خطبة الاسبوع
spacer

  

spacer
spacer  
spacer spacer

رَسُولُ العَدالَةِ والرَّحمَةِ -صلى الله عليه وسلم- طباعة ارسال لصديق
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
15/03/2008
خطبة الجمعة بتاريخ 13 ربيع الأول 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
رَسُولُ العَدالَةِ والرَّحمَةِ -صلى الله عليه وسلم-
    الحَمْدُ للهِ الذِي بَعَثَ مُحَمَّداً بِالحَقِّ رَسولاً، وجَعَلَهُ إِلَى السَّعادَةِ هَادِياً ودَلِيلاً، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، رَضِيَ لَنَا الإِسلاَمَ دِينا، وأَنْزلَ إِلَيْنا نُوراً وكِتاباً مُبِيناً، وَنَشَرَ بِالإِيمانِ عَلَى قُلُوبِنا بَرْداً وَيقِيناً، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، أَقْوَمُ الخَلْقِ سِيرةً، وأَنْقاهُم بَاطِناً وسَرِيرَةً، -صلى الله عليه وسلم-وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وعَلَى مَنْ تَبِعَهُم بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ البَعْثِ والجَزاءِ.  أَمّا بَعْدُ، فَهَنِيئاً لَكُمْ -أَيُّها المُسلِمونَ- ذِكْرَى المَولِدِ النَّبِويِّ الشَّرِيفِ، هَذِهِ الذِّكْرَى المُبارَكَةُ العَطِرَةُ، ذِكْرَى تَسْعدُ بِأَرِيجِ شَذَاها نُفُوسُ البَشَرِيَّةِ، وتَستَنيرُ بِمَعانِي دِلاَلاتِها الحَضارَةُ الإِنسانِيَّةُ، فَإِنَّ مَولِدَ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-لَهُ دَلاَلاتٌ عَظِيمَةٌ، ومَعانٍ سَامِيةٌ كَرِيمَةٌ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ))(1)، وَقالَ جلَّ وَعَلاَ: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(2)، هَذا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-الذِي تَعِيشونُ هَذِهِ الأَيّامَ ذِكْرَى مَولِدِهِ الشَّرِيفِ، فَلَقَدْ جَاءَ مُحمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-بِلِواءِ العَدلِ والمُساواةِ بَيْنَ النَّاسِ، ورَفَعَ عَنْهُم مَا انْتَشَرَ مِنَ الظُّلْمِ والبَأْسِ، فَأعلَنَ أَنَّهُم سَواسِيةٌ لاَ تَفاضُلَ بَينَهم إِلاَّ بِجَمِيلِ الفَضائِلِ، ولاَ تَمايُزَ بَينَهُم إِلاَّ بِطِيبِ الخِلاَلِ والشَّمائِلِ، قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))(3)، وَقَدْ دلَّتِ الأَدِلَّةُ الشَّرعِيَّةُ وسُنَنُ اللهِ فِي الأَوَّلِينَ والآخِرينَ أَنَّ العَدلَ دِعامَةُ بَقاءِ الأُمَمِ، ومُستَقَرُّ أَساساتِ الدُّوَلِ، وبَاسِطُ ظِلاَلِ الأَمْنِ، ورَافِعُ أَبنِيَةِ العِزِّ والمَجْدِ، ولِذلِكَ كَانَ العَدلُ هوَ غايَةَ الرِّسالاَتِ السَّماوِيَّةِ كُلِّها، قَالَ تَعالَى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِ?لْبَيّنَـ?تِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْمِيزَانَ لِيَقُومَ ?لنَّاسُ بِ?لْقِسْطِ وَأَنزْلْنَا ?لْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـ?فِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّ ?للَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))(4)، إِنَّ عَدلَ الإِسلاَمِ الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-هوَ عَدلٌ يَسَعُ الأَصدِقاءَ والأَعْداءَ، والأَقْرِباءَ والغُرَباءَ، والأَقوياءَ والضُّعفاءَ، والمَرؤوسِينَ والرُّؤساءَ، إِنَّهُ عَدلٌ يُنَظِّمُ كُلَّ مَيادِينِ الحَياةِ ومَرافِقِها، ودُروبِها وشُؤونِها، فِي الدَّولَةِ والقَضاءِ، والرَّاعِي والرَّعِيَّةِ، والأَولاَدِ والأَهلِينَ، إِنَّهُ عَدلٌ فِي حَقِّ اللهِ، وَعدلٌ فِي حُقوقِ العِبادِ، فِي الأَبْدانِ والأَمْوالِ والأَقْوالِ والأَعْمَالِ، قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً))(5)، إِنَّهُ عَدلٌ فِي كُلِّ مَيْدانٍ، وقِسْطٌ يَكفُلُ الحَقَّ لِكُلِّ إِنسَانٍ، ولَو كَانَ مِنَ الأَعداءِ المُناوئينَ: ((ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاء بِ?لْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?))(6) ، هَذا هوَ العَدلُ العَالَمِيُّ الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-مُنْذُ أَكثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا، والذِي أَمَرَهُ رَبُّهُ أَنْ يَصْدَعَ بِهِ حَيْثُ قَالَ: ((وَقُلْ ءامَنتُ بِمَا أَنزَلَ ?للَّهُ مِن كِتَـ?بٍ وَأُمِرْتُ لأَِعْدِلَ بَيْنَكُمُ))(7)، وإِذا كَانَ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- قَدِ اهتمَّ بِالعَدلِ بَيْنَ عُمومِ النَّاسِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ أَصَّلَهُ أَكَثَرَ وأَعمَقَ بَيْنَ ذَوِي الرَّوابِطِ النِّسَبِيَّةِ، والقَرابَاتِ السَّبَبِيَّةِ، فَجَعلَ أَحَقَّ النَّاسِ بِالعَدلِ الأَقرَبينَ، فَمَنِ ابتَغَى بِرَّ أَبْنائِهِ وبَناتِهِ، لِيُحِبُّونَهَ فِي حَياتِهِ، ويَتَرحَّمونَ عَلَيهِ بَعْدَ مَماتِهِ، وتَصفُو قُلُوبُهم مَعَ بَعْضِهم؛ فَلْيَتَّقِ اللهَ ولَيُقِمِ العَدلَ فِيما بَينَهم، يُساوِي بَينَهم فِي العَطِيَّةِ والمُعامَلَةِ والنَّظْرَةِ والابتِسامَةِ، فَعَنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ  -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ أَباهُ أَتَى بِهِ رَسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-فَقالَ: إِنِّي نَحلْتُ ابنِي هَذا غُلاَمًا كَانَ لِي، فَقالَ رَسولُ اللهِ (: ((أَفعلْتَ هَذا بِوَلَدِكَ كُلِّهِم؟)) قَالَ: لاَ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((اتَّقوا اللهَ واعْدِلُوا فِي أَولاَدِكُم)) قَالَ: فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ، وفِي رِوايَةٍ: ((إِنَّ لِبَنِيكَ عَلَيكَ مِنَ الحَقِّ أَنْ تَعْدِلَ بَينَهُم، فَلاَ تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ))، وفِي أُخْرَى: ((أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا إِلَيكَ فِي البِرِّ سَواءً؟)) قَالَ: بَلَى، قَالَ: ((فَلاَ إِذَنْ))، وفِي رِوايَةٍ: ((سَوُّوا بَيْنَ أَولاَدِكُم فِي العَطِيَّةِ كَما تُحِبُّونَ أَنْ يُسَوُّوا بِينَكُم فِي البِرِّ))، إِنَّ النُّفوسَ حِينَ تَتَشَرَّبُ بِالعَدلِ فَيَكونُ سَجِيَّةً لَها فَإِنَّهُ يَقُودُها إِلَى مَحاسِنِ الأَخلاَقِ ومَكارِمِ المُروءَاتِ، فَيَنْعَكِسُ هَذا العَدلُ عَلَى السُّلوكِ كُلِّهِ، بِحَيْثُ تُصْبِحُ جَمِيعُ الصِّفاتِ وَسَطاً بَيْنَ الإِفراطِ والتَّفْرِيطِ، جُودٌ وسَخاءٌ مِنْ غَيْرِ إِسرافٍ ولاَ تَقتِيرٍ، وشَجاعَةٌ وقُوَّةٌ مِنْ غَيْرِ جُبْنٍ ولاَ تَهَوُّرٍ، وحِلْمٌ وأَنَاةٌ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ مَاحِقٍ أَو مَهانَةٍ مُردِيَةٍ، فُكُلُّ تَعامُلٍ فَقَدَ العَدلَ فَهوَ ضَرَرٌ وإِضْرارٌ، وفَسادٌ وإِفسادٌ ((وَلاَ تَبْخَسُواْ ?لنَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ في ?لأرْضِ مُفْسِدِينَ))(8).
   أَيُّها المُسلِمونَ:
