خطبة الاسبوع arrow خطبة الاسبوع arrow إضاءات من نجاح الهجرة
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

إضاءات من نجاح الهجرة طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
25/01/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 7 محرم 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إضاءات من نجاح الهجرة
   الْحَمْدُ للهِ الذي أكرمَنا بمحمدٍ نبياً ورسولا، وجَعلَ لنا فيه إلى الخيرِ أسوةً ودليلاً، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ  وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ أَمرنا بالأخذِ بالأسبابِ، والجدِّ لتذليلِ الصعابِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ الأوابُّ أُوتِيَ الحكمةَ وفصلَ الخطابِ،  -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الذين صَدَّقُوه ونَصرُوه واتّبَعُوه وآزرُوه، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ .
  
أَمَّا بَعْدُ، فأوصيكم ونفسِيَ -عبادَ اللهِ - بتقواه والعملِ بما فيه رضاه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)) (1) ، واعلموا -رحمَكم اللهُ- أَنَّ لنا في حياةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  ومواقِفِهِ المُنِيرَةِ خيرَ زادٍ نَتَقَرّبُ به إلى اللهِ يومَ المعادِ، فما أحْوَجَنَا معشَرَ المسلمين إلى قراءةٍ جديدةٍ لمَوَاقِفِ الحياةِ النبويَّةِ، قراءةٍ تُوَاكِبُ العصرَ بما فيه من زَخَمٍ فكريٍّ، وثَوْرَةٍ عِلمِيَّةٍ وأنماطٍ حياتِيَّةٍ، فالإسلامُ دعوةٌ عالَمِيَّةٌ تَتَّصِفُ بالشمولِيَّةِ التي تستوعِبُ الحياةَ مكاناً وزماناً، وفكراً وسلوكاً، وعِلْمَاً وعَمَلاً، ونحن إذ نقفُ اليومَ على أعتابِ حادثةٍ عظيمةٍ تَظهرُ فيها الحِنْكَةُ الحكيمةُ والسيرةُ المُستقيمةُ ألا وهي حادِثَةُ الهجرةِ، التي غَيَّرَتْ مجرى التاريخِ، ونَقَلتِ الإنسانيةُ إلى عالَمٍ يَختلفُ عمَّا قَبْلَه، تَسودُه مشاعرُ المودَّةِ، وتَنتشرُ بينَ جَنَبَاتِهِ فُيُوضَاتُ الرحمةِ، وتُشرِقُ مِنْ أذهانِ أفرادِه أنوارُ العلمِ والحكمةِ، فما أحوَجَنَا إلى تدبُّرِ معاني هذه الحادثةِ العظيمةِ، ودراسةِ دَلالتِها والاستفادةِ مِنْ نفحاتِها، فإنَّ لنا في صاحبِها -صلى الله عليه وسلم-  القدوةَ الحسنةَ، قالَ تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً))(3)، ولنَجْعل منها محطَّةَ تفكُّرٍ وتأمُّلٍ، نَدرسُ فيها شَخْصَ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-  دراسةً متأنِّيةً عميقةً، يَمتزجُ فيها وحيُ الفكرِ بصادقِ العاطفةِ، ومَـلَـكَةُ التأمُّلِ بقوَّةِ الاستنباطِ، فدينُنَا دينُ فكرٍ وعَقْلانِيَّةٍ، يُخَاطِبُ الإنسانَ كلَّه عقْلاً ورُوحاً وعاطفةً ووجدَاناً، وقَدْ وجَّهَنَا القرآنُ الكريمُ إلى التفكُّرِ والنظرِ في مواقِفِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-  وسلوكِه، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ))(4).
