خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

ثَـقافةُ الاستِشَارَةِ طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
01/07/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 10 رجب 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ثَـقافةُ الاستِشَارَةِ

    الحَمْدُ للهِ العَزِيزِ العَلِيمِ، فَاضَلَ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي مَرَاتِبِ العِلْمِ وَالتَّعْـلِيمِ، وَتَفَرَّدَ هُوَ بِكَمَالِ الجَلاَلِ وَالتَّكْرِيمِ، سُبْحَانَهُ القَائِلِ: ((وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ))(1)، أَحْمَدُهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأَستَغْفِرُهُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ العَلِيُّ العَظِيمُ، أَمَرَ بِالاستِشَارَةِ وَسُؤَالِ أَهْلِ الدِّرَايَةِ فِي الذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَمَرَهُ رَبُّهُ بِمَشُورَةِ أَصْحَابِهِ، وَالأَخْذِ بِمَا وَافَقَ هَدْيَ كِتَابِهِ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ العَصْرَ الحَدِيثَ قَدْ أَبَانَ عَنْ عُلُومٍ كَثِيرَةٍ لاَ يُستَغْنَى عَنْهَا فِي الحَيَاةِ، قَدْ أَضْحَتْ ضَرُوراتٍ لِقِوَامِ أُمُورِ النَّاسِ، فَلاَ يُمْـكِنُ لِلإِنْسَانِ بِمُفْرَدِهِ أَنْ يُحِيطَ بِهَا عِلْمًا وَفَهْمًا، فَكَانَ التَّخَصُّصُ وَكَانَ المُتَخَصِّصُونَ، فَوُجِدَ عُلَماءُ فِي القَانُونِ وَفِي الطِّبِّ وَفِي الهَنْدَسَةِ، وَعُلَمَاءُ فِي تَقْنِيَةِ المَعْـلُومَاتِ وَفِي الفَلَكِ، وَعُلَمَاءُ فِي النَّفْسِ وَالاجتِمَاعِ، وَالسِّيَاسَةِ وَالاقْتِصَادِ، وَالشُّؤُونِ الفِكْرِيَّةِ وَالعَسْـكَرِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ المَجَالاَتِ الكَثِيرَةِ، لِذَلِكَ فَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ أَصْـلُهُ الأَصِيلُ وَقَاعِدَتُهُ الرَّئِيسَةُ وَمَنْهَجُ حَيَاتِهِ هُوَ اللُّجُوءَ إِلَى المُتَخَصِّصِينَ فِي أَيِّ مَجَالٍ يَحْـتَاجُ إِلَيْهِ، وَأَلاَّ يَكُونَ المُسْـلِمُ عَشْوَائيًّا فِي أُمُورِهِ، مُتَخَبِّطًا فِي أَحْوَالِهِ، لاَ يَدْرِي مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ، يَعِيشُ فِي عَتَمَةٍ وَالعَالَمُ مِنْ حَوْلِهِ مُضِيءٌ، وإنَّ عصْرًا كَثُرَتْ فِيهِ التَّخَصُّصَاتُ وَتَبَايَنَتْ فِيهِ العُلُومُ تَبَايُنًا كَبِيرًا لَيَستَدْعِي مِنَ المُسْـلِمِ أَنْ يَعِيَ حَقِيقَةً فِي غَايَةِ الأَهَمِّيَّةِ، وَهِيَ أَنْ يَسْـأَلَ وَيَستَشِيرَ أَهْـلَ كُلِّ مَجَالٍ فِي مَجَالِهِ، وَبِالمُقَابِلِ عَلَى العَالِمِ أَلاَّ يَقْتَحِمَ مَا لَيْسَ مِنَ اختِصَاصِهِ، فَالإِسْلاَمُ يَحْـتَرِمُ العِلْمَ وَيُقَدِّرُ لأَهْلِ الاختِصَاصِ اختِصَاصَهُمْ الذِي هُمُ الأَعْـلَمُ بِهِ وَالأَعْرَفُ بِتَفَاصِيلِهِ، وَلَكِنْ وَلِلأَسَفِ قَدْ يَقْصِدُ بَعْضُ النَّاسِ غَيْرَ المُتَخَصِّصِينَ؛ فَيَسأَلُونَهُمْ فِي الفِقْهِ عَنِ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ، وَيَسأَلُونَهُمْ فِي الطِّبِّ عَنْ عِلاَجِ كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرَاضِ، الأَمْرُ الذِي يَزِيدُ القَضَايَا تَعْـقِيدًا، وَهُنَا يَقَعُ اللَّوْمُ عَلَى المُجِيبِ والسَّائِلِ، فَالأَوَّلُ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَيِّنَةٍ، وَبِلاَ هُدًى وَلاَ رَشَادٍ، وَالآخَرُ قَدْ تَوَجَّهَ إِلَى غَيْرِ ذِي الاختِصَاصِ وَعَمِلَ بِمَشُورَتِهِ، وَيَتَحَمَّـلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّـتَهُ مِنَ المَسْؤُولِيَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالقَانُونِيَّةِ وَالأَدَبِيَّةِ، أَلَمْ يَنْهَ سُبْحَانَهُ عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَالَ: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))(2)، أَلَمْ يُحَذِّرِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  مِنْ ذَلِكَ حِينَ قَالَ: ((مَنْ فَسَّرَ رُؤْيَا أَو أَفْتَى مَسْأَلَةً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ كَمَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ فَصَادَفَ بِئْرًا لاَ قَعْرَ لَهَا وَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الحَقَّ)).
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ أَمثِلَةً مِنَ الذَِّينَ أَخَذُوا بِمَبْدَأِ الشُّورَى مَعَ أَقْوَامِهِمْ؛ فَهَذِهِ مَلِكَةُ سَبَأٍ استَشَارَتْ قَوْمَهَا فِي قَضِيَّـتِها مَعَ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَقَالَتْ لَهُمْ: (( يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ))(3)، وَمَلِكُ مِصْرَ أَخَذَ رَأْيَ قَوْمِهِ فِي رُؤْيَا رَآهَا فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ))(4)، كَمَا أَخَذَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-  بِالشُّورَى حتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: ((مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  لأَصْحَابِهِ))، وَهَكَذَا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- يَلْجَأُ إِلَى المُتَخَصِّصِينَ وَيَأْخُذُ بِآرَائِهِمْ، فَفِي مَعْرَكَةِ الأَحْزَابِ أَشَارَ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ بِحَفْرِ الخَنْدَقِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ المُشْرِكُونَ قَالُوا: ((وَاللهِ إِنَّ هَذَهِ لَمَكِيدَةٌ مَا كَانَتِ العَرَبُ تَكِيدُهَا))، فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-   بِرَأْيِ الخُبَرَاءِ بِأُمُورِ الحَرْبِ وَهُوَ أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً، فَكَانَتِ النَّتِيجَةُ نَصْرًا، فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فَكَيْـفَ بِبَقِيَّةِ النَّاسِ؟ لاَ شَكَّ أَنَّ الأَمْرَ فِي حَقِّهِمْ أَكْثَرُ تَأْكِيدًا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ وَاصِفًا المُؤْمِنِينَ: ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ))(5)، وَيَقُولُ: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))(6)، وَيَقُولُ: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))(7)، فَالاستِشَارَةُ وَالسُّؤَالُ عَنِ المَجْهُولِ فِي الشَّأْنِ العَامِّ وَالخَاصِّ مَطْلَبٌ أَسَاسِيٌّ، وَضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ، عَلَى المُسْـلِمِ أَنْ يَكُونَ أَولَى النَّاسِ لُجُوءًا إِلَيْهَا، عَنْ طَرِيقِ الأُمَنَاءِ الصَّالِحِينَ مِنَ المُتَخَصِّصِينَ، وَبِذَلِكَ يَسْعَدُ المُسْـلِمُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَبْـتَعِدُ عَنِ التَّخَبُّطِ وَالعَشْوَائِيَّةِ، وَعَنْ سُوءِ التَّخْطِيطِ وَالإِدَارَةِ لأَيِّ شَيءٍ، فَالاستِبْدَادُ بِالرَّأْيِ وَالتَّكبُّرُ عَنْ أَخْذِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ هُمَا صِفَةُ العُتَاةِ الطَّواغِيتِ، وَالاستِشَارَةُ هِيَ حِلْيَةُ الرَّأْيِ وَزِينَتُهُ، تَزِيدُ الرَّأْيَ جَوْدَةً حَيْثُ يَشْتَرِكُ جَمْعٌ مِنَ النَّاسِ فِي صِنَاعَتِهِ فَيَنْشَطُونُ لِتَنْفِيذِهِ، يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((الاستِشَارَةُ عَيْنُ الهِدَايَةِ، وَقَدْ خَاطَرَ مَنِ استَغْنَى بِرَأْيِهِ))، وَالإِنْسَانُ مَهْمَا بَلَغَ مِنْ غَزَارَةِ العِلْمِ وَوَفْرَةِ العَقْلِ يَظَلُّ قَاصِرًا أَنْ يُحِيطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمًا، أَو يَسْـتَوعِبَ طَبَائِعَ الأَشْيَاءِ فَهْمًا، فَالاستِشَارَةُ تَوَاضُعٌ؛ إِذْ هِيَ اعتِرَافٌ بِهَذَا القُصُورِ، وَهِيَ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ فَضِيلَةٌ وخُلُقٌ عَظِيمٌ وَنَبِيلٌ، يَزِيدُ مِنْ قَدْرِ المَرْءِ وَلاَ يَنْقُصُهُ، وَيَزِينُهُ وَلاَ يَشِينُهُ.                                
   أَيُّهَا المُسْـلِمُونَ :                              
   إِنَّ الاستِشَارَةَ طَلَبًا لِلرَّأْيِ مِنْ أَهْـلِهِ ثَقَافَةٌ لَهَا أُصُولُهَا وَجُذُورُهَا فِي الفِكْرِ الإِسْلاَمِيِّ، وَلَكِنَّ المُتَأَمِّـلَ فِي الوَاقِعِ يَرَى بَعْضَ النَّاسِ يَقَعُونَ فِي أَخْطَاءٍ لِعَدَمِ سُؤَالِهِمْ، وَاستِبْدَادِهِمْ بِرَأْيِهِمْ، وَمَا ضَرَّ هَؤُلاَءِ لَوْ سَأَلُوا المُتَخَصِّصِينَ عَمَّا فَاتَهُمْ عِلْمُهُ، سَيَكُونُونَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَأَهْدَى سَبِيلاً، وَكَمْ مِنَ المَعْـلُومَاتِ وَالقَنَاعَاتِ الدِّينِّيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ يَتَنَاقَلُها النَّاسُ عَلَى أَنَّهَا حَقَائِقُ ثَابِتَةٌ، وَلَكِنْ بَعْدَ الرُّجُوعِ إِلَى الرَّاسِخِينَ مِنَ العُلَمَاءِ بَانَ مَا بِهَا مِنْ خَطَأٍ، فَاستَبَانَ السَّبِيلُ الوَاضِحُ وعُلِمَتِ الحَقَائِقُ، وَبَطَلَ مَا كَانَ عَالِقًا فِي الأَذْهَانِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ صَوَابًا، وَقَدْ يَتَّخِذُ الإِنْسَانُ رَأْيًا مِنْ غَيْرِ استِشَارَةٍ بِدَعْوَى أَنَّ المَوْضُوعَ ذُو خُصُوصِيَّةٍ شَخْصِيَّةٍ، وَلاَ يُحِبُّ أَنْ يُطْلِعَ الآخَرِينَ عَلَى خُصُوصِيَّاتِهِ، أَلاَ فَلْتَعْـلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  قَدْ شَاوَرَ فِي مَسْـأَلَةٍ مِنْ أَكْثَرِ المَسَائِلِ خُصُوصِيَّةً، فَعِنْدَمَا شَاعَ حَدِيثُ الإِفْكِ فِي السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- شَاوَرَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- أُسَامَةَ بنَ زَيْدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وعَلِيَّ بنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ -، وَكِلاَهُمَا قَالَ خَيْرًا، هَكَذَا يُعَلِّمُنَا -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- كَيْفَ يَجِبُ عَلَيْنَا إِشْرَاكُ الإِخْوَانِ المُخْلِصِينَ وَالعَارِفِينَ بِأَحْوَالِنَا فِي مُشْكِلاَتِنَا وَقَضَايَانَا، وَعَدَمُ الاستِبْدَادِ بِالرَّأْيِ مَهْمَا كَانَ خَاصًّا، فَالإِنْسَانُ ضَعِيفٌ بِنَفْسِهِ، قَوِيٌّ بِإِخْوَانِهِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واستَشِيرُوا إِخْوَانَكُمْ، وَأَشِيَرُوا عَلَيْهِمْ بِمَا يَنْفَعُهُمْ؛ حتَّى نَكُونَ هَادِينَ مُهْـتَدِينَ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                          *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.                                      
