تـأمُّلاتٌ في سُورَةِ الرَّعدِ |
|
|
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء
|
29/01/2008 |
خبطة الجمعة بتاريخ 17 محرم 1427هـ بسم الله الرحمن الرحيم تـأمُّلاتٌ في سُورَةِ الرَّعدِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ، أَنزلَ آياتِهِ المُحكَمَاتِ بِالحَقِّ المُبِينِ، علَى رَسُولِهِ الأَمِينِ، لِهِدايَةِ النَّاسِ أَجمَعِينَ، أحمَدُه سُبْحانَه بِما هُوَ لَهُ أهلٌ مِنَ الحَمدِ وأُثْنِي عَليه، وَأُؤمِنُ بهِ وأتَوكَّلُ عَلَيه، مَنْ يَهدِه اللهُ فَلا مُضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضللْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، سَبَّحَ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ والمَلائكةُ مِنْ خِيفَتِهِ، ورَفَعَ السَّمواتِ بِغَيرِ عَمَدٍ بِقُدْرَتِهِ، وَمَدَّ الأَرضَ ودَحَاهَا، وبِالجِبالِ أَرْسَاهَا، وأَجْرَى فِيها الأَنهَارَ، وأَخْرَجَ مِنْ تُربَتِها الزُّرُوعَ والثِّمارَ، سُبْحَانَهُ يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ، جَعَلَ ذَلِكَ آيةً لأُولِي الأَبصارِ والأَفْكَارِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرسلَهُ رَبُّهُ في أُمَّةٍ قَد خَلَتْ مِنْ قَبلِها أُمَمٌ، لِيتلوَ علَيهِمُ القُرآنَ فَيُخرجَهُم مِنَ الظُّلَمِ، وَيَحثَّهُمْ على الإيمانِ بِاللهِ الذي أَوجَدَهُم مِنَ العَدَمِ، -صلى الله عليه وسلم-وَعَلَى آلِهِ وَصَحْابِهِ أَجمَعِينَ، والتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيا أَيُّهَا المُسلِمُونَ : سُورَةُ الرَّعْدِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، وَما بَيْنَ الآياتِ الأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ يُوسفَ السَّابِقَةِ وَسُورَةِ الرَّعْدِ اللاَّحِقَةِ مُنَاسَبَةٌ لَطِيفَةٌ دَقِيقَةٌ، وَصِلَةٌ قَوِيَّةٌ وَثِيقَةٌ، فَفِي الآياتِ الأَخِيرَةِ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ يُجْمِلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الآيَاتِ السَّماوِيَّةَ والأَرضِيَّةَ فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ: ((وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ))(1)، وَفِي سُورَةِ الرَّعْدِ يُفَصِّلُ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ أَتَمَّ تَفْصِيلٍ، وَيُقَدِّمُ علَى قُدرَتِهِ وَحِكْمتِهِ أَعظَمَ حُجَّةٍ وأَقْوَمَ دَلِيلٍ، كَما أَنَّ آخِرَ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ وأَوَّلَ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ يَشْتَرِكْنَ في وَصفِ القُرآنِ الكَرِيمِ، فَهُوَ لَيْسَ بِالحَدِيثِ المُفْتَرَى، بَلْ هُوَ الحَقُّ وَبِالحَقِّ نَزَلَ، لاَ مِراءَ في ذَلِكَ ولاَ جَدَلَ، يَقُولُ تَعالَى في آخِرِ آيَةٍ مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ: ((مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))(2)، وَيَقُولُ في أَوَّلِ آيةٍ مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: ((المر، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ))(3)، وتَعرِضُ السُّورةُ علَى القَلْبِ البشريِّ الكَونَ في شتَّى المَجَالاَتِ، ومُختلَفِ السَّاحَاتِ، وتُهِيبُ بِهِ أنْ يَتَلَفَّتَ إلى جَمِيعِ الاتِّجَاهَاتِ؛ فَالكَونُ كُلُّهُ أَمَامَ الإِنسانِ مَعرُوضٌ، والتَّفكِيرُ فِيهِ أَمْرٌ مَحتُومٌ ومَفْرُوضٌ، يَقُولُ اللهُ سُبحانَهُ: ((اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(4)، إِنَّ الكَونَ: أَرضَهُ وسَمَاءَهُ، يَابِسَهُ ومَاءَهُ، جِبَالَهُ ووِهَادَهُ، شَمْسَهُ وقَمَرَهُ، زَرْعَهُ وَثَمَرَهُ، وَكُلَّ شَيءٍ فِيهِ، دَلاَئِلٌ واضِحَاتٌ، ومَنَاراتٌ هَادِيَاتٌ، وَآيَاتٌ مُفَصَّلاَتٌ، فَهلْ مِنْ مُتَفَكِّرٍ وعَاقِلٍ، يُمَيِّزُ الحَقَّ مِنَ البَاطِلِ؟ عِبَادَ اللهِ : كَما تُهِيبُ السُّورَةُ الكَرِيمَةُ بِالعُقَلاَءِ أَنْ يَنظُرُوا إِلَى قِطَعِ الأَرضِ المُتجَاوِرَاتِ تُسقَى بِماءٍ وَاحِدٍ، فَيَخرُجُ نَبَاتُها وثَمَرُهَا مُختَلِفَ الشَّكْلِ والحَجْمِ، واللَّونِ والرِّيحِ والطَّعْمِ، فَالسِّرُّ إِذاً لَيْسَ في اختِلاَفِ المَنْبَتِ وَالمَكَانِ الَّذِي حَوَاهَا، ولاَ في اختِلاَفِ المَاءِ الَّذِي سَقَاهَا وأَرْوَاهَا؛ إِنَّ السِّرَّ في نَظَرِ النُّبهَاءِ، وفِكْرِ العُقَلاَءِ هُوَ تِلْكَ القُدْرَةُ البَاهِرَةِ، والحِكْمَةِ الظَّاهِرَةِ، السِّرُّ في الصُّنْعِ العَجِيبِ لِلْقَرِيبِ المُجِيبِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ))(5)، أَفلَيْسَ مِنَ العَجِيبِ والأَمْرِ الغَرِيبِ بَعدَ مَظَاهِرِ هَذِهِ القُدرَةِ الإِلَهِيَّةِ الإنكارُ الشَّدِيدُ لإِعَادَةِ الإِنْسَانِ بَعْدَ مَوتِهِ في خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ يَقُولُ تَعَالَى: ((وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ))(6)، وَتُهِيبُ سُورَةُ الرَّعْدِ بِالإِنْسَانِ أَنْ يَعلَمَ عِلْماً لاَ يُخَالِطُهُ شَكٌ ولاَ رَيْبٌ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعالَى عَالِمُ الشَّهَادَةِ وَالغَيبِ، وأَنَّ أَعْمَالَ كُلِّ إِنْسَانٍ وأَقْوالَهُ مُحصَاةٌ علَيهِ، وأَنَّ لَهُ حَفَظَةً مِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ بَينِ يَدَيهِ، تُسَجِّلُ علَيهِ كُلَّ شَارِدَةٍ، وتُحصِي علَيهِ كُلَّ وَارِدَةٍ، فَعلَيهِ إِذاً -وَالحَالُ هَكَذَا- أَنْ يَخْتَارَ الطَّيِّبَ مِنَ القَولِ، والصَّالِحَ مِنَ العَملِ في سِرِّهِ وجَهْرِهِ، ولَيلِهِ ونَهارِهِ، فَإِنَّ اللهَ جَلَّ شَأْنُهُ لاَ يُغَيِّرُ أَحوَالَ النَّاسِ مِنْ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، وَحَيَاةٍ سَعِيدَةٍ صَافِيَةٍ، وغَيرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمِهِ الضَّافِيَةِ إِلَى عكْسِ ذَلِكَ حتَّى يُغَيِّرُوا هُمْ قَبلَ ذَلِكَ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ))(7). عِبَادَ اللهِ : وَتَتَضَمَّنُ سُورَةُ الرَّعْدِ مَثَلاً لِلْحَقِّ والبَاطِلِ، يَضْرِبُهُ اللهُ تَعالَى لِلنَّاسِ لَعلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، ويَتَّعِظُونَ ويَعتَبِرُونَ، ويَتَضَمَّنُ المَثَلَ مَشْهَدَينِ قَرِيبَينِ، وَمَنْظرَينِ مُتَكَرِّرَينِ، يَعرِضُهُمَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْنَّاسِ لإِثْبَاتِ أَنَّ الحَقَّ ثَابِتٌ أَصِيلٌ مَنْصُورٌ، وأَنَّ البَاطِلَ مُضْمَحِلٌّ زَائِلٌ مَقْهُورٌ، فَالحَقُّ في ثَبَاتِهِ وأَصالَتِهِ مَثَلُهُ مِثْلُ مَاءٍ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ تَجَمَّعَ ثُمَّ نَزَلَ في الوِدْيَانِ، فَاستَوعَبَهُ كُلُّ وَادٍ بِقَدرِهِ وَحَسْبَ حَجْمِهِ، ثُمَّ اندَفَعَ فَعَلَتْهُ لِشِدَّةِ اندِفَاعِهِ رَغوةٌ، حَجَبَتِ المَاءَ وَسَتَرَتْهُ، بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الرَّغْوَةَ الَّتِي تُمَثِّلُ البَاطِلَ ما تَلْبَثُ أَنْ تَنْقَشِعَ وتَغِيبَ، بَعْدَ وَقْتٍ قَرِيبٍ؛ لِيَظْهَرَ المَاءُ الَّذِي