خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

بناء الذات طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
07/04/2007

 خطبة الجمعة بتاريخ 18 ربيع الأول 1428هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

بِناءُ الذَّاتِ

   الْحَمْدُ للهِ الذي شَرَّفَ ذاتَ الإنسانِ على كثيرٍ منَ الذَّوات، بِما أوْدعَ فيها مِنْ بَديعِ الصُنْعِ وجميلِ الصِّفاتِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وصَفيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وحَبيبُه، أفضلُ الخَلْقِ في ذاتِهِ، وأقْومُهُم في تصرُّفاتِهِ، -صلى الله علية وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، ومَنِ اهْتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ ودعا بدعوتهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فاتّقوا اللهَ -عِبادَ الله-، واعْمَلُوا بِما فِيه رِضاهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(1)، واعْلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أنَّ اللهَ خَلَقَ الإنْسَانَ مُتَميِّزاً بِنَوعِهِ، خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، وأسْجَدَ له مَلائِكَتَه المُكَرَّمِين، قال تعالى: ((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ،فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ))(2)، ومِنْ دَواعي هَذا التَكْريمِ أنْ يَتَولَّى الإنسانُ زِمَامَ الإِعْمارِ فِي الأرضِ، يَنْعَمُ بِخَيرَاتِها ويَحْفَظُ نِظامَها ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))(3)، وَلَنْ يَتَمَكَّنَ الإنسانُ مِنْ القِيامِ بِواجِبِهِ هذا إِلاَّ إذا تَمَكَّنَ مِنْ بِنَاءِ ذَاتِهِ، واسْتَطَاعَ ضَبْطَ تَصَرُّفَاتِهِ، قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))(4).

   أيُّها المُؤمِنُونَ:

   إنَّ بِنَاءَ ذَاتِ الإِنْسانِ هو الواجِبُ الأكْثَرُ استِعْجالاً فِي هذا الوُجُودِ، وهو فَرِيضَةٌ شَرْعِيَّةٌ وضَرُورَةٌ حَضارِيةٌ، وقَدْ عُنِيَ الإِسْلامُ بِه غَايَةَ العِنايَةِ، وشَمِلَهُ بِأَقْصَى دَرَجَاتِ الرِّعَايَةِ، كيفَ لا وقَدِ اسْتَغْرَقَ بِنَاءُ الذَّاتِ وصِياغَةُ الشَخْصِيَّةِ سِنِينَ كثيرةً مِنْ حَيَاةِ النَبِيِّ -صلى الله علية وسلم- ، فَتَمَكَّنَ -صلى الله علية وسلم-، -بِفضْلِ اللهِ- مِنْ بِنَاءِ ذَواتِ أصْحَابِهِ، وصَقْلِ شَخْصيَّاتِهِم، حتى تَمَيَّزَ سُلُوكُهُم، فَصَارَ الصِدقُ شِعَارَهُم، والوَفاءُ نَابِعاً مِنْ ذَواتِهِم، وامتَدَحَ اللهُ جَمِيلَ صِفَاتِهِم، قال تعالى: (( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)) (5) ، فاسْتَنَارتِ الإِنْسانِيّةُ بِهِم، وهذا دَليلٌ على ما لِتَرْبِيةِ الذَّاتِ مِنْ أهمِيَّةٍ فِي حَياةِ الأُمَمِ والشُعُوبِ، على مُستوى الفردِ والجماعةِ، لأنَّ فَشَلَ الإنْسانِ فِي بِنَاءِ ذَاتِهِ يَعْنِي فَشَلَهُ فِي إِدْراكِ مَطَالِبِهِ، وإِخْفَاقَهُ فِي القُدْرَةِ على الفِعْلِ، وبِنَاءُ الذَاتِ يُكْسِبُ المَرءَ قُدْرَةً على العَطَاءِ والتَأَثِيِرِ.

   أيُها المُسْلِمُونَ :

   إنَّ بِنَاءِ الذَّاتِ يَبْدَأُ مِنْ بِنَائِها بِنَاءً مَعْرِفِيّاً، بِالغَرْسِ النَظَرِيِّ للأفْكَارِ السَّلِيمَةِ التي يَنْتجُ عَنْها التَّصَوُّرُ الصَّحِيحُ للحَقَائِقِ، وذَلِكَ مِنْ خِلالِ القِرَاءةِ والتَفْكُّرِ فيما حَولَ الإِنْسانِ مِنْ مَظَاهِرِ الحياةِ، فالقِرَاءةُ خُطْوةٌ أَسَاسِيَّةٌ فِي بَرنَامَجِ بِنَاءِ الذَّاتِ، والمُطالَعَةُ هِي مِفْتَاحُ المَعْرِفَةِ، والقِراءةُ  -بِمعْناها الشَامَلِ- وَسِيلَةٌ مُمكِنَةٌ لِكُلِّ فَردٍ فِي عَمَلِيَّةِ التثْقِيفِ الذَّاتيِّ، ولأهْمِيَّتِها جَاءتْ فَاتِحَةً لِرِسَالَةِ الإِسلامِ، قالَ تعالى فِي أَوُّلِ آيةٍ نَزَلتْ: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)) (6) ، فَفِي هذا المَقْطَعِ القصِيرِ تَتَكَرَّرُ القِرَاءةُ مَرَّتَين، ويَرِدُ القَلَمُ الذي هو آلةُ الكِتَابةِ لِمَا يُقرأُ، بَلْ يَكَادُ يَكونُ النَّصُّ كُلُّهُ عَنِ العِلْمِ وأَدَوَاتِه، وفِي تَحْفِيزٍ فَاعِلٍ مِنَ الرسُولِ الكَرِيمِ -صلى الله علية وسلم-  يَحثُّ أصحَابَهُ على القِرَاءةِ، فَعَنْ عَبْد اللهِ بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولُ الله -صلى الله علية وسلم-  : ((مَنْ قَرَأ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِه حَسنة، والحَسَنةُ بِعَشْرِ أمْثَالِها، أَمَا إِنْي لا أَقُولُ: (( ألم )) حَرف، ولَكِنْ ألفٌُ حَرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ))، وحتى تَكونَ قِراءتُنا قِراءةً حقيقيةً تُسَاهِمُ فِي بِنَاءِ ذَواتِنا بِنَاءً سَليماً، فإِنَّها يَجِبُ أنْ تَكُونَ مُتَنَوِّعةً مُتَعَدِّدةَ المَشَارِبِ والعُلومِ، ولا تَقْتَصِرُ على جَانِبٍ مِنَ العُلومِ دونَ غَيرِها، بَلْ نَقْرَأُ فِي مُعْظَمِ المَجَالاتِ، ونَهْتَمُّ بِمَعْرِفَةِ كُلِّ مَا يُمْكِنُنُا مَعْرِفَتُهُ مِمَّا هو نَافِعٌ ومُفِيد، لِزِيادَةِ المَعْرِفَةِ مِنْ كُلِّ جَدِيد، مَعْ تَعْمُّقِ كُلِّ فَردٍ بالقِرَاءةِ فِي مَجَالِ تَخَصُّصِه.

   وإلى جَانِبِ القِراءةِ فِإنَّ الكِتَابَةَ مِنَ الأمورِ المُساعِدَةِ ِجِدّاً عَلى بِنَاءِ الذَّاتِ، لأَنَّها تَحُثُّ صَاحِبَها عَلى الارتِقاءِ بِفِكْرِهِ وزِيادَةِ رَصِيدِهِ المَعْرِفيِّ، فالكَاتِبُ المُتَطَلِّعُ إلى تَنْمِيَةِ ذاتِهِ يَجِدُ نَفْسَهُ مُضْطَّراً إلى القِراءةِ والاطلاعِ على تَجَارُبِ الآخَرَينَ، لِينْمُوَ بِذَلِكَ إبْدَاعُهُ فِي الكِتَابَةِ والإنْتَاجِ الثَقَافِيِّ.

   ومِمّا يُسَاعِدُ عَلى إتْمَامِ البِنَاءِ النَظَرِيِّ للذَّاتِ التَفْكُّرُ والتَأمُّلُ فيما يَخْدُمُ صَالِحَ الإنْسَانِيَّةِ، والاستِماعُ إلى الحَسَنِ مِمّا يَقولُهُ الغَيرُ، فَفِي ذَلِكَ عِبَرةٌ وذِكْرى، ومَنفعةٌ وهُدى، للرَّاغِبِ فِي بِنَاءِ ذاتِهِ، قال تعالى: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ))(7)، وقال: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(8) .