   أيها المسلمونَ :
   إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-  لَمْ يُهاجِرْ مِنْ مكَّةَ إلى المدينةِ زهداً فيها، فهي أحبُّ بلادِ اللهِ إلى اللهِ، وأقربُها إلى قلبِه -صلى الله عليه وسلم- ، بل هاجرَ لبناءِ مُجتمعِ الفضيلةِ والأخلاقِ، والوَحدَةِ والوِفَاقِ، فهذه روحُ رسالَتِه، يقولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ))، فكانتِ الهجرةُ خطوةً لا بُدَّ مِنْها لتأسيسِ مجتمعٍ مثاليٍّ جاءتْ به الرسالةُ الخالدةُ، خُطوةً جاءتْ بتوجيهٍ مِنْ حكيمٍ خبيرٍ إلى البشيرِ النذيرِ، الذي لا يَعرفُ في سبيلِ رسالتِه الكلَل، ولا يَتطَرَّقُ إليه في إرشادِ الناسِ مَلَل، مُلْهِـمِ النفوسِ الكريمةِ، ورجلِ المبادئِ القويمةِ، وعملاقِ النظرةِ الحكيمةِ، الذي تُسدِّّدُه مَرَاشِدُ الآياتِ الكريمةِ، إنه رجلٌ عرَفَ الحقَّ ودعا إليه، وأدركَ إنقاذَ أمَّتِه فَحَرَصَ عليه، رجلٌ جاءَ بكلمةٍ طيِّبةٍ شَبَّهَهَا اللهُ بالشجرةِ الطيبةِ، قالَ تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ))(5)، فأرادَ أن يَجِدَ لهذِه الشجرةِ أرضاً يَطِيبُ فيها نَبَاتُهَا، ويزكُو نتاجُها، وليسَ معنى هذا أَنْ ييأسَ المسلمُ من مُجْتَمَعِهِ، أو يَسْأَمَ مِنْ عَدَمِ الاستجابةِ لإرشادِهِ، فالهجرةُ خطوةٌ استثنائيةٌ في ظرفٍ استثنائيٍّ، ألا وهوَ ظَرْفُ مرحَلَةِ البناءِ والتأسيسِ، أَمَّا وَقَـدْ قَامتْ دعائمُ المجتمعِ المسلمِ، فلا مُبَرِّرَ للهجرةِ، لذا جاءَ في الحديثِ عنه -صلى الله عليه وسلم- : ((لا هجرَةَ بعدَ الفتحِ))، إنَّ الخطوبَ العظيمةَ، والمِحَنَ الجسيمةَ، لم تكنْ لِتُزَعْزِعَ ثَبَاتَهُ -صلى الله عليه وسلم-  ، والمكائدُ مهما تَنَوَّعَتْ، والعَدَاوَاتُ مهما بَلَغَتْ، لَمْ تُفلِحْ في ثَـنْـيِهِ -صلى الله عليه وسلم-  عن مبادِئِه، أو تَـنَازُلِهِ عن قِيَمِهِ، أو شَكِّهِ في نَصْرِ ربِّهِ وظُهُورِ أمرِهِ، يقولُ اللهُ تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (6).
   أيها المسلمونَ:
   إنَّ في تضحياتِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-  وصحبِه الكرامِ في حادثةِ  الهجرةِ رسالةً واضحةً بأنَّ الأهدافَ العظيمةَ والحياةَ الهانئةَ القويمةَ لا تُدرَكُ إلا بالجهدِ الدؤوبِ القائمِ على خطواتٍ عمليّةٍ مدروسةٍ، وبِجِدٍّ ومُثَابَرَةٍ، بعيداً عن التهوّرِ والمُخَاطَرَةِ، ونِيّةٍ صادِقَةٍ في الخيرِ والصلاحِ، لها من الصدقِ والقوةِ ما يجعلُها قادرةً على نَقْلِ حالِ صاحِبِها من فَضْلٍ إلى أفضلَ، ومن كَمَالٍ بشريٍّ إلى أَكْمَلَ، ومَعْ هذا كلِّه لا بدّ من العملِ بعيداً عن التسرّعِ واستعجالِ الثمرةِ، بِصَبْرٍ على المِحَنِ والبلاءِ، وثَبَاتٍ عِندَ الشدائدِ والأزماتِ، فهذا وحدَهُ سبيلُ الفوزِ والفلاحِ، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(7).
