الحِرْفَةُ لِلإِنْسانِ صِيانَةٌ وأَمانٌ |
|
|
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء
|
06/04/2008 |
خطبة الجمعة بتاريخ 5 ربيع الثاني 1429هـ بسم الله الرحمن الرحيم الحِرْفَةُ لِلإِنْسانِ صِيانَةٌ وأَمانٌ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، كَرَّمَ الإِنْسانَ وَمنَحَهُ مِنْ بَيْنِ المَخلُوقاتِ مَكَاناً رَفِيعاً، وسَخَّرَ لَهُ مَا فِي السَّمواتِ ومَا فِي الأَرضِ جَمِيعاً، سُبْحانَهُ جَعَلَ العَمَلَ لِلْحُصولِ عَلَى الرِّزقِ الحَلاَلِ سَبِيلاً، وعَلَى عِفَّةِ النَّفْسِ ورِفْعَةِ القَدْرِ دَلِيلاً، وضَمِنَ لِلعَامِلينَ أَجْراً جَزِيلاً فَقالَ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً))(1)، أَحْمَدُهُ سُبْحانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، حَثَّ بِقَولِهِ وفِعلِهِ عَلَى العَملِ، واستَعاذَ بِرَبِّهِ مِنَ العَجْزِ والكَسلِ، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ والتَّابِعينَ لَهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : إِنَّ اللهَ الذِي خَلَقَ الخَلْقَ بِقُدْرَتِهِ، ودَبَّرَ أُمُورَهُمْ بِحِكْمَتِهِ، أَنْشأَ الإِنْسانَ مِنَ الأَرضِ وأَمَرَهُ بِعِمارَتِها والاستِفادَةِ مِنْ خَيْراتِها، ومَيَّزَهُ بِالخَصائِصِ والمُميِّزاتِ الجَمَّةِ، التِي تُؤهِّلُهُ لِلْقِيامِ بِهذِهِ المُهِمَّةِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا))(2)، أَي: خَاطَبَكُم بِعِمارَتِها، كَمَا جَعَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ لِلإِنْسانِ أَسْباباً أَمَرَهُ بِمُباشَرَتِها، لِيُدْرِكَ مِنْ وَرائِها مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ رِزقٍ مَوصُوفٍ بِالبَركَةِ، حَصلَ عَلَيهِ نَتِيجَةَ السَّعْيِ والحَركَةِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ))(3)، وفَضْلاً مِنَ اللهِ عَلَى الإِنسانِ وتَيْسِيراً لأُمُورِ مَعاشِهِ، هَيَّأَ لَهُ شَتَّى العَناصرِ فِي الكَونِ لِخِدْمَتِهِ، وأَمَرهُ أَنْ يَستَغِلَّها لِمَصلَحَتِهِ، وأَنْ يَستَفِيدَ مِنْها لإِشْباعِ حَاجَتِهِ، وأَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْها بِالخَيْرِ الذِي يَنفَعُهُ ويَنفَعُ وَلَدَهُ، ويَنفَعُ مُجتَمَعَهُ وبَلَدَهُ، ويَنفَعُ الإِنْسانِيَّةَ عُموماً، ويَدفَعُ عَنْها ضِيقاً وكُروباً وهُموماً، يَقولُ اللهُ جلَّ شأْنُهُ: ((الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى))(4)، ولَمَّا كَانَ الإِنسانُ مُرتَبِطاً ارتِباطاً وَثِيقاً بِالأَرضِ، حَيْثُ خُلِق مِنْها، وعَلَيْها يَحْيا، وإِلَيْها فِي النِّهايَةِ يَعُودُ، لَمَّا كَانَ هَذا الارتِباطُ بَيْنَ الإِنسانِ والأَرضِ؛ فَلاَ عَجَبَ أَنْ نَوَّعَ القُرآنُ الكَرِيمُ فِي وَصفِ الأَرضِ تَنويعاً يَقْصِدُ مِنْ وَرائِهِ دَفْعَ الإِنسانِ وتَشْجِيعَهُ عَلَى العَملِ، فَتارَةً يَصِفُ القُرآنُ الكَرِيمُ الأَرضَ بأَنَّها ذَلُولٌ، بِمَعنَى أَنَّها مُذَلَّلََةٌ لِلإِنْسانِ، مُنقادَةٌ إِلَيْهِ، لاَ تَمتَنِعُ مِنْهُ، ولاَ تتأَبَّى عَلَيهِ، فَلاَ عُذْرَ لَهُ فِي عَدَمِ استِغلاَلِها لِمَعايِشِهِ ومَصالِحِهِ، إِذْ عَلَيْهِ -وَحَالُ الأَرضِ هَكذا- أَنْ يَتَحَرَّكَ فِي