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :                                        
   إِنَّ الاستِشَارَةَ يَنْبَغِي أَنْ تُصَاحِبَنَا فِي كُلِّ أُمُورِنَا، وَأَنْ تَكَونَ مَنْهَجَ حَيَاةٍ نَعْمَلُ بِهِ، وَنُرَبِّي أَبنَاءَنَا عَلَيْهِ، فَطَلَبُ الاستِشَارَةِ مِنْ مَكَانِهَا الصَّحِيحِ سَواءً كَانَ مَكَاتِبَ استِشَارِيَّةً أَم أَشْخَاصًا تَرْبِطُنَا بِهِمْ عَلاَقَةٌ، سَوْفَ يُسْهِمُ بِغَيْرِ شَكٍّ فِي تَوْعِيَةِ المُسْـلِمينَ بِأُمُورِهِمْ، وَمَا عَلَى الإِنْسَانِ إِلاََّ السُّؤَالُ عَنْ أَفْضَلِهَا وَأَكْثَرِهَا ثِقَةً وَأَمَانَةً، ثُمَّ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا طَلَبًا لِلرَّأْيِ الصَّوَابِ، وَعَلَى المُستَشَارِينَ أَنْ يَجْـتِهَدُوا بِأَمَانَةٍ وَإِخْلاَصٍ فِي إِعْطَاءِ المُستَشِيرِ الرَّأْيَ الصَّوَابَ وَالمَشُوَرَةَ الصَّحِيحَةَ، مِنْ غَيْرِ تَغْلِيبٍ لِلدَّوَافِعِ الرِّبْحِيَّةِ وَالمَكَاسِبِ المَادِّيَّةِ، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَدَاوَلُوا المَسَائِلَ الوَارِدَةَ إِلَيْهِمْ وَيَتَشَاوَرُوا فِيهَا قَبْـلَ الإِجَابَةِ وَالرَّدِّ عَلَى طَالِبِ الاستِشَارَةِ إِنْ كَانَ المَوْضُوعُ يَسْـتَدْعِي ذَلِكَ، فَالعُلَمَاءُ مَهْمَا كَانُوا فِي التَّخَصُّصِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَنَّهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي نَظَرِهِمْ وَفَهْمِهِمْ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ كَانَ المَوْضُوعُ مَقْطُوعًا بِهِ سَلَفًا، وَحُكْمُهُ مَعْـلُومًا بِالضَّرُورَةِ؛ فَلاَ يَحْـتَاجُ إِلَى تَدَاوُلٍ، وَلاَ يَحتَاجُ إِلَى أَنْ يُشَاوِرَ أَحَدٌ بِشَأْنِهِ أَحَدًا أَصْلاً، فَالمَعْـلُومُ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالْمَعْـلُومِ مِنَ العُلُومِ الدُّنْيَوِيَّةِ بِالضَّرُورَةِ، قَوَاعِدُ ثَابِتَةٌ وَأُصُولٌ رَاسِخَةٌ، الجَهْـلُ بِهَا يُؤَدِّي بِالإِنْسَانِ إِلَى المَهَالِكِ وَمَوُاضِعِ الخَطَرِ، وَالأَصْـلُ أَنْ يَلْجَأَ الإِنْسَانُ إِلَى الاستِشَارَةِ قَبْـلَ أَنْ يَتَّخِذَ القَرَارَ أَو يَبْدَأَ بِتَنْفِيذِهِ، حتَّى يَأْتِيَ أُمُورَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ وَهُدَى، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَلْجَأُونَ للاستِشَارَةِ وَالفَتْوَى بَعْدَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا بِرُؤُوسِهِمْ، وَبَعْدَ أَنْ يَشْعُرُوا بِأَنَّهُمْ فَعَلُوا خَطَأً وَارتَكَبُوا مَحْظُورًا، يَتَوَجَّهُونَ لِطَلَبِ الفَتْوَى وَالاستِشَارَةِ، وَهَذَا -بِلاَ شَكٍّ- غَيْرُ صَوابٍ، بَلِ الصَّوَابُ وَالصَّحِيحُ أَلاَّ يَفْعَلَ الإِنْسَانُ شَيْئًا إِلاَّ عَارِفًا كُلَّ مَا يَتَعلَّقُ بِهِ مِنْ أَحْكَامٍ وَتَبِعَاتٍ، وَعَلَيْهِ أَلاَّ يَتَشَتَّتَ وَيَتُوهَ بَيْنَ خِلاَفَاتِ المُستَشَارِينَ إِنْ تَعَدَّدُوا فِي القَضِيَّةِ الوَاحِدَةِ، لأَنَّ المُستَشِيرَ يَبْـقَى إِنْسَانًا عَاقِلاً مُمَيِّزًا بَيْنَ رَأْيٍ وَآخَرَ، وَالأَمْرُ بِيَدِهِ فِي نِهَايَةِ المَطَافِ، وَهُوَ المَسْؤُولُ عَنْ كُلِّ تَصَرُّفَاتِهِ، فَلْيَعْزِمْ مُتَوَكِّلاً عَلَى اللهِ؛ فَمَا نَدِمَ مَنِ استَشَارَ.                                     
   أَيُّهَا المُسْـلِمُونَ :                                      
   إِنَّ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى مَنْ يَقْصِدُهُمُ النَّاسُ لِلْمَشُورَةِ وَالرَّأْيِ أَنْ يَحْـفَظُوا أَسْرَارَ النَّاسِ وَخُصُوصِيَّاتِهِمْ الشَّخْصِيَّةَ وَالأُسْرِيَّةَ التِي لاَ يُحِبُّونَ إِطْلاَعَ الآخَرِينَ عَلَيْهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يَصُونُوا حُرُمَاتِهِمْ، وَأَنْ يَكُونُوا لَهُمْ عَوْنًا وَسَنَدًا، فَقَدْ وَثِقُوا بِهِمْ فَأَوْدَعُوهُمْ أَسْرَارَهُمْ بِنِيَّةِ التَّوَصُّـلِ إِلَى رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَقَرَارٍ رَشِيدٍ، فَلاَ يَجْدُرُ بِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يُفْشُوا  أَسْرَارَ النَّاسِ وَتَفَاصِيلَ قَضَايَاهُمْ، وَلاَ يَغْفُلَنَّ أَحَدٌ لَحْظَةً وَاحِدَةً أَنَّهُ مَسْؤُولٌ أَمَامَ اللهِ تَعَالَى عَمَّا يَقُولُهُ، فَمَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، وَالحَذَرَ كُلَّ الحَذَرِ - أَيُّهَا المُسْـلِمُونَ - مِنْ أَنْ تَكُونَ آرَاؤُنَا تَبَعًا لِهَوَانَا، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))(8)، وَقَالَ: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى))(9)، وَلْنُوَطِّنْ أَنْفُسَنَا أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِلْحَقِّ، وَأَلاَّ يَصْدُرَ مِنَّا إِلاَّ صَوَابٌ؛ فَبِذَلِكَ نَنْهَضُ بِأَنْفُسِنَا وَبِمُجْـتَمَعِنَا.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (10).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.           
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة يوسف/ 76 .
(2) سورة الإسراء/ 36.
(3) سورة النمل/ 32.
(4) سورة يوسف/ 43.
(5) سورة الشورى/ 38.
(6) سورة آل عمران/ 159.
(7) سورة النحل/ 43.
(8) سورة القصص/ 50.
(9) سورة النجم/ 23.
(10) سورة الأحزاب / 56 .

 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.