   أيها المسلمونَ :
   إنَّ المُتَدَبّرَ في مواقفِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-  وإعْدَادِهِ لهِجْرَتِه الموَفَّقَةِ، وخطواتِهِ الناجِحَةِ، يُدركُ فلسَفَةَ النجاحِ في كلِّ عملٍ، وطريقَ الوصولِ إلى الأملِ، وقد ضَرَبَ اللهُ لنا في كتابهِ مثَلاً يؤَكِّدُ هذا؛ فموسى –عليه الصلاةُ السلامُ- مع جَلاَلَةِِ قَدرِهِ طَلَبَ العلمَ بِصُحْبَةِ العبدِ الصالحِ الذي آتاهُ اللهُ مِنْ عِلْمِهِ فقالَ لهُ موسى –عليه الصلاةُ والسلامُ-: (( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً )) (8) ، إنَّ الإنسانَ قد يكونُ لديهِ من مَلَكَاتِ التفكيرِ ما يُؤهِّّلُهُ لأَنْ يكونَ ناجحاً، ومِنْ قوَّةِ البَدَنِ ما يُساعدُه لِيُصبِحَ رابحاً، ولكنه إنْ حَصَرَ نفْسَهُ في بيئةٍ لا تُعينُه على الرُقِيِّ، ولا تُـعَـرِّفُه بما للمعالي مِنْ قِيمَةٍ، ولا تَشْحَذُ لهُ إلى النجاحٍ عَزِيمَةً، فَأَنـَّى لمثلِ هذا أنْ يَستفيدَ من قُدُرَاتِهِ، وكيفَ له أن يَسْعَدَ بطَاقَاتِهِ، وهوَ كالزَارِعِ في أرضٍ سبخةٍ، لا رِفْقَةَ له تُذَكِّرُهُ إذا نَسِيَ، ولا صَحْبَ له يُنَبِِّهُونَهُ إذا غَفَلَ، ولا مُرْشِدَ يُعَلِّمُهُ إذا جَهَل، قالَ اللهُ تعالى: (( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً))(9) ، إن أُولَى خطواتِ النجاحِ البُعْدُ عن بيئةِ الفشلِ ولُزُومُ الرِّفْقةِ الصالحةِ، فمنها -بإذنِ اللهِ- يَنبُعُ كلُّ خيرٍ، ويُدْفَعُ كلُّ ضَيْرٍ، يقولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مثلُ الجليسِ الصالحِ والجليسِ السوءِ كحاملِ المسكِ ونافخِ الكيرِ، فحاملُ المسكِ إمَّا أَنْ يَحْذِيَكَ وإمَّا أَنْ تَبْتَاعَ منهُ، وإما أن تَجِدَ منه ريْحاً طيبةً، ونافخُ الكيرِ إمَّا أنْ يَحرِقَ ثيابَكَ، وإمَّا أَنْ تَجدَ مِنْهُ رِيحاً خبيثةً)).
   أيها المسلمونَ:
   إن النجاحَ لا يتحققُ بتهيئةِ أسبابِه فحسب، بل لا بدَّ مِنْ سدِّ أبوابِ الفشلِ وقايةً من الوقوعِ في الزللِ، فالمسلمُ حَذِرٌ لا يطمئنُ أنه واصلٌ إلى هدفِه حتى تطمئنَ نفسُه إلى أنه قد سدَّ كلَّ ثغرةٍ قد يُؤتَى مِنْ خلالِها، قالَ تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً)) (10) ، فطالِبُ الهدفِ يحذرُ من كلِّ عائقٍ مُحْتَمَلٍ قد يَحُولُ بينَه وبينَ هدفِه، فهو قد يفشلُ بإذاعةِ أمرِه وإشاعتِه، لذا قالَ تعالى حاكياً عن نبيِّه يعقوبَ موجِّهاً ابنَه يوسفَ عليهما الصلاةُ والسلامُ: ((قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)) (11) ، وحينَ عَِلِمَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-  مكائدَ أعدائِه وترَبّصَهم بهِ أَدْرَكَ بِحِنْكَتِهِ وحكمتِه ضرورةَ سدِّ الطرقِ عليهم ليحولَ بينهم وبينَ إفشالِ عمَلِه، ففَعَلَ ما فَعلَ من سدِّ أبوابِ الفشلِ ليضعَ لأمَّتِهِ منهجَ النجاحِ، ويَرسمَ لهم طريقَ الرقيِّ.
    فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، واحرِصُوا رحمَكمُ اللهُ على الاقتداءِ بهِ -صلى الله عليه وسلم-  في الفكرِ والسلوكِ، ففي ذلك سرُّ نجاحِكم، وبه تتحققُ أهدافُكم، وتصلوا إلى غاياتِكم، وتصلُحُ مجتمعاتُكم.  