   أيُّهُا المُسلِمونَ:

   وإلى جَانِبِ البِنَاءِ النَظَريِّ للذَّاتِ مِنْ خِلالِ القِراءةِ والتَّفكُّرِ، فإنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الانتِقالِ مِنَ النَّظَرِيَّةِ إلى التَّطْبِيقِ، لأنَّ المَعْرِفَةَ النَّظَريَّةَ لا تُغْنِي إلاَّ بِتَرجَمَتِها إلى وَاقِعٍ عَمَلِيٍّ، يَتَجَلَّى فِيه مُسْتَوى هَذا البِنَاءِ، لِذلكَ شُرِعَتِ العِباداتُ المُختَلِفةُ، لِتَكونَ رافِداً لِبِناءِ جَوَانِبِ الذَّاتِ المُتَعدِّدةِ، وصِيَاغَتِها فِكرِيّاً ورُوحِيّاً ووجْدانيّاً وسُلوكِيّاً، فالصَّومُ عِبادةٌ تُهَذِّبُ الرُّوحَ، وتُرَقِّقُ المَشاعِرَ، وتُثمِرُ أعْلى دَرَجاتِ الضََّبْطِ والإرَادِة، فَفِي الحَديثِ القُدسيِّ يُعلِّلُ اللهُ سُموَّ الصَائِمِ ورِفعَةَ مَكَانَتِهِ بِقُدرَتِهِ عَلى ضَبْطِ رَغَبَاتِهِ، وحُسْنِ إِدَارَتِهِ لِتَصَرُّفاتِهِ، فيَقولُ عزَّ وجلَّ: ((يَدَعُ عبْدي طَعَامَهُ وشَرَابَهُ مِنْ أجْلِي فالصومُ لي وأنَا أجَزي بِه))، وكالصومِ نَجِدُ الزَكَاةَ، فإنَّها تَصُوغُ الفِكْرَ الاجتِمَاعيَّ فِي الذَّاتِ المُسلِمَةِ أفضَلَ صِياغَةٍ، لِتَجْعَلَ مِنْها ذاتاً تَتَحلّى بالعَطْفِ والإيثَارِ، وتَعْشَقُ الطُّهْرَ والنَّقاءَ، قالَ تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا))(9)، وهَكذا سَائرُ العِباداتِ؛ فِهي تُحَرِّرُ المُسْلِمَ مِنَ المَخَاوِفِ وقُيودِ الأنانِيَّةِ وأثْقَالِ التَرَدُّدِ، ثْمَّ تَبُثُّ فِيه الثِّقَةَ بِقُدْرَتِهِ، وتُحَرِّكُ رُوحَ المَسْؤولِيَّةِ فِي دَاخِلِهِ، لِيُعْطِيَ انْعِكَاساً حَقيقيِّاً للإنْسانِ السَوِيِّ، فتَتَحقَّقُ بِهذا التَنَاغُمِ أرْوَعُ الإنِجَازاتِ.

   فاتقوا اللهَ -عبادَ الله-، واحرِصُوا عَلى بِنَاءِ ذَوَاتِكُم، بِنَاءً تَسْتَقِيمُ بِهِ حَياتُكُم، وتَتَجلَّى بِه صُورَةُ شَخْصِيَّتِكُم.

  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

  *** *** ***

   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :

   إِنَّ بِنَاءَ الذَّاتِ ضَرورةٌ حَضَارِيَّةٌ يَقْتَضِيها الرُّقِيُّ البَشَرِيُّ رُوحيّاً ومَعْرفيّاً وسُلُوكِيّاً، وِفْقَ الأُنْمُوذَجِ الذي جَاءتْ بِه رِسَالةُ الإسِلامِ، وهُنا يَبْدُو واضِحاً اشْتِراكُ المَوْرُوثِ مَعَ الواقِعِ المَعِيشِ فِي بَيانِ ضَرورَةِ بِنَاءِ الذَّاتِ على أساسٍ مِنَ الفِكْرِ السَّلِيمِ، والسَّيرِ بِها فِي السُّلُوكِ القَويِمِ، فَما رُزِءَ فَرْدٌ أو جَمَاعةٌ بِمِثْلِ فُقْدَانِ القُدْرَةِ على التَحَكُّمِ بالذَّاتِ والانْجِرافِ وراءَ التَقْلِيدِ الأعْمَى، لأنَّ ذَلِكَ يُخَلِّفُ رُكَاماً هائِلاً مِنَ الضًّعْفِ والوَهْنِ والتَخَلُّفِ، يَقولُ الرسولُُ -صلى الله علية وسلم-  : ((لا تَكُونُوا إِمَّعْةً؛ تَقُولونَ: "إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أحْسنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنا"، ولَكِنْ وطِّنُوا أنْفُسَكُم إنْ أحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ أسَاؤوا فلا تَظْلِموا)).

   هذا وإِنَّ النَّجَاحَ فِي بِنَاءِ الذَّاتِ، وصِياغَةِ الشَّخْصِيِّةِ السَوِيَّةِ، أمْرٌ يَجِبُ أنْ تَتَظافَرَ فِيه جُهُودُ الفَردِ والجَمَاعَةِ، فذَلِكَ مِنَ التَّعَاوُنِ الذي حَثَّ عليه الحَقُّ جلّ وعلا بقولِه: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ))(10)، وهو أمْرٌ لا بُدَّ أنْ يَنْطَلِقَ العَمَلُ  فِيه وِفْقَ مَنْهَجٍ مَدْرُوسٍ وفِكْرٍ مُحْكَمٍ، على أسَاسٍ مِنَ المَوازنِةِ الوَاعِيَةِ بَينَ البِنَاءِ المَاديّ والرُوحِيّ، وذَلِكَ بِمُرَاعَاةِ مَطَالِبِ الرُوحِ والجَسَدِ، والعَقْلِ والفِكْرِ والسُّلُوكِ، كما يَجِبُ أنْ يُوازِنَ هذا المَنْهَجُ  بَينَ الكَمِّ والنَّوعِ والكَيفِ فِي البِنَاءِ الفِكْريّ والمَاديِّ للذَّاتِ، مُوازَنَةً دَقيقَةً تَضَعُ أولَويَّاتِها وِفْقَ قُدُرَاتِ الشَخْصِ وحاجَاتِهِ، ومَطَالِبِ المُجْتَمَعِ وضَرورَاتِهِ، لأنَّ الفَرْدَ مَهْما استَغْنَى بِنَفْسِهِ، فإنَّه يَبْقَى جُزءاً مِنَ المُجْتَمَعِ مِنْ حَولِهِ، يُؤثِّرُ ويَتَأثَّرُ، ويَأخُذُ ويُعْطِي، له حُقوقٌ بِصِفَتِهِ فَرداً مِنْ جَمَاعَة، وعليه واجباتٌ باعْتِبَارِهِ جُزءاً مِنْها، يَقولُ الرسولُ -صلى الله علية وسلم- : ((خَيرُ النَّاسِ أنْفَعُهُم للنَّاسِ)).

   فاتقوا اللهَ -عبادَ الله-، واحرِصُوا على بِنَاءِ ذَواتِكُم، بِنَاءً يُحَقِّقُ لها الكَرَامةَ التي أكْرَمَها اللهُ بِها، واحفَظُوا ما جُعِلَ فِيها مِنَ المُقَوِّمَاتِ، فَقَدْ خُلِقْتُم فِي أحْسَنِ صُورةٍ، وشُرِّفتُمْ بأكَرَمِ وَاجِبٍ.

   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (11).

   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.

   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.

   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.

   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

   عِبَادَ اللهِ :

(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).

(1) سورة الحزاب / 70-71 .

(2) سورة ص / 71-74 .

(3) سورة الإسراء / 36 .

(4) سورة الشمس / 7-10 .

(5) سورة الأحزاب / 35 .

(6) سورة العلق / 1-5 .

(7) سورة الرمز / 18 .

(8) سورة البقرة / 164 .

(9) سورة التوبه / 103 .

(10) سورة المائدة / 2 .

(11) سورة الأحزاب / 56 .

 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.