خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

منْ أَسْرَارِ العِبَادَاتِ طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
25/11/2009

منْ أَسْرَارِ العِبَادَاتِ  


الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، أَمَرَنَا بِعِبَادَتِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، حَيثُ قَالَ فِي كِتَابِهِ المُبِينِ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)( )، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ مِنَ الْحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَخلُقْنَا عَبَثًا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا سُدًى، أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِدَرْءِ الضَّلالِ وَنَشْرِ الهُدَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيرُ مَنْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَوَحَّدَهُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ، وَأَطَاعَهُ وَعَبَدَهُ، القَائِلُ: ((اعبُدِ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ :
إِنَّ العِبَادَةَ هِيَ حَقُّ اللهِ الأَوَّلُ الَّذِي أَنْزَلَ كُتُبَهَ وَأَرْسَلَ رُسُلَهُ لِدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيهِ، وَحَثِّهِمْ عَلَيْهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: ((أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ قَالَ مُعَاذٌ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، قَالَ: حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيئًا))، وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)( )، وَجَاءَ فِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ: ((يَا عِبَادِي: إِنِّي مَا خَلَقْتُكُمْ لأَستَأْنِسَ بِكُمْ مِنْ وَحشَةٍ، وَلا لأَستَكْثِرَ بِكُمْ مِنْ قِلَّةٍ، وَلا لأَستَعِينَ بِكُمْ مِنْ وَحْدَةٍ عَلَى أَمْرٍ عَجَزتُ عَنْهُ، وَلا لِجَلْبِ مَنْفَعَةٍ وَلا لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ، وَإِنَّمَا خَلَقْتُكُمْ لِتَعْبُدُونِي طَوِيلاً، وَتَذْكُرُونِي كَثِيرًا، وَتُسَبِّحُونِي بُكْرَةً وَأَصِيلاً))، إِنَّ كُلَّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ كَانَتْ مُهِمَّـتُهُ الأُولَى دَعْوَةَ النَّاسِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)( )، فَعِبَادَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هِيَ سِرُّ وُجُودِ الإِنْسَانِ وَغَايَةُ حَيَاتِهِ، فَإِذَا جَهِلَ الإِنْسَانُ ذَلِكَ كَانَ جُرْمُهُ عَظِيمًا، وَإِثْمُهُ كَبِيرًا، وَقَدْ شَبَّهَ القُرآنُ الكَرِيمُ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ بِالأَنْعَامِ الَّتِي تَأْكُلُ وَتَتَمَتَّعُ، وَتَسْرَحُ وَتَرتَعُ، وَهِيَ لا تَدْرِي شَيئًا عَنْ حَقِيقَةِ نَفْسِهَا وَطَبِيعَةِ دَوْرِهَا فِي هَذِهِ الحَيَاةِ، اقْرَأُوا قَولَ اللهِ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)( )، بَلْ جَاءَ وَصْمُهُمْ فِي مَوضِعٍ آخَرَ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ بِمَا هُوَ أَشْنَعُ وَأَفْظَعُ، تَجِدُونَ ذَلِكَ - عِبَادَ اللهِ - فِي قَولِهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)( )، إِنَّ الإِنْسَانَ حِينَ يَغْفُلُ عَنْ رِسَالَتِهِ الأَسَاسِيَّةِ؛ فَيَكْفُرُ بِاللهِ رَبِّ البَرِيَّةِ؛ يَصِيرُ شَرَّ البَرِيَّةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُشِيرًا إِلَى هَؤُلاءِ بِالإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى البُعْدِ؛ لِبُعْدِهِمْ عَنْ رَحْمَةِ اللهِ: (أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ)( )، وَفِي مُقَابِلِ هَؤُلاءِ الأَشْرَارِ يَأْتِي ذِكْرُ الأَخْيَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَوَحَّدُوهُ، وَعَظَّمُوهُ وَمَجَّدُوهُ، يُشِيرُ اللهُ إِلَيْهِمْ بِالإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى البُعْدِ أَيْضًا، بَيْدَ أَنَّهُ بُعْدُ المَكَانَةِ وَعُلُوُّ الرُّتْبَةِ وَسُمُوُّ المَنْزِلَةِ، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)( ).
عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الأَصلَ فِي العِبَادَةِ أَنْ تُؤَدَّى امتِثَالاً لأَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَدَاءً لِحَقِّ عِبَادَتِهِ وَلَوْ لَمْ نَعْرِفْ سِرَّهَا؛ لأَنَّهَا أُمُورٌ تَعَبُّدِيَّةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا لا يَمنَعُ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ لَنَا بَعْضُ أَسْرَارِهَا حِينَ أَدَائِهَا، وَمِنْ ثَمَرَاتِ العِبَادَةِ الَّتِي يَجنِيهَا العَابِدُ وَيَقْطِفُهَا تَزكِيَةُ الأَخْلاقِ، وَالإِسْهَامُ فِي كُلِّ عَمَلٍ نَافِعٍ خلاَّقٍ، فَعِبَادَةُ اللهِ لا تَنْفَكُّ عَنْ شَخْصِيَّةِ العَابِدِ، بَلْ هِيَ أَهَمُّ الأَركَانِ الأَسَاسِيَّةِ فِي بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ المُتَكَامِلَةِ السَّوِيَّةِ، وَهَذِهِ الشَّخْصِيَّةُ تَصقُلُهَا العِبَادَةُ وَتُنَقِّـيْهَا، وَتَسْمُو بِهَا وَتُرَقِّيْهَا، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)( )، وَلِلصَّلاةِ أَسْرَارُهَا النَّفْسِيَّةُ وَالخُلُقِيَّةُ وَالاجتِمَاعِيَّةُ، فَهِيَ تَجْعَلُ المُصَلِّيَ دَائِمًا فِي رِضًا وَسَكِينَةٍ، وَهُدُوءٍ وَطُمَأْنِينَةٍ، إِنَّهُ يُعْطِي الخَيْرَ لِغَيْرِهِ وَلا يَمنَعُ، وَإِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ لا يَجزَعُ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)( )، ثُمَّ استَثْنَى رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْ هَذَا الطَّبْعِ الَّذِي طُبِعَ وَجُبِلَ عَلَيْهِ الإِنْسَانُ بَعْضَ مَنِ اتَّصَفُوا بِبَعْضِ الصِّفَاتِ، فَجَعَلَ فِي مُقَدِّمَتِهِمْ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلاةِ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا فَقَالَ: (إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)( )، إِنَّ الصَّلاةَ تُضفِي عَلَى نَفْسِ المُصَلِّي الكَثِيرَ مِنَ الحَيَوِيَّةِ وَالنَّشَاطِ، فَلا يَشْعُرُ بِيَأْسٍ وَلا إِحْبَاطٍ، فَالمُسلِمُ إِذَا افْتَتَحَ يَومَهُ بِالصَّلاةِ أَصْبَحَ طَيِّبَ النَّفْسِ نَشِيطًا، وَالإِنْسَانُ إِذَا استَقْبَلَ يَومَهُ بِنَشَاطٍ وَهِمَّةٍ وَسُرُورٍ؛ تَعَامَلَ مَعَ مُجتَمَعِهِ عَلَى هَدًى وَبَصِيرَةٍ وَنُورٍ، فَأَصْبَحَ عُضوًا نَافِعًا فِي المُجتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ، وَخَلِيَّةً حَيَّةً تَعْمَلُ وَتُنْتِجُ، يَعُمُّ خَيْرُهَا وَيُعْدَمُ شَرُّهَا، وَفِي صَلاةِ الجَمَاعَةِ تَربِيَةٌ اجتِمَاعِيَّةٌ رَشِيدَةٌ، فَمِنْ خِلالِهَا يَعْرِفُ المُسلِمُ أَنَّهُ بِانْضِمَامِهِ إِلَى غَيْرِهِ يُدرِكُ الأَجْرَ الرَّابِحَ، وَالجَزَاءَ الطَّيِّبَ الوَافِرَ، وَبِهَذَا يَشْعُرُ بِأَهَمِّيَّةِ انْضِمَامِهِ إِلَى مُجتَمَعِهِ، وَإِيوَاءِ مُجتَمَعِهِ لَهُ؛ فَيَبذُلُ لِمُجتَمَعِهِ الخَيْرَ وَيَمُدُّهُ بِالعَطَاءِ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيفٍ وَإِبْطَاءٍ، وَبِالجُملَةِ فَبِالمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلاةِ يَزكُو الإِنْسَانُ وَيَتَطَهَّرُ مِنَ الرَّذَائِلِ، وَيَتَحَلَّى بِالفَضَائِلِ، فَيُكْتَبُ لَهُ الفَلاحُ، وَيُحَالِفُهُ التَّوفِيقُ وَالنَّجَاحُ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ، يَقُولُ تَعَالَى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)( ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