   لَئِنْ كَانَتْ رِسالَةُ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-رِسالَةَ عَدالَةٍ ومُساواةٍ، نَشَرَتِ العَدلَ وَمَحَتِ الظُّلْمَ، وجَعَلَتِ النَّاسَ سَواسِيةً أَمامَ الحَقِّ، فَإِنَّ هَذِهِ الرِّسالَةَ قَدْ تَميَّزَتْ بِصِفَةٍ أُخْرَى، وتَجلَّتْ فِيها مَزِيَّةٌ عُلْيا، إِنَّها صِفَةُ الرَّحمَةِ والعَطْفِ والشَّفَقَةِ والرَّأْفَةِ بِالخَلْقِ أَجمَعِينَ، فَقَدْ كَانَ مَبْعَثُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-رَحمَةً شَمِلَتْ كُلَّ مَوجُودٍ، وَعَمَّ نَفْعُها كُلَّ مَخلُوقٍ فِي هَذا الوُجودِ، قَالَ تَعالَى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ))(9)، بَعَثَهُ رَبُّهُ فَسَكَبَ فِي قَلْبِهِ مِنَ العِلْمِ والحِلْمِ، وفِي خُلُقِهِ مِنَ الإِيناسِ والبِرِّ، وفِي طَبْعِهِ مِنَ السُّهولَةِ والرِّفْقِ، وفِي يَدِهِ مِنَ السَّخاءِ والنَّدَى مَا جَعَلَهُ أَزكَى عِبادِ الرَّحمنِ رَحمَةً، وأَوسَعَهُمْ عَاطِفَةَ، وأَرْحَبَهُمْ صَدراً، قَالَ تَعالَى:((فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ))(10)، وقَالَ سُبْحانَهُ: ((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ))(11)، وَجاءَ -صلى الله عليه وسلم-بِرِسالَةِ الإِسلاَمِ، رِسالَةِ خَيْرٍ وسَلاَمٍ ورَحْمَةٍ لِلْبَشَرِيَّةِ كُلِّها، فَدَعا إِلَى التَّراحُمِ، وجَعَلَ الرَّحمَةَ مِنْ دَلائلِ كَمَالِ الإِيمَانِ، فَالمُسلِمُ يَلْقَى النَّاسَ وفِي قَلْبِهِ عَطْفٌ مَذْخُورٌ، وبِرٌّ مَكْنونٌ، يُوَسِّعُ لَهُم، ويُخَفِّفُ عَنْهم ويُواسِيهم، فَعَنِ ابنِ مَسعودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-أَنَّهُ قَالَ: ((لَنْ تُؤمِنوا حَتَّى تَراحَمُوا))، قَالُوا: يَا رَسولَ اللهِ، كُلُّنا رَحِيمٌ! قَالَ: ((إِنَّهُ لَيسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكم صَاحِبَهُ، ولَكِنَّها رَحمَةُ العامَّةِ))، إِنَّ الرَّحمَةَ كَمالٌ فِي الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ، تَجْعلُ المَرْءَ يَرِقُّ لآلاَمِ الخَلْقِ، فَيَسْعَى لإِزالَتِها، كَما يَسْعَى فِي مُواساتِهم، ويَأْسَى لأَخطَائهِم، فَيَتَمنَّى هِدايتَهم، ويَتلَمَّسُ أَعْذارَهُم، إِنَّها صُورَةٌ مِنْ كَمالِ الفِطْرَةِ وجَمالِ الخُلُقِ، تَحْمِلُ صَاحِبَها عَلَى البِرِّ، وتَهِبُّ عَلَيهِ فِي الأَزَماتِ نَسِيماً عَلِيلاً تَتَرَطَّبُ مَعَهُ الحَياةُ، وتَأْنَسُ لَهُ الأَفْئِدةُ، إِنَّ الرَّحمَةَ لاَ تَقْتَصِرُ علَى مَنْ تَعْرِفُ مِنْ قَرِيبٍ أَو صَدِيقٍ، ولَكِنَّها رَحمَةٌ تَسَعُ النَّاسَ كُلَّهُمْ، وأَحادِيثُ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-تُبْرِزُ هَذا العُمومَ فِي إِسْداءِ الرَّحْمَةِ، والحَثِّ عَلَى إِفشائِها وانْتِشارِها، فَعَنْ أَبِي هُريرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لاَ يَرْحَمِ النَّاسَ))، وفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْهُ (: ((مَنْ لا يَرحَمْ لا يُرحَمْ))، إِنَّ المُؤمِنَ قَوِيُّ الإِيمانِ، يَتَميَّزُ بِقَلْبٍ حَيٍّ مُرْهَفٍ لَيِّنٍ رَحِيمٍ، يَرِقُّ لِلضَّعِيفِ، ويَأْلَمُ لِلحَزِينِ، ويَحِنُّ عَلَى المِسكِينِ، ويَمُدُّ يَدَهُ إِلَى المَلْهوفِ، ويَنْفُرُ مِنَ الإِيذاءِ، ويَكْرَهُ الجَرِيمَةَ، فَهوَ مَصْدَرُ خَيْرٍ وبِرٍّ وسَلاَمٍ لِما حَولَهُ ومَنْ حَولَهُ، بَلْ إِنَّ تَعالِيمَ الإِسلاَمِ وآدابَ الدِّينِ الذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-فِي