يُمَثِّلُ الحَقَّ في صَفَائِهِ، وثَبَاتِهِ ونَقَائِهِ، والحَقُّ أَيضاً في ثَبَاتِهِ وَنَقَائِهِ وأَصَالَتِهِ مَثَلُهُ مِثْلُ مَعْدِنٍ أَصِيلٍ وُضِعَ فَوقَ نَارٍ، فَصَارَ سَائِلاً يَعلُوهُ زَبَدٌ وكَدَرٌ مَا لَبِثَ أَنِ انقَشَعَ؛ فَبَدَا المَعْدِنُ الأَصِيلُ وَظَهَرَ، فَالمَعْدِنُ الأَصِيلُ مَثَلُهُ مَثَلُ الحَقِّ فِي ثَبَاتِهِ وَنَقَائِهِ، وَمَا عَلاَهُ مِنْ كَدَرٍ مِثْلُ البَاطِلِ في اضْمِحْلاَلِهِ وفَنَائِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ)) (8). عِبَادَ اللهِ : وَبِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الحَقِّ والبَاطِلِ وَمَا بَينَهُما مِنْ تَضَادٍّ واختِلاَفٍ، ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ صِنْفَينَ مِنَ النَّاسِ: صِنْفاً عَمَتْ بَصِيرَتُهُ، وَصِنْفاً كَانَ بَصِيراً؛ فَاختَلَفَا عَاقِبةً وَمِصيراً، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ))(9)، يَصِفُ اللهُ العَالِمِينَ العُقَلاَءَ بِصِفَاتٍ عَظِيمَةٍ وَسَجَايَا كَرِيمَةٍ، فَهُمْ يُوفُونَ بِالعُهُودِ ولاَ يَنْقُضُونَ، ويَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوصَلَ ولاَ يَقْطَعُونَ، ويَخشَونَ رَبَّهُمْ ويَخافُونَ، ويَصبِرُونَ ولا يَجزَعُونَ، ويُقِيمُونَ الصَّلاَةَ ولاَ يَهجُرُونَ ولاَ يَتَكَاسَلُونَ، ويُنفِقُونَ سِرّاً وعَلاَنِيَهً ولاَ يَبْخَلُونَ؛ ثُمَّ يُشِيرُ اللهُ تعالى إِلَى هَؤُلاَءِ العُقَلاَءِ بِالإِشَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى البُعْدِ؛ لِلدَّلاَلَةِ علَى سُمُوِّ مَنْزِلَتِهِم، ورِفْعَةِ مَكَانتِهِم، ويُبَيِّنُ ما أَعَدَّ لَهُم مِنْ عَاقِبَةٍ حَمِيدَةٍ، وَنِهَايَةٍ سَعِيدَةٍ، فَيَقُولُ سُبْحَانَهُ وتَعالَى: ((أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ،جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ))(10)، وفي الصُّورَةِ المُقابِلَةِ لِهؤُلاَءِ السُّعدَاءِ يَصِفُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّعَسَاءَ الأَشْقِيَاءَ بِصِفَاتٍ ذَمِيمَةٍ؛ فَهُمْ سَيِّئُوا الأَخْلاَقِ، كَيفَ لاَ؟ وَهُمْ يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ وَيَقْطَعُونَ ولا يَصِلُونَ، ويُفْسِدُونَ في الأرضِ ولا يُصلحون، ثُمَّ يُشيرُ إِلَى هَؤُلاءِ البُعداءِ بِإِشَارةِ البُعْدِ الدَّالَّةِ على بُعْدِهِم عَنْ رَحمَةِ اللهِ ومَثُوبَتِه، وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ، وَيُبَيِّنُ استِحقَاقَهُم لِلَعْنَةِ اللهِ القَوِيِّ القَهَّارِ، وَوَخَامَةِ العاقِبةِ وسُوءِ الدَّارِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)) (11) . فَاتقوا اللهَ -عبادَ اللهِ-، وكُونُوا مِنْ أُولي الأَلْبَابِ والأَفْكَارِ الثَّاقِبَةِ، يُحْسِنِ اللهُ لَكُمُ العَاقِبَةَ. أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ. *** *** *** الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : لاَ شَيءَ يُطَمئِنُ القُلُوبَ وَيُضِيءُ الدُّرُوبَ، وَيَقْضِي عَلَى الهُمُومِ والكُرُوبِ كَذِكْرِ اللهِ عَلاَّمِ الغُيُوبِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى في سُورَةِ الرَّعْدِ: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))(12)، إِنَّ القُلُوبَ التَّقِيَّةَ، الطَّاهِرَةَ النَّقِيَّةَ، تَطْمِئِنُّ وَتَستَرِيحُ بِالصِّلَةِ بِاللهِ، وَتَشْعُرُ بِالأَمْنِ في حِمَاهُ، إِنَّ المُؤْمِنَ هُوَ للهِ ذَاكِرٌ، وَلِنِعَمِهِ شَاكِرٌ، لاَ يَقْلَقُ وَلاَ يَخَافُ، وَكَيفَ يَخَافُ واللهُ مَعَهُ بِالرَّحْمَةِ والرِّعَايَةِ، وَالتَّوفِيقِ وَالهِدَايَةِ؟ يقولُ اللهُ تَعالَى في حَدِيثِهِ القُدْسِيِّ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي))، وَيَقُولُ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي إِذَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ))، إِنَّ الذَّاكِرَ للهِ قَدْ أَحْسَنَ الإِنَابَةَ، فَهَدَى اللهُ قَلْبَهُ وأَحْسَنَ لَهُ مَآبَهُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى في سُورَةِ الرَّعْدِ: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ))(13)، وَمِمَّا حَفَلَتْ بِهِ سُورَةُ الرَّعْدِ واحتَضَنَتْهُ آيَاتُهَا الكَرِيمَةُ التَّسلِيَةُ لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-والتَّسْرِيَةُ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِذِكْرِ مَا لاَقَاهُ إِخْوَانُهُ الرُّسُلُ مِنِ استِهزَاءٍ وَمَشَقَّةٍ وَعَنَاءٍ فَصَبَرُوا، وأَملَى اللهُ لِمَنِ استَهزَؤُوا بِهِمْ وَكَفَرُوا، لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ إِلَى التَّوبَةِ يَسرِعُونَ، فَلَمَّا أَصَرُّوا علَى ما هُمْ فِيهِ حَلَّ بِهِمْ عِقَابٌ يَستَحِيلُ تَجَنُّبُهُ وتَلاَفِيهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ))(14)، وَتَحُثُّ السُّورَةُ الكَرِيمَةُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-علَى التَّمَسُّكِ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ تَوحِيدٍ، وَلاَ يَبتَعِدُ عَنْهُ وَلاَ يَحِيدُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ))(15)، وَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ))(16)، وَيُبَيِّنُ اللهُ لِرَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-أَنَّ قُصَارَى مَا علَيهِ أَنْ يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ، وَيُوَضِّحَ دَعْوَتَهُ، وَلَيْسَ علَيهِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيءٌ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ))(17)، وَبِهَذِهِ التَّوجِيهَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ يَنْزَاحُ عَنْ صَدْرِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-مَا كَانَ يَشْعُرُ بِهِ مِنْ ضِيقٍ وَهَمٍّ؛ لِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ، وَجُحُودِ مَنْ جَحَدَ، فَالهِدَايَةُ مِنَ اللهِ الوَاحِدِ الأَحَدِ. فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- ، وَكُُونُوا بِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-مُتَأَسِّينَ، ولِكِتَابِ اللهِ مِنَ المُتَفَقِّهِينَ الدَّارِسِينَ. هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (18). اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ. اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ. عِبَادَ اللهِ : (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )). (1) سورة يوسف / 105 . (2) سورة يوسف / 111 . (3) سورة الرعد / 1 . (4) سورة الرعد / 2- 3 . (5) سورة الرعد / 4 . (6) سورة الرعد / 5 . (7) سورة الرعد / 9-11 . (8) سورة الرعد / 17 . (9) سورة الرعد / 19 . (10) سورة الرعد / 22-24 . (11) سورة الرعد / 25 . (12) سورة الرعد / 28 . (13) سورة الرعد / 29 . (14) سورة الرعد / 32 . (15) سورة الرعد / 30. (16) سورة الرعد / 36 . (17) سورة الرعد / 40 . (18) سورة الأحزاب / 56 . |