خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

قَبلَ أَنْ تودّعَ عامَكَ هَذا طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
31/12/2007
طبة الجمعة بتاريخ 26 ذي الحجة 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
قَبلَ أَنْ تودّعَ عامَكَ هَذا
    الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ فِي تَعاقُبِ الليَالِي والأَيّامِ عِبْرَةً للمُعْتَبِرينَ، وفِي انصِرامِ الشُّهورِ والأَعْوامِ ذِكْرَى لِعبَادِه المؤمِنينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، أَمَرَ عِبادَهُ بالاستِفادَةِ ممَّا مَضَى، وعَدَمِ الحَسْرَةِ علَى ما فَاتَ وانقَضَى، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسولُهُ المُرتَضَى، صَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَيْهِ وعلَى آلهِ وأَصحابِهِ أَهلِ الرِّضَى، وعلَى مَنْ تَبِعَهم بإِحسَانٍ إِلى يَوْمِ البَعْثِ والقَضَاء. أَمّا بَعْدُ، فَيا مَعْشَرَ المؤمِنينَ، ويَا جُموعَ المُصلِّينَ، أُوصِيكُم بِتَقوى اللهِ رَبِّ العَالَمينَ، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (1) ، واعلَموا -رَحِمَكُم اللهُ- أَنَّ لِلمؤمِنِ فِي كُلِّ مُناسَبةٍ زَمانِيَّةٍ وقْفَةٌ مَعَ نَفسِهِ، يُحاسِبُها علَى مَا عَمِلَتْهُ فِي أَمسِهِ، ويَشْحَذُ هِمَّتَها لِحُسْنِ التَّزوُّدِ لمُستَقْبَلِهِ ورَمْسِه، فَالأَيّامُ لاَ تَمْرُّ علَيهِ عَبثاً، والشُّهورُ لاَ تأتِي علَيْهِ سُدىً، والأَعوامُ لاَ تَنْقَضِي مَعَهُ هَملا، يَقولُ تعَالَى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ))(2)، وَيقولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ)) (3) ، فَحيَاةُ الإِنسَانِ مَراحِلٌ، والنَّاسُ فِي هَذِه الدُّنيا مَا بَيْنَ مُستَعدٍّ للرَّحيلِ وراحِلٌ، وكُلُّ نَـفـَـسٍ يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ، ودَقَّاتُ قَلْبِ المَرءِ تُباعِدُهُ عَنِ الأَمَلِ، فَالكيِّسُ الحَازِمُ مَنْ حَاسَبَ نَفسَهُ في كل حين، فَهنِيئاً لِمَنْ أَحْسَنَ واستَقامَ، وأستغفر الله من الذنوب والأثام، قَالَ تعَالَى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ)) (4) ، وإِنَّ العَبْدَ المُسلِمَ لَنْ يَبْلُغَ دَرَجةَ التَّقوَى حتَّى يحُاسِبَ نَفسَهُ علَى مَا قَدَّمتْ يَداهُ، وعلَى ما عَقَدَ علَيْهِ العَزْمَ مِنْ شُؤونِهِ فِي جَمِيعِ الأُمورِ، فُينِيبَ إِلَى اللهِ ممَّا اجتَرحَ مِنَ السَّيِّئاتِ، ويَتوبَ مِنْ تَقصِيرِهِ فِي أَداءِ الطَّاعاتِ، مُلتَمِساً عَفْوَ رَبِّهِ ورِضاهُ، طَامِعاً فِي عَظِيمِ فَضْلِهِ وواسِعِ رُحمَاهُ، والمُحاسَبَةُ سِمَةٌ لِلمؤمِنِ الصَّالِحِ، فَعَن شَدّادِ بنِ أَوسٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((الكيِّسُ مَنْ دَانَ نَفسَهَ وعَمِلَ لِما بَعْدَ المَوتِ، والعَاجِزُ مَنِ أَتْبَعَ نَفسَهُ هَواها وتَمنَّى علَى اللهِ الأَمانِي))، والخَطايا وارِدَةٌ علَى كُلِّ إِنسَانٍ، ولَكِنْ لاَ بُدَّ لَها مِنْ تَوبَةٍ، ولاَ تَوبَةَ دونَ مُحاسَبَةٍ، قَالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((كُلُّ بَنِي آدمَ خَطاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ))، يَتوبُ العَبْدُ بَعْدَ أَنْ يُحاسِبَ نَفسَهُ، لِينجُوَ مِنْ عَذابِ الآخِرَةِ، فإِنَّ الشُّهودَ كَثِيرٌ، ولاَ يَمْلِكُ العَبْدُ فِي الاحتِيالِ نَقيراً، ولاَ فَتِيلاً ولاَ قِطْمِيرا، فأَعضَاءُ الإِنسانِ شَاهِدَةٌ علَيْهِ بأَعمَالِهِ، قَالَ تعَالَى: ((حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شيء))(5)، والأَرضُ سَتَشْهَدُ بأَعمَالِ العِبادِ علَيْها، يَقولُ سُبحانَهُ: ((يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا)) (6) ، قالَ الصَّحابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنهم-: يا رَسولَ اللهِ، وما أَخبَارُها؟ قَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ علَى كُلِّ عَبْدٍ أَو أَمَةٍ بِما عَمِلَ علَى ظَهْرِها، تَقولُ: عَمِلْتَ كَذا وكَذا، فِي يَوْمِ كَذا وكَذا))، ورَحِمَ اللهُ الخَلِيفَةَ الرّاشِدَ عمرَ بنَ الخطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- حِينَ قَالَ الكَلِمَةَ الرّاشِدَةَ الرّاسِمَةَ طَرِيقَ النَّجاحِ: ((حَاسِبوا أَنفُسَكُم قَبْلَ أَنْ تُحاسَبوا، وزِنوها قَبْلَ أَنْ توزَنوا، وتأَهبوا لِلعَرْضِ الأَكبَرِ علَى اللهِ)) قَالَ تعَالَى: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى? مِنكُمْ خَافِيَةٌ)) (7) .
  أَيُّها المُسلِمونَ:
  إِنَّ أَولَى ما يَنبَغِي أَنْ يُحاسِبَ المَرءُ نَفسَهُ علَيْهِ هوَ: ماذا قدَّمَ لِنَفسِهِ فِي عَامِهِ المُنصَرِمِ هَذا؟ فَالسَّعِيدُ مَنْ قدَّمَ لَها ما يُصْلِحُها فِي دِينِها ودُنياها، والخَاسِرُ مَنْ فَرّطَ فِي إِصلاَحِ شَأنِها، وقَصَّرَ فِي الرُّقيِّ بِمُستواها، قَالَ تعَالَى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)) (8) ، فَحاسِبْ نَفسَكَ -أَخِي المُسلِم- مَاذا قدَّمْتَ لَها مِنْ أَعمَالِ البِّرِّ والتَّقوَى، ومَاذا ادَّخَرْتَ مِنَ الطَّاعَاتِ لِيَوْمِ الحِسابِ والبَلوَى، إِنَّ المُسلِمَ لَنْ يُؤدِّيَ ما يَجِبُ علَيْهِ فِي نَفسِهِ إِلاَّ بِالعِلْمِ والمَعرِفَةِ، فمَاذا قدَّمتَ -يا عَبْدَ اللهِ- لِنَفسِكَ فِي الجَانِبِ العِلْمِي؟ كَمْ كِتاباً لِلتفقُّهِ بهِ فِي دِينكَ قَرأْتَ، وكَمْ دِراسَةً لِتَهذِيبِ نَفْسِكَ اطَّلَعْتَ علَيها؟ أَمْ كَمْ مِنَ المَعارِفِ الصِّحِيَّةِ لِسَلاَمَةِ بَدَنِكَ حَرِصْتَ علَى الحُصولُ علَيْها؟ أَما سَمِعْتَ قَولَ اللهِ تَعالَى: (( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) (9) ، أَمْ جَهِلْتَ قَولَهُ سُبحانَهُ: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (10) ، هَلْ تَعلَّمْتَ حِرفَةً تَكسَبُ مِنْ ورَائِها رِزقاً حَلالاً؟ أَما عَلِمْتَ أَنَّ احتِرافَ مِهْنةٍ شَرَفٌ لَكَ فِي الدُّنيا والآخِرَةِ؟ إِنْ تَكُنْ فَعَلْتَ فاشكُرِ اللهَ، وحَافِظْ علَى مَا عِنْدَكَ، وارْتَقِ بِمقامِكَ إِلَى ما هوَ أَعلَى وأَسمَى، وإِنْ تَكُنْ غَيْرَ ذَلِكَ فاحْذَرْ مِنَ الأَيّامِ وتَسارُعِها؛ واغتَنِمْ فُرْصَةََ حيَاتِكَ وشَبابِكَ وفَراغِكَ وصِحَّتِكَ وغِناكَ قَبْلَ أَنْ تَفقِدَها أَو تفقِدَ بَعضَها، فَتُصْبِحَ مِنَ النَّادِمينَ، مُمْتَثِلاً بِذلِكَ قَولَ رَسولِكَ -صلى الله عليه وسلم-  : ((اغتَنِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبلَ هَرَمِكَ، وصحّتَكَ قَبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قَبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قَبلَ شُغلِكَ، وحَياتَكَ قَبلَ مَوتِكَ))، مُنتَبِهاً إِلَى قَولِهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((بادِروا بالأَعمَالِ)) وأَسأَلْ نَفسَكَ: ما الذِي أَهمّكَ فِي عَامِكَ المَاضِي وأَقضَّ مَضْجعَك؟ لُقْمَةٌ تَأكُلُها ولِباسٌ تَلْبَسُهُ، أَو مالٌ تَقتَنِيهِ وتَجْمَعُهُ؟ أَمْ كَانَ هَمُّكَ أَنٍ تَحيا للهِ سالِكًا سُبُلَ مَرْضاتِه وجنَّاتِهِ؟ هَلْ كُنْتَ زَارِعاً لِلخَيْرِ تَغْرُسُ بِكَلِماتِكَ الفَضَائلَ، وتَنْثُرُ العِطْرَ بأَفعالِكَ؟ أَمْ كُنْتَ تَغْرِسُ الشرَّ والسُّوءَ وتؤذِي إِخوانَكَ؟
            
  أَيُّها المُسلِمونَ :
            
   ونَحْنُ نَقِفُ مُودِّعِينَ عامَنا هَذا، مُستَقبلِينَ عامَا جَديداً، حَرِيٌّ بِكُلِّ واحِدٍ مِنّا أَنْ يَسأَلَ نَفسَهُ: ماذا قَدّمَ لأُسرَتِهِ ومَنْ هُمْ تَحْتَ ولاَيتِهِ فِي هَذا العَامِ؟ هَلْ أَدَّى الأَمانَةَ، ووفَّى بِواجِبِ الرِّعايَةِ، أَم كَانَ بِخلاَفِ ذَلكَ فَيَستَحِقَّ وصفَ التَّضِييعِ والخِيانَةِ؟ فَإِنَّ بَعضَ النَّاسِ يُهمِلُ بَيتَهُ وأُسرَتَهُ وأَولاَدَهُ، تَمُرُّ علَيْهِ الأَيّامُ والشُّهورُ لاَ يَسْتِمعُ فِيها إِلَى شَكْوَى وَلَدٍ، ولاَ يَنْصُتُ لِرأْي زَوجَةٍ، ولاَ يَسأَلُ عَنْ عَلاَقاتِ أَولاَدِهِ وبَناتِهِ، بَلْ لاَ يَدْرِي متَى يَأتونَ البَيْتَ ومتَى يَخْرُجونَ مِنهُ ولاَ مَعَ مَنْ يَخرُجونَ، لاَ يَهٍتَمُّ بِبناءِ أَفكَارِهم، ولاَ صَقلِ مَواهِبهِم، ولاَ تَهْذِيبِ رِياضَاتِهم وهواياتِهم، إِنَّ دَورَ الأَبِ فِي الأُسرَةِ دَورَ المُرَبِّي الرَّاعِي الأَمِين، والموجِّهِ لِما فِيهِ صَلاَحِ الدُّنيا والآخِرَةِ، إِذا شَبَّ أَحَدُ أَبنائهِ وجّهَهُ لِلكَسْبِ الحَلالِ، وأَرشَدَهُ إِلَى حِرفَةٍ يَكْسَبُ مِنها قوتَ يَوْمِهِ، ويَحْفَظُ بِها مَاءَ وَجهِهِ عَنْ ذُلِّ المَسأَلَةِ، وقَدْ ضَربَ لنَا الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  فِي ذَلكَ مِثالاً عَمليّاً تَطبِيقيّاً، وهوَ أَشبَهُ بِما يُطْلَقُ علَيْهِ اليَوْمَ " المَشْروعاتُ الصَّغِيرةُ " مِنْ خِلالِ ذَلِكَ الصَّحابِي الأَنصَارِي الذِي جَاءَ يَسأْلُ -أَي يَطْلُبُ الصَّدَقَةَ- فَطَلَبَ مِنهُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  أَنْ يَأْتِي بِشَيءٍ مِنْ متَاعِ بَيْتِهِ، وبَاعَهُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  بِدرْهَميْنِ ثُمَّ قَالَ لهُ: ((اشتَرِ بأَحَدِهِما طَعاماً لأَهلِكَ، وبالآخَرِ قَدوماً  -أَي فأساً- فأتِني بِهِ)) وشَدَّ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  بِيدِهِ عُوداً بالقَدومِ، وأَمَرَ الصَّحابِي أَنْ يَحْتَطِبَ ويَبيعَ، فاحتَطَبَ وباعَ ورَبِحَ مالاً وفيراً، ولمّا جاءً للنَّبِي -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ لهُ: ((هَذا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجيءَ المَسأَلَةُ نُكْتَةً فِي وجْهِكَ يَوْمَ القِيامَةِ، إِنَّ المَسأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثلاَثَةٍ: لِذي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، أَو لِذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، أَو لِذي دَمٍ مُوجِعٍ))، فَكَمْ مِنَ الأُسَرِ بِها شَابٌّ أَو أَكْثَرُ علَى الأُسرَةِ والمُجتَمعاتِ أَنْ تُحرِّكَ هِمّتَهم، وتَشْحَذَ عَزِيمتَهم، وتوجِّهَهُم وتُرشِدَهُم لِعَمَلٍ يَتَكسَّبونَ مِنهُ، ولاَ يَحِيلونَ بِيْنَهم وبَيْنَ العَمَلِ بِحُجَّةِ أَنَّ العَمَلَ لاَ يُناسِب مَقامَهُم.
    فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وأَدّوا مَا أَوجَبَهُ الله علَيْكُم تِجَاهَ أَنفُسِكُم وأُسَرِكم، واعمُروا حَياتَكم بِما يُصْلِحُ دِينَكم ودُنياكم.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ : فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إنَّ الحاجةَ إِلَى سُلوكِ نَهْجِ المُراجعَةِ والمُحاسبَةِ لَيسَ مختصّاً بأَفرادٍ أَو بِطائفَةٍ مِنْ دونِ النَّاسِ، بَلْ إِنَّ الأُمَّةَ المُسلِمَةَ بِمجْموعِها مُفْتقرةٌ إِلَيهِ، ولاَ غِناءَ لَها عَنهُ وهِيَ تُودِّعُ عامًا مُنصَرِماً وتَستَقبِلُ عاماً جَديداً، لَكنَّها فِي حقِّ الأُمَّةِ مُراجَعةٌ تتَّسِعُ أَبعادُها، ويَعُمُّ نِطاقُها، ويَعْظُمُ نَفْعُها؛ إِذْ هِيَ نَظْرةٌ شَامِلَةٌ لِلأَحداثِ، وتَأمُّلٌ واعٍ للنَّوازِلِ، وتَدارُسٌ دَقيقٌ للعِظاتِ والعِبَر، وسَعيٌ حثِيثٌ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ إِلَى تَصْحيحِ المَسارِ وإِقامَةِ العِوَجِ لِتذليلِ الطَّريقِ أَمامَ استِئنَافِ الحَياةِ القَويمَةِ المُرتَكِزةِ علَى هَدْي كِتَابِ اللهِ عزَّ وجَل، المُستَضيئةِ بأَنوارِ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  ، وصدَقَ سُبحانَهُ إِذْ يَقولُ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (11) ، فمَا أَحْوَجَ الأُمَمَ والمُجتَمعاتِ، إِلَى جُهودِ أَبنَائِها، لِيَعمُروا مَرافِقَها، ويَنْهضُوا بِمشَارِيعِها، ويُحافِظُوا علَى مُنجَزاتِها، ويُساهِموا فِي نَهضَتِها، وهذَا عَامٌ رَحَلتْ أَيّامُهُ، وانقَضَتْ شُهورُهُ، وأَصبَحَ مِنَ التَّارِيخِ، فَليَقِفْ كُلٌّ مِنّا وقْفَةَ صِدْقٍ ووفَاءٍ لِوطَنِهِ ومُجْتَمَعِهِ، يَسأَلُ نَفسَهُ: كَمْ مِنَ المَشارِيعِ الخَيْرِيّةِ سَاهَم فِي إِنشَائِها، أَو المَرافِقِ الاجتَماعِيّةِ حَرِصَ علَى تَفعِيلِها، مَاذا قدَّمَ لأُمتِهِ مِنَ الدِّراساتِ والبُحوثِ النَّافِعَةِ، التِي تَرتَقِي بِفكْرِ أَبنَائِها، وتُساهِمُ فِي عُمْرانِها وبِنائِها؟ وفِي الحَدِيثِ عَنِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِذا ماتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثِ: صَدَقَةٌ جَارِيةٌ، أَوعِلْمٌ يٌنتَفعُ بِهِ، أَو وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعو لَهُ))، فَإِنْ كُنْتَ قَدَّمتَ    -أَخِي المُسلِم- لأُمَّتِكَ ومُجتَمَعِكَ ما يَسرُّكَ فِي عامِكَ هذَا؛ فَاشكُرِ اللهَ علَى تَوفِيقِهِ، واسأَلْهُ المَزيدَ فِي عامِكَ المُقبِلِ، وإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلِكَ فَلاَ تَجْعلِ الحَسْرَةَ تَحولُ بَيْنكَ وبَيْنَ عِمارَةِ عَامِكَ القَادِمَ بِكُلِّ نَافِعٍ ومُفِيدٍ، فَذلِكَ مَاضٍ لاَ حِيلَةَ لإِرجاعِهِ، وإِنْ كُنْتَ تَمِلكُ مَحْوَ ذنوبِهِ وسَيَّئاتِهِ بالتَّوبَةِ والاستِغفارِ، أمّا عامُك الجَديدُ فَإِنَّكَ تَمْلِكُهُ إِنْ كَتَبَ اللهُ لكَ فِيهِ أَجلاً، إِبدأ عامَكَ الآتِي بهِمَّةٍ عَالِيةٍ وعَزِيمَةٍ وقَّادَةٍ، مُقدِّماً حُقوقَ خَالِقكَ ومَولاكَ، وحقُّهُ سُبحانَهُ أَنْ يُطاعَ فَلاَ يُعصَى، وأَنْ يُذكَرَ فَلاَ يُنسَى، وأَنْ يُشكرَ فَلاَ يُكفَر، وأَدِّ حُقوقَ والِدَيْكَ بالرِّعايَةِ والعَطْفِ والحنَانِ، وحُقوقَ زَوجِكَ وأَبنائِكَ بالتَّربِيةِ الصَّالِحَةِ وتَرسيِخِ الإِيمانِ، تَذكَّرْ أَقارِبَك وجِيرانَكَ، والمُحتاجِينَ مِنَ الأَرامَلِ واليتَامَى والمَساكينِ، وسَاهِمْ بِهمَّةٍ وإِخلاَصٍ فِي الرُّقيِّ بأُمَّتِكَ، والنُّهوضِ بِمُجتَمعِكَ، وأَدِّ حُقوقَ الخدَمِ والعُمَّالِ قَبلَ أَنْ يَجِفَّ عَرقُهم، واحذَرْ ظُلمَهم، فإِنَّ الظُّلمَ ظُلماتٌ يَوْمَ القيامَةِ، وأَنتَ تَرى زَوالَ الأَيّامِ وذَهابَ الأَعمَارِ، ذَكِّرْ نَفسَكَ بِحقِيقَةِ الدُّنيا وأَنَّها دَارُ عُبورٍ إِلى النَّعِيمِ المُقيمِ فِي جنَّاتِ الخُلودِ، قَالَ تعَالَى: ((مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ)) (12)، إِنَّكَ فِي العَامِ الجَديدِ لاَ تَدرِي ما يَستَجدُّ لكَ فِيهِ مِنْ أَحوالٍ مَعَ تَقلُّباتِ الليْلِ والنَّهارِ، فَخُذْ مِنْ صِحّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوتِكَ، ومِنْ غِناكَ لِفقْرِكَ، ومِنْ شَبابِكَ لِهَرمِكَ، وها هوَ العَامُ الجَديدُ قَدْ أَقَبَلَ، فاستَثْمِرْ أيّامَهُ ولَيالِيَهُ، قَالَ اللهُ تَعالَى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (13) .
   فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وأَصلِحوا أَمْرَ دِينِكم ومعَاشِكم، وتَفكَّروا فِي مَصِيرِكم ومَآلِكم.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (14).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
                      
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الحضر / 18 .
(2) سورة المؤمنون / 115 .
(3) سورة آل عمران / 190 .
(4) سورة فصلت / 46 .
(5) سورة فصلت /20-21 .
(6) سورة الزلزلة / 4 .
(7) سورة الحاقة / 18 .
(8) سورة الشمس / 7-10 .
(9) سورة الزمر / 9 .
(10) سورة المجادلة / 11 .
(11) سورة الحشر / 18 .
(12) سورة الرعد / 35 .
(13) سورة الزمر / 53 .
(14) سورة الأحزاب / 56 .
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.