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إن الهجرةَ النبويةَ لم تكنْ رحلةً عاديةً، بل هي رحلةٌ من كََمَالٍ إلى أكملَ، ومن مستوىً راقٍ في العملِ إلى أرقى، رحلةٌ لصياغَةِ الهدفِ في أجملِ صُوَرِه وأبهى حُلَلِهِ وأرقى درجاتِه، رحلةٌ لإكمالِ مشروعِ إصلاحٍ للإنسانيةِ، تنفيذاً للتوجيهاتِ الربانيّةِ، فما أحوجَ المسلمينَ اليومَ إلى جلوسٍ مع ذواتِهم ومحاسَبَةِ أنْفُسِهم، يَستعرضُ كلُّ واحدٍ حالَه، ويَعْرِضُه على المنهجِ النبويِّ الشريفِ الذي أَوْضَحَ معالمَ النجاحِ، فإنْ وَجَدَ الإنسانُ نَفْسَه سائراً على الطريقِ بلا عِوَجٍ حَمَدَ اللهَ ورجا الفوزَ، وإنْ وَجَدَ غيرَ ذلك عادَ إلى رُشْدِه وثَابَ إلى صوابِه، فالمؤمنُ يتبعُ الحقَّ حيثُ كانَ، ويَحرِصُ على الاستفادةِ من الحوادثِ والوقائعِ، قالَ تعالى: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (12) ، ويقولُ في شأنِ عبادِهِ المؤمنينَ: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ))(13)، فلينظرْ كلَّ منا ماذا قَدَّمَ لنفسِه في عامِهِ المنصرمِ؟ وهل استعدَّ لعامِهِ هذا حُسْنَ الاستعدادِ؟ بصورةٍ تليقُ بطموحَاتِه، وترقى إلى تَطلعَاتِهِ، فالحياةُ لا ينفعُ فيها خَـبْطُ العشواءِ، ولا يُجدي فيها العَبَثُ، ولا يَستقيمُ أمرُها بالارتجاليةِ في العملِ، فالإنسانُ لم يُخلَقْ عَبَثَاً ولم يُترَك سُدَى، يقولُ اللهُ تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)) (14) .
   أيها المسلمونَ:
   إن الهجرةَ تُعَلِّمُنا أن اليأسَ ليسَ مِنْ شِيَمِ المسلمِ وصفاتِهِ، وأخلاقِهِ وسمَاتِه؛ فلابدَّ من التفاؤلِ الذي يشرحُ الصدورَ، ويرسمُ البسمَةَ على الثغورِ، فالتفاؤلُ نورٌ يَقشعُ الظُلُمَاتِ مهما تراكمتْ، ويُيَسرُ الأمورَ مهما تعَسَّرَت، ثم هو يُحْيِي في القلوبِ الأملَ فيتواصلُ العملُ، وقد رُويَ أَنّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  مرَّ وهو في طريقِ هجرتِه إلى المدينةِ بغلام راعٍٍ فقالَ للغلامِ: (( لِمَنْ هذه الإبلُ؟ قالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أََسْلَم، فالتفتَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-  إلى أبي بكرٍ وقالَ: سَلِمْتُ إنْ شاءَ اللهُ، ثمَّ قالَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-  للغلامِ: ما اسْمُك؟ قالَ: مسعودٌ؛ فالتفتَ الرسولُ إلى أبي بكرٍ وقالَ: سَعِدتُّ إنْ شاءَ اللهُ)). إن التفاؤلَ يُعْطِي للمتفائلينَ طاقةً يستطيعونَ بها عبورَ الأزماتِ وتذليلَ الصعوباتِ، والتفاؤلُ فيه يُسْرٌ وبشارَةٌ، تُعْطي للحياةِ قيمةً وازدهاراً ونضارَةً، وها هوَ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-  وهو في أَحرجِ الأوقاتِ يَبعثُ الأملَ في قَلْبِ أبي بكرٍ من خلالِ التفاؤلِ الذي كان يُحبُّه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-  ؛ لأن الأملَ دَافِعٌ لعمارةِ الدنيا والآخرةِ بِحُسْنِ العملِ.
   فاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، وتَدَبَّرُوا في سيرَةِ الرسولِ الكريمِ -صلى الله عليه وسلم-  تنالوا الخيرَ العميمَ وتهنأوُا بالعيشِ الكريمِ، وادرسوا مواقِفَهُ دراسةً رَصِيَنةً، واعملوا بكلِّ ما يُحَقِّقُ الخيرَ لكم ولأُمَّتِكُم.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ( (15).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.عِبَادَ اللهِ :
( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ (.
(1) سورة الأحزاب / 70 .
(2) سورة النجم / 4 .
(3) سورة الاحزاب / 21 .
(4) سورة الاعراف / 184 .
(5) سورة إبراهيم / 26 .
(6) سورة الانبياء / 107 .
(7) سورة آل عمران / 200 .
(8) سورة الكهف / 66 .
(9) سورة الكهف / 28 .
(10) سورة النساء / 71 .
(11) سورة يوسف / 5 .
(12) سورة يوسف / 111 .
(13) سورة الزمر / 18 .
(14) سورة المؤمنون / 115 .
(15) سورة الأحزاب / 56 .
آخر تحديث ( 03/02/2007 )
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.