10)، فَعَلَى هَذَا المَعْنَى الإِيجَابِيِّ الرَّائِعِ، يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نُرَبِّيَ بَرَاعِمَنا، وَنُنشِّئَ فِلْذَاتِ أَكبَادِنَا، حتَّى إِذَا اشتَدَّ عُودُهُمْ، واستَقبَلَتْهُمُ المَصَاعِبُ وَالمَسؤولِيَّاتُ، وَلاَقَوُا التَّعَبَ وَالتَّبِعَاتِ، كَانُوا لَهَا مُستَعِدِّينَ، وَبِالتَّفاؤُلِ وَالمُثَابَرَةِ لَهَا مُواجِهِينَ، وَعِنْدَها لاَ مَوْطِنَ لِلْيَأْسِ فِي عُقُولِهِمْ، وَلاَ مَطْمَعَ لِلإِحبَاطِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، لَقَدْ عَاشَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  مُتَفَائِلاً رَاجِيًا تَوفِيقَ رَبِّهِ عَلَى الدَّوَامِ، فَكَانَ الإِقْدَامُ خُلُقَهُ وَمَنْهَجَهُ، وَرَبَّى عَلَى ذَلِكَ أَتْبَاعَهُ وَصَحْبَهُ، فَكَانُوا لِلأَرْضِ أَنْوارًا، ولِلْمَعَانِي السَّامِيَةِ أَدِلَّةً وَمَنَارًا.
  أَيُّهَا المُؤمِنونَ :
  إِنَّ التَّربِيَةَ الإِيجَابِيَّةَ تَقُومُ عَلَى الجِدِّ وَالعَمَلِ، وَتَنْأَى بِالنَّاشِئِ عَنِ الخُمُولِ وَالكَسَلِ، وَحَسْبُنا أَوَّلُ تَهْيِئَةٍ لِلْمُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم-  لِحَمْلِ الرِّسَالَةِ الخَالِدَةِ، فَبَعْدَ أَوَّلِ لِقَاءٍ بِجِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ: (( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً))(11)، فَهَكَذا هِيَ الحَيَاةُ بِمُهِمَّاتِهَا العِظَامِ، تَتَطلَّعُ إِلَى شَبَابٍ تَرَبَّوا مُنْذُ طُفُولَتِهِمْ عَلَى الجِدِّ وَالعَزِيمَةِ، فِي وَسَطِيَّةٍ واعتِدَالٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضِيعَ حَقُّ طُفُولَتِهِمْ فِي اللَّعِبِ وَالمَرَحِ، فَالطِّفْلُ إِذَا اعتَادَتْ نَفْسُهُ الكَسَلَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ لِمَعالِي الأُمُورِ مَنْشَطٌ، وَصَارَ فِي شُؤُونِهِ عَلَى الآخَرِينَ مُتَّكِلاً، وَعَنْ تَحقِيقِ آمَالِهِ مُتَراخِيًا وَمُتَقاعِسًا، وَغَلَبَ عَلَيْهِ الإِهْمَالُ، وَتَطَبَّعَ بِالسَّأَمِ وَالمَلَلِ، إِنَّ المُرَبِّيَ النَّاجِحَ هُوَ الذِي يَحْرِصُ عَلَى تَنْشِئَةِ أَولاَدِهِ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّحَمُّـلِ، فَهُوَ بِهَذا يُعِدُّهُمُ الإِعْدَادَ الحَقِيقِيَّ لِلْمُستَقْبَلِ، فَبِالصَّبْرِ تُدْرَكُ الطَّاعَاتُ، وتُجتَنَبُ المُوبِقَاتُ، وَتَتحقَّقُ الآمَالُ وَالطُّمُوحَاتُ، وَتُواجَهُ المِحَنُ وَالصُّعُوبَاتُ، وَتُجَابَهُ العَوَائِقُ وَالعَقَبَاتُ، وَلِذَا أَوْلاَهُ القُرآنُ الكَرِيمُ العِنَايَةَ البَالِغَةَ فَذَكَرَهُ بِمُشتَقَّاتِهِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ مَوْضِعٍ، وَهَكَذا أَدْرَكَ الأَنْبِياءُ وَالصَّالِحُونَ أَهَمِّـيَّةَ التَّربِيَةِ عَلَى الصَّبْرِ؛ فَحَرَصُوا عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِيَّاتِ وَصَايَاهُمْ وَنَصَائِحِهِمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ لُقْمَانَ وَهُوَ يُوْصِي ابْنَهُ: ((وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ))(12).