إِذَا كَانَ لِلصَّلاةِ بَعْضُ تِلْكَ الآثَارِ الَّتِي عَرَفْتُمْ، فَلِلزَّكَاةِ كَذَلِكَ أَسْرَارٌ نَفْسِيَّةٌ وَخُلُقِيَّةٌ وَاجتِمَاعِيَّةٌ، كَيفَ لاَ؟ وَهِيَ قَرِينَةُ الصَّلاةِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الكِتَابِ العَزِيزِ، وَلِتَعَرُّفِ هَذِهِ الأَسْرَارِ يَكْفِي أَنْ نَعْرِفَ  - إِخْوَةَ الإِسْلامِ - مَعنَى كَلِمَةِ الزَّكَاةِ، فَلِلزَّكَاةِِ فِي اللُّغَةِ مَعنَيَانِ: أَوَّلُهُمَا يَحْمِلُ مَعنَى الطَّهَارَةِ وَالنَّظَافَةِ، وَثَانِيهِمَا يَحْمِلُ مَعنَى النَّمَاءِ وَالزِّيَادَةِ، وَالزَّكَاةُ تُحَقِّقُ المَعنَيَيْنِ مَعًا، فَهِيَ أَوَّلاً طَهَارَةٌ لِنَفْسِ المُزَكِّي مِنْ دَاءِ الشُّحِّ، وَهُوَ دَاءٌ خَطِيرٌ وَشَرٌّ مُستَطِيرٌ، حَذَّرَ مِنْ عَوَاقِبِهِ البَشِيرُ النَّذِيرُ -صلى الله عليه وسلم- أَشَدَّ تَحْذِيرٍ فَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ؛ فِإِنَّ الشُّحَّ أَهْـلَكَ مَنْ كَانَ قَبلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاستَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ))، وَلَمَّا كَانَتِ الزَّكَاةُ تَقِي النَّفْسَ دَاءَ الشُّحِّ كَانَ المُحَافِظُ عَلَيْهَا مِنَ المُفلِحِينَ؛ مِصْدَاقًا لِقَولِ رَبِّ  العَالَمِينَ: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)( )، وَكَمَا تُطَهِّرُ الزَّكَاةُ نَفْسَ الغَنِيِّ مِنْ دَاءِ الشُّحِّ تُطَهِّرُ أَيضًا نَفْسَ الفَقِيرِ مِنْ دَاءِ الحَسَدِ الخَطِيرِ، ذَلِكَ لأَنَّ الفَقِيرَ حِينَ يَرَى أَنَّ نَفْعَ مَالِ الغَنِيِّ عَادَ إِلَيْهِ، وَثِمَارَهُ وُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ يَحْرِصُ عَلَى هَذَا المَالِ، وَيَتَمَنَّى بَقَاءَهُ وَنَمَاءَهُ، وَمِنْ شَأْنِ الإِحْسَانِ أَنْ يَستَمِيلَ قَلْبَ الإِنْسَانِ، وَمِنْ شَأْنِ الحِرْمَانِ أَنْ يَمْلأَ القُلُوبَ بِالأَحقَادِ وَالأَضغَانِ، وَإِذَا عَاشَ الغَنِيُّ وَالفَقِيرُ فِي حُبٍّ وَإِخَاءٍ؛ استَقَرَّتِ البَرَكَةُ وَتَحَقَّقَ الرَّخَاءُ، وَذَهَبَ الشَّرُّ عَنِ الأَنْفُسِ وَالأَمْوَالِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِذَا أَدَّيتَ زَكَاةَ مَالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْهُ شَرَّهُ))، إِنَّ الزَّكَاةَ حِصْنٌ لِلْمَالِ وَوِقَايَةٌ، وَحِرزٌ لَهُ وَحِمَايَةٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((حَصِّنُوا أَمْوَالَكُمْ بِالزَّكَاةِ))، وَمِنْ مَعَانِي الزَّكَاةِ أَيضًا النَّمَاءُ وَالزِّيَادَةُ، فَهِيَ تُنَمِّي المَالَ وَلا تَنْقُصُهُ، يَقُولُ – عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ((مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ))، وَتَأَمَّـلُوا - عِبَادَ اللهِ - قَولَ اللهِ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)( )، وَالزَّكَاةُ أَيْضًا نَمَاءٌ لِشَخْصِيَّةِ المُزَكِّي، فَهُوَ حِينَ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ أَعَانَ إِخْوَانَهُ فِي الإِنْسَانِيَّةِ بِالمَالِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ، وَهِيَ أَيضًا نَمَاءٌ لِشَخْصِيَّةِ الآخِذِ لَهَا؛ فَهُوَ حِينَ تَمتَدُّ إِلَيهِ الأَيْدِي بِالعَطَاءِ يَشْعُرُ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْدًا ضَائِعًا فِي المُجتَمَعِ فَيَشْعُرُ بِمَكَانَتِهِ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ مِنَ اعتِزَازِهِ بِشَخْصِيَّـتِهِ، فَيُصْبِحُ عُضْوًا نَافِعًا فِي مُجتَمَعِهِ، خَادِمًا لِوَطَنِهِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وَتَفَكَّرُوا فِي أَسْرَارِ العِبَادَةِ؛ تَنَالُوا الخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ :
عَرَفْتُمْ فِيمَا تَقَدَّمَ بَعْضَ أَسْرَارِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، هَذَا وَإِنَّ الصِّيَامَ كَسَائِرِ العِبَادَاتِ لَهُ أَسْرَارُهُ، وَفَوَائِدُهُ وَثِمَارُهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْرَارِ الصِّيَامِ وَثِمَارِهِ تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)( )، فَالصِّيَامُ - عِبَادَ اللهِ - يُورِثُ خَشْيَةَ اللهِ وَيُنَمِّي مَلَكَةَ المُرَاقَبَةِ، وَيُوقِظُ الضَّمِيرَ وَيُقَوِّي الإِرَادَةَ، وَيُعَوِّدُ الإِنْسَانَ الصَّبْرَ وَالاحتِمَالَ، فَيَستَطِيعُ مُوَاجَهَةَ تَحَدِّيَاتِ الحَيَاةِ، فَلا يَنْثَنِي أَمَامَ صِعَابِهَا، وَلا يَتَزَعزَعُ أَمَامَ أَحْدَاثِهَا، وَلِلصِّيَامِ ثِمَارُهُ الخُلُقِيَّةُ أَيْضًا، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((الصِّيَامُ جُنَّةٌ)) أَيْ وِقَايَةٌ مِنَ المُنْكَرَاتِ، وَالمَرْذُولِ مِنَ الصِّفَاتِ، وَلِلصِّيَامِ ثِمَارُهُ الاجتِمَاعِيَّةُ الكَثِيرَةُ؛ فَهُوَ يُفَجِّرُ يَنَابِيعَ الرَّحْمَةِ وَالعَطْفِ فِي القُلُوبِ، وَبِهَذَا يُعِينُ المُؤْمِنُ أَخَاهُ إِنْ أَحَاطَتْ بِهِ الكُرُوبُ، وَحَلَّتْ بِسَاحَتِهِ الخُطُوبُ، فَتَصفُو النُّفُوسُ وَتَتَآلَفُ القُلُوبُ، وَيَعُمُّ المُجتَمَعَ السَّكِينَةُ، وَالهُدُوءُ وَالطُّمَأْنِينَةُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
لَقَدْ وَدَّعنَا عَنْ قَرِيبٍ أَيَّامَ فَرِيضَةِ الحَجِّ، وَلا بُدَّ أَنْ نَقِفَ عَلَى بَعْضِ الحِكَمِ التَّشْرِيعِيَّةِ لِهَذِهِ الفَرِيضَةِ، فَلِلْحَجِّ أَسْرَارُهُ النَّفْسِيَّةُ وَالخُلُقِيَّةُ وَالاجتِمَاعِيَّةُ، فَهُوَ يُثِيرُ فِي النَّفْسِ ذِكْرَيَاتٍ مَضَتْ، وَذِكْرَيَاتُ المَاضِي فِيهَا العِبَرُ وَالعِظَاتُ، لإِنْجَازِ الكَثِيرِ مِنَ الخَيْرَاتِ، إِنَّهَا مَصْدَرُ مَدَدٍ وَمَنْبَعُ عَطَاءٍ لِلحَاضِرِ وَبِنَاءِ المُستَقْبَلِ، وَلِلحَجِّ أَسْرَارُهُ الخُلُقِيَّةُ؛ فَهُوَ يُرَبِّي الإِنْسَانَ عَلَى مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، وَيُعَوِّدُهُ جَمِيلَ الصِّفَاتِ، فَلا يَقُولُ هُجْرًا وَلا يَفْعَلُ نُكْرًا، قَالَ تَعَالَى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)( )، وَفِي الحَجِّ وَحْدَةٌ وَتَعَاوُنٌ، وَحُبٌّ وَتَعَارُفٌ، وَفِي الحَجِّ مُسَاوَاةٌ بَيْنَ الجَمِيعِ، لا فَرقَ بَينَ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ؛ فَجَمِيعُ الحُجَّاجِ فِي المَظْهَرِ سَوَاءٌ، لِيَكُونُوا فِي المَخْبَرِ عَلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ، وَفِي الحَجِّ مَنَافِعُ رُوحِيَّةٌ وَمَنَافِعُ اقتِصَادِيَّةٌ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)( ).
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ ثِمَارِ العِبَادَةِ تَوْجِيهَ النَّفْسِ الإِنْسَانِيَّةِ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَةُ البَشَرِيَّةِ، فَالعِبَادَةُ لا تَعنِي الانْعِزَالَ وَالانْطِوَاءَ، بَلْ تَعنِي كُلَّ قَولٍ سَدِيدٍ وَعَمَلٍ رَشِيدٍ بَنَّاءٍ.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا:  إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا  ( ).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ).

 

 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.