أَنْحائِها، ويَسْعَى فِي أَرجائِها، لِِيَنَالَ ما قَدَّرَ اللهُ لَهُ مِنْ رِزقٍ مَقْسومٍ، ضَمِنَ اللهُ لَهُ الوُصُولَ، نَتِيجَةَ عَملٍ دائبٍ وَجُهْدٍ مَوصُولٍ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))(5)، وتَارَةً يَصِفُ القُرآنُ الكُرِيمُ الأَرضَ بأَنَّها مُمَهَّدةٌ، لاَ يَعُوقُ الإِنسانَ عَنِ الحَركَةِ فَوقَها عَائِقٌ، فَتَرْكُ العَملِ عَلَيْها -وَوَضْعُها هَكذا- تَصَرُّفٌ غَيْرُ لاَئقٍ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً))(6)، لَقَدْ هَيَّأَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ كُلَّ أَسْبابِ العَملِ لِلإِنْسانِ، فَلَمْ يَبقَ عَلَى هَذا الإِنسانِ إِلاَّ أَنْ يُباشِرَ الأَسبابَ، لِتَتَفتَّحَ أَمامَهُ الأَبوابُ، فَلَيْسَ بَيْنَ الإِنْسانِ ورِزقِهِ إِلاَّ سِتارٌ رَقِيقٌ يُرفَعُ بأَدْنَى حَركَةٍ، تُمَثِّلُ ارتِباطَ الأَسبابِ بِالمُسبِّباتِ، والنَّتائجِ بِالمُقدِّماتِ، سُنَّةُ اللهِ ((وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً))(7). عِبادَ اللهِ : إِنَّ العَملَ بِشَتَّى أَنواعِهِ وصُنوفِهِ، وعَلَى اختِلاَفِ مَجالاَتِهِ، مَا دَامَ فِي طَاعَةِ اللهِ تَباركَ وتَعالَى هُوَ تَطْهيرٌ وتَزكِيَةٌ، ورِفْعَةٌ وتَرقِيَةٌ، بِهِ يَحْيا الإِنْسانُ حَياةً كَرِيمةً، ويَمنَحُهُ اللهُ مِنْ فَضلِهِ أُجُوراً سَخِيَّةً عَظِيمةً، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ))(8)، ويَقولُ جَلَّ شأْنُهُ: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))(9)، إِنَّ العَملَ يُفِيدُ الإِنْسانَ ويَنفَعُهُ، ويُعلِي قَدْرَهُ ويَرفعُهُ، وإِنَّ تَمْييزَ الأَعمالِ وتَصنِيفَها ما بَيْنَ عَمَلٍ رَفِيعٍ وآخَرَ وَضِيعٍ تَقْسِيمٌ سَيِّءٌ فاسِدٌ، وتَصَرُّفٌ خاسِرٌ كاسِدٌ، والدَّلِيلُ عَلَى كَسادِهِ والبُرهانُ عَلَى فَسادِهِ أَنَّ رُسُلَ اللهِ عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -وَهُمْ أَعلَى النَّاسِ قَدْراً وأَرفَعُهُمْ مَكانَةً- عَمِلوا فِي كُلِّ المَجالاَتِ والمَيادِينِ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جَوهَرِ الدِّينِ، ولَو كَانَ عَمَلٌ مِنَ الأَعمالِ فِيهِ مَنْقَصَةٌ ومَهانَةٌ، ودُنُوُّ مَنزِلَةٍ ومَكانَةٍ؛ لَكانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عِنْهُ وأَنْفرَهُم مِنْهُ، والثَّابِتُ الصَّحِيحُ أَنَّ رُسُلَ اللهِ عَمِلوا فِي شَتَّى الحِرَفِ والمِهَنِ، فَنُوحٌ -عَلَيهِ السَّلاَمُ- احتَرفَ النِّجارَةَ وصَنَعَ السَّفِينَةَ، واحتَرفَ داودُ -عَلَيهِ السَّلاَمُ- الحِدادَةَ، ومُوسَى -عَلَيهِ السَّلاَمُ- رَعَى الغَنَمَ، أَمّا رَسولُ اللهِ مُحمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- فالثَّابِتُ مِنْ سِيرتِهِ قَولاً وعَملاً أَنَّهُ عَمِلَ فِي رَعْيِ الغَنَمِ قَبلَ أَنْ يُبْعَثَ، فَلمّا بُعِثَ كَانَ يَفتَخِرُ بِهذا العَملِ ويَعتزُّ بِهِ فَيقولُ: ((ما بَعَثَ اللهُ نَبيّاً إِلاَّ رَعَى الغَنَم، قَالوا: وأَنْتَ يا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: وأَنا كُنْتُ أَرعَاها علَى قَراريطَ لأَهلِ مكَّةَ))، كَما كَانَ أَصْحابُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَعْملُونَ فِي شَتَّى الحِرَفِ والمِهَنِ، فَكانَ مِنْهُمُ التَّاجِرُ والمُزارِعُ والحَدَّادُ والحَطَّابُ وغَيْرُ ذَلِكَ، ولَمْ يُعْرَفْ عَنْ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ اعتَرَضَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهم بِسَبَبِ حِرفَتِهِ ومِهْنَتِهِ، بَلْ عَلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ يُشَجِّعُهُمْ عَلَى أَعمالِهم ويَحُثُّهُمْ عَلَى التَّفَوُّقِ فِيها، إِنَّ الإِسلاَمَ يَعتَبِرُ كُلَّ جُهْدٍ نَافِعٍ يُحَقِّقُ مَصلَحَةً لِصَاحِبِهِ ولِلمُجتَمَعِ، هُوَ عَملٌ مَطلُوبٌ شَرعاً، بَلْ هوَ عِبادَةٌ وقُربَى، يَرفَعُ لِلإِنْسانِ مَكانَتَهُ، ويُعلِي مَنْزِلَتَهُ ودَرَجَتَهُ، إِنَّ الإِنْسانَ إِذا زَاولَ حِرفَةً صَانَ نَفسَهُ عَنِ الابتِذالِ، وحَماها مِنَ الفَاقَةِ والحَاجَةِ وذُلِّ السُّؤالِ، يَقولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لأَنْ يَأْخُذَ أَحدُكُم حَبلَهُ فَيأْتِيَ بِحُزمَةٍ مِنْ حَطَبٍ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَكُفُّ اللهُ بِها وَجْهَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسأَلَ النَّاسَ أَعْطَوهُ أَمْ مَنَعوهُ))، كَما أَنَّ الإِسلاَمَ يَنْظُرُ بِكُلِّ تَقدِيرٍ واحتِرامٍ وقَبولٍ إِلى كُلِّ إِنْسانٍ امتَهَنَ مِهنَةً واحتَرفَ حِرفَةً، فَنَفعَ نَفْسَهُ ومَنْ يَعولُ، فَأَفْضلُ الكَسْبِ كَسْبٌ يأْتِي ثَمرَةَ عَرَقِ الجَبِينِ وكَدِّ اليَمِينِ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يأْكُلَ مِنْ عَملِ يَدِهِ، وإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاودَ كَانَ يأْكُلُ مِنْ عَملِ يَدِهِ))، كَما سُئلَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الكَسْبِ طَيِّبٌ؟ فَقالَ: ((عَملُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وكُلُّ بَيْعٍ مَبْرورٍ))، كَما جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ المُؤمِنَ المُحتِرفَ))، وكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَقولُ: ((إِنِّي لأَرَى الرَّجُلَ فيُعجِبُنِي، فإِذا قِيلَ لِي: لَيْسَ لَهُ حِرْفَةٌ؛ سَقَطَ مِنْ عَيْنِي))، وقَدْ قِيلَ: ((مَنْ لَمْ يَنفَعِ النَّاسَ بِحِرفَةٍ يَعملُها فَهوَ إِنَّما يأْخُذُ مَنافِعَهُم، ويُضَيِّقُ عَلَيهم مَعاشَهم؛ فَلاَ فَائِدَةَ فِي حَياتِهِ لَهُم))، إِنَّ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ يُركِّزُ عَلَى عَملِ الرَّجُلِ بِيَدِهِ؛ فإِنَّهُ يَضَعُ أَمامَنا حَقِيقَةً تأْخُذُ بأَيْدِينا إِلى سَواءِ الطَّرِيقَةِ، وهِيَ أَنَّ الإِسلاَمَ أَعلَى شَأْنَ الحِرَفِ وقَدَّرَ الحِرَفِيِّينَ، فَالنَّظَرُ إِلى بَعْضِ الحِرَفِ والأَعمالِ بِاحتِقارٍ وازدِراءٍ هِيَ نَكْسَةٌ ورَجْعَةٌ إِلى الوَراءِ، ومَنْ نَظَرَ إِلَى حِرَفِيٍّ أَو عَامِلٍ نَظْرَةَ استِهانَةٍ؛ قَلَّلَ مِنْ قِيمَةِ العَملِ وأَهانَهُ، والإِسلاَمُ يَنظُرُ إِلى العَمل أيّاً كَانَ -مَا دَامَ طَيِّباً حَلالاً فِي الأُسلُوبِ والهَدَفِ والغَايَةِ- يَنظُرُ إِلَيهِ بِكُلِّ احتِرامٍ وتَقدِيرٍ وعِنايَةٍ؛ فَكَيْفَ يُقَدِّرُ الإِسلاَمَ العَملَ ويَستَهِينُ بَعْضُ النَّاسِ بِهِ؟. فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ العَملَ أَيّاً كَانَ شَرَفٌ ورِفعَةُ مَكانٍ، كَيفَ لاَ؟ وهُوَ يُفِيدُ المُجتَمَعَ، ويَشُدُّ مِنْهُ البُنْيانَ، ويَدْعَمُ فِيهِ الأَركَانَ. أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ. *** *** *** الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : إِنَّ المُؤمِنَ الحَقَّ هُوَ الذِي يَسْعَى ويَجِدُّ ويَجتَهِدُ فِي كُلِّ الأَوقاتِ والآناءِ، لِيُساهِمَ فِي العُمْرانِ والبِناءِ، فَهوَ لاَ يأْويِهِ البَيْتُ إِلاَّ بَقَدْرِ أَداءِ رِسالَتِهِ نَحْوَ أَهلِهِ، ولاَ يأْوِي إِلى فِراشِهِ لِلنَّومِ إِلاَّ بِمقْدَارِ ما يُزِيلُ عَنْهُ تَعَبَ اليَوْمِ، فالذِي يَعْملُ دُونَ مَلَلٍ، ويَطْرَحُ عَنْ نَفْسِهِ عَباءَةَ الكَسَلِ، هُوَ الذِي كَتَبَ لِنَفْسِهِ تَارِيخاً مُشْرِّفاً، حُروفُهُ العَملُ المُثْمِرُ، وكَلِماتُهُ السَّعْيُ المُغْدِقُ، وسُطُورُهُ المَجْدُ الأَثِيلُ، وفُصُولُهُ الذِّكْرُ الحَسَنُ الجَمِيلُ، فَلاَ عَجَبَ أَنْ أَعلَى الإِسلاَمُ لِلعامِلِ قَدْرَهُ، وعَظَّمَ لَهُ أَمْرَهُ، وضَمِنَ لَهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ أَجْرَهُ، فَأْجْرُ العَامِلِ لَيْسَ قَاصِراً عَلَى رِبْحٍ مَادِيٍّ أَو كَسْبٍ دُنيويٍّ، بَلْ إِنَّ الإِسلاَمَ يَرفَعُ مِنْ قِيمَةِ العَملِ فَيَجْعلُهُ عِبادَةً، يَنالُ بِسبَبِها العَامِلُ عَفْوَ اللهِ وغُفْرانَهُ، ورَحْمَتَهُ ورِضوانَهُ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ))(10)، ويَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ بَاتَ كَالاًّ مِنْ طَلَبِ الحَلالِ بَاتَ مَغْفوراً لَهُ))، لَقَدْ أَعْطَى الإِسلاَمُ لِلْعَمَلِ قَداسَةً، فَجَعلَهُ واجِبَ الأَحياءِ مِنَ البَشَرِ حتَّى آخِرَ لَحْظَةٍ مِنْ حَياتِهِم، بَلْ جَعَلَهُ واجِبَهُمْ حتَّى آخِرَ لَحْظَةٍ مِنَ الحَياةِ نَفْسِها، فَالإِنْسانُ يَعْملُ فِي طَلَبِ الحَلالِ وعَلَى كُلِّ حَالٍ، حَتَّى وإِنْ رَأَى الحَياةَ قَدْ آذَنَتْ بِالتِّرحَالِ، وبِدُونِ العَمَلِ يَكُونُ الإِنْسانُ كَلاًّ وعَالَةً عَلَى غَيْرِهِ، وهَذه آفَةٌ فَتَّاكَةٌ، تَقْتُلُ حَيَوِيَّةَ الإِنْسانِ وتَشُلُّ حِراكَهُ، إِذِ أَنَّ الَّذِي لاَ يَسْعَى لِلْعَمَلِ يأْخُذُ ولاَ يُعْطِي، ويَستَهلِكُ ولاَ يُنتِجُ، ويَستَفِيدُ عَلَى حِسابِ غَيْرِهِ ولاَ يُفِيدُ، وإِنْسانٌ شأْنُهُ هَذا هُوَ عَنْ أَوامِرِ الإِسلاَمِ قَصِيٌّ وبَعِيدٌ. فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مَنْ أَرادَ الخَيْرَ والبَركَةَ؛ فَعلَيْهِ بِالسَّعْيِ والحَركَةِ، فَالكَسلُ والجُمودُ والرُّكودُ أَكْبَرُ عائِقٍ أَمامَ التَّقدُّمِ والرُّقيِّ والصُّعودِ. هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (11). اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ. اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ. عِبَادَ اللهِ :(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )). (1) سورة الكهف / 30 . (2) سورة هود / 61. (3) سورة الأعراف / 10 . (4) سورة طـه / 53-54 . (5) سورة الملك / 15 . (6) سورة النبأ / 6 . (7) سورة الاحزاب / 62. (8) سورة التوبة / 105. (9) سورة النحل / 97 . (10) سورة آل عمران / 195 . (11) سورة الأحزاب / 56 . |