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واحْرِصُوا عَلَى غَرْسِ المَعَانِي الإِيجَابِيَّةِ فِي قُلُوبِ أَبْنَائِكُمْ، اشْحَذُوا هِمَمَهُمْ، وَقَوُّوا عَزَائِمَهُمْ، واشْمَلُوهُمْ بِالمَوَدَّةِ وَالإِحْسَانِ؛ تَنَالُوا أَجْرَ الكَرِيمِ المَنَّانِ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                         *** *** ***
  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
  إِنَّ مِنْ مُرتَكَزَاتِ التَّربِيَةِ الإِيجَابِيَّةِ تَنْشِئَةَ الأَبْنَاءِ عَلَى الأَخْلاَقِ الرَّفِيعَةِ، وَيَأْتِي فِي مُقَدِّمَتِها الصِّدْقُ وَالأَمَانَةُ، فَهُمَا شِعَارُ المُؤْمِنِ وَحِلْيَتُهُ، فَلَيْسَ مِنْ طَبْعِهِ كَذِبٌ أَوْ خِيَانَةٌ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((يُطْبَعُ المُؤْمِنُ عَلَى الخِلاَلِ كُلِّهَا لَيْسَ الخِيَانَةَ وَالكَذِبَ))، لأَنَّهُمَا مِنْ بِضَاعَةِ المُنَافِقِينَ كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ((آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ))، وَبِالصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ عُرِفَ المُصطَفَى -صلى الله عليه وسلم-  فَكَانَ يُلَقَّبُ بِالصَّادِقِ الأَمِينِ، وَأَنْتَ أَيُّهَا المُرَبِّي الكَرِيمُ حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَتَشَبَّهَ ابْنُكَ بِسِمَاتِ المُؤْمِنِينَ، وَيَتَطَبَّعَ بِطِبَاعِ الصَّالِحِينَ، فَلْيَكُنِ الصِّدْقُ وَالوُضُوحُ شِعَارًا فِي أُسْرَتِكَ، وَمَنْهَجًا عَمَلِيًّا فِي تَعَامُلِهَا، وَفِي تَعَاطِيهَا لِلْقَضَايَا وَالشُّؤونِ، حَتَّى يَنْشَأَ الأَطْفَالُ مُنْذُ نُعُوَمَةِ أَظْفَارِهِمْ وقُلوبُهُم تَمْـقُتُ الكَذِبَ وَالخِيَانَةَ، إِنَّ الطِّفْلَ إِذَا نَشَأَ عَلَى الصِّدْقِ وَالوُضُوحِ، لَمْ يُخْفِ عَنْكَ شُؤونَهُ وَأَحْوَالَهُ، فَكَانَ مِنَ السَّهْـلِ عَلَيْـكَ مَعْرِفَةُ أَوْضَاعِهِ المَدْرَسِيَّةِ وَالاجتِمَاعِيَّةِ مِنْ كَثَبٍ، كَمَا أَنَّ فَضِيلَةَ الصِّدْقِ وَالأَمَانَةِ فِي نَفْسِهِ تَأْبَى عَلَيْهِ أَنْ يَغُشَّ فِي امتِحَانٍ، أَو يُزَوِّرَ فِي شَهَادَةٍ، أَو يُحَاوِلَ الصُّعُودَ إِلَى المَجْدِ عَلَى أَكْتَافِ الآخَرِينَ.
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَأَوْلُوا الصِّـدْقَ والأَمَانَةَ اهتِمَامَكُمُ التَّربَوِيَّ، فَهُمَا مِنْ أَهَمِّ الدَّعَائِمِ الخُلُقِيَّةِ لِلتَّربِيَةِ الإِيجَابِيَّةِ الجَادَّةِ، وَلْيَحْذَرْ أَبْنَاؤُنَا الغِشَّ وَالتَّزْوِيرَ؛ فَإِنَّهُمَا خِيَانَةٌ، وَبِئْسَ البِطَانَةُ هُما. 
  هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا))(13).
  اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.                                        
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
  اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
  رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
  عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة النحل/ 72.
(2) سورة البلد/ 3.
(3) سورة البلد/ 4.
(4) سورة الفاتحة/ 5.
(5) سورة فاطر/ 10.
(6) سورة المنافقون/ 8.
(7) سورة المعارج/ 19-22.
(8) سورة الشرح/ 5-6.
(9) سورة الطلاق/ 2.
(10) سورة الطلاق/ 4.
(11) سورة المزمل/ 1-5.
(12) سورة لقمان/ 17.
(13) سورة الأحزاب / 56 .

آخر تحديث ( 17/05/2009 )
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.