هَذا البَابِ تَتَجاوَزُ الإِنسانَ النَّاطِقَ إِلى الحَيوانِ الأَعْجَمِ، وتَتَرقَّى فِي الرَّحمَةِ بِالبَهائِمِ حتَّى فِي حَالِ ذَبْحِها، والمَشْروعِ مِنْ قَتْلِها، يَقولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الإِحْسانَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، فَإِذا قَتَلْتُمْ فأَحسِنوا القِتْلَةَ، وإِذا ذَبَحْتُمْ فَأحسِنوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُم شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ)).
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واقتَدوا بِنَبِّيكُم -صلى الله عليه وسلم-فِي عَدلِهِ ورَحمَتِهِ؛ تَكُونوا مِنَ الفَائزينَ، وارفَقُوا بِالضُّعفاءِ والمُحتاجِينَ، والوالِدَيْنِ والأَولادِ والأَقرَبِينَ، يُصلِحِ اللهُ شأْنَكم، ويَرفَعْ فِي الجِنانِ مَنازِلَكُم.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إنَّ سِيرَةَ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-سِيرَةٌ واضِحَةٌ فِي جَمِيعِ أَطْوارِها ومَراحِلِها، والدَّارِسُ لِهَذِهِ السِّيرَةِ العَظِيمَةِ يَجِدُ أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-أُنْموذَجُ الإِنسانِيَّةِ الكَامِلَةِ، ومُلتَقى الأَخلاَقِ الفَاضِلَةِ، فَقَدْ أَعطاهُ رَبُّهُ وأَكرَمَهُ، وأَعلَى قَدْرَهُ ورَفَعَ ذِكْرَهُ، وَمَعَ حُبِّ المُسلِمينَ لِنَبِيِّهِمْ -صلى الله عليه وسلم-وتَعظِيمِِهِمْ لَهُ وتَوقِيرِهِمْ لِجَنابِهِ؛ فَإِنَّ عَقِيدَتَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ رَسُولٌ، عَبْدٌ لاَ يُعبَدُ، ورَسولٌ لاَ يَكْذِبُ، بلْ يُطاعُ ويُحَبُّ ويُوَقَّرُ ويُتَّبَعُ، إِذْ شَرَّفَهُ اللهُ بِالعُبُودِيَّةِ والرِّسالَةِ، ولَقَدْ عَلَّمَنا رَبُّنا مَوقِعَ نَبِيِّنا مِنَّا فَقالَ عَزَّ شأنُهُ: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً)) (12)، ويَقولُ عَزَّ مِنْ قَائلٍ كَرِيماً: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً))(13)، إِنَّ اتِّباعَهُ -صلى الله عليه وسلم-والإِقتدِاءَ بِهِ دَلِيلُ مَحَبَّةِ العَبْدِ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وهوَ مُوجِبٌ لِحُبِّ اللهِ لِعبادِهِ المُؤمنِينَ، وسَبَبٌ لِمَغْفِرَةِ ذُنوبِ المُخْطِئينَ، قَالَ عزَّ وجلَّ: ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ))(14).
    فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واحرِصُوا علَى اتِّباعِ نَبِيِّكُمْ؛ تَنالوا مَحَبَّةَ رَبِّكُم، ويَكُنْ لَكُمْ مِنَ اللهِ العَونُ والعِزَّةُ بَيْنَ العَالَمِينَ، والفَوزُ بِالجِنانِ مَعَ الخَالِدِينَ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))(15).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة آل عمران / 103 .
(2) سورة الاعراف / 157 .
(3) سورة الحجرات / 13.
(4) سورة الحديد / 25 .
(5) سورة النساء / 135 .
(6) سورة المائدة / 8 .
(7) سورة الشورى / 15.
(8) سورة الشعراء / 183 .
(9) سورة الانبياء / 107 .
(10) سورة آل عمران / 159.
(11) سورة التوبة / 128 .
(12) سورة الاحزاب / 6 .
(13) سورة الاحزاب / 21.
(14) سورة آل عمران / 31.
(15) سورة الأحزاب / 56 .
 
< السابق   التالى >
 

استفتاء

ما رأيك بصفحة خطب الجمعة؟
 
spacer

spacer
© 2024 موقع خطب الجمعة
Joomla! is Free Software released under the GNU/GPL License.