السفر فوائده وآدابه
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
04/06/2008
خطبة الجمعة بتاريخ 2 جمادى الثانية 1429هـ
بسم الرحمن الرحيم
السَّفَرُ فَوائِدُهُ وآدَابهُ
   الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ لَنَا الأَرضَ وذَلَّلَ أَرْجَاءَها، وسَهَّلَ لَنَا المَشْيَ والسَّعْيَ فِي مَنَاكِبِها، وحَثَّنَا عَلَى النَّظَرِ فِي بَدِيعِ صُنْعِها وسَمَائِها، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، خَيْرُ النَّاسِ خُلُقاً فِي الحَضَرِ والأَسفَارِ، وأَعظَمُهُمْ وَفَاءً لِلأَهلِ والدِّيارِ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ الأَخْيَارِ، وعَلَى تَابِعِيهِمْ مِنَ البَرَرةِ الأَطْهَارِ، صَلاَةً وسَلاَماً دَائمَيْنِ مَا تَعاقَبَ الَّليلُ والنَّهَارُ.    أَمَّا بَعْدُ، فَيا عِبَادَ اللهِ:
   خَيْرُ الوَصَايا الوَصِيَّةُ بِتَقْوَى رَبِّ البَرَايَا، فَتَقْواهُ سُبْحَانَهُ مَانِعٌ مِنَ البَلاَيَا، ومُنْقِذٌ مِنَ الشُّرُورِ والرَّزَايَا، إِنَّهَا أَنْفَعُ الذَّخَائِرِ لِلْمُسلِمِ وأَبقَاهَا، وآكَدُ المَطَالِبِ وأَقْوَاهَا،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(1)، واعلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ مِنْ طَبِيعَةِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ حُبَّ التَّغْيِيرِ، والتَّطَلُّعَ إِلَى الزِّيادَةِ والنَّمَاءِ والتَّطْوِيرِ، تَسأَمُ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى المَلَلِ، وتَطْمَحُ إِلَى أَنْ تَكُونَ حَياتُها فِي أَجْمَلِ الصُّوَرِ وأَبْهَى الحُلَلِ، وهِيَ مَطَالِبٌ أَقَرَّهَا الدِّينُ الحَنِيفُ، بَلْ حَثَّتْ عَلَيْها نُصُوصُ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، مَا التَزَمَ طَالِبُها بِالأَخْلاَقِ والآدَابِ، وأَحْسَنَ العِشْرَةَ مَعَ الأَهلِ والشُّركاءِ والأَصْحَابِ، ولِتَحقِيقِها شُرِعَتِ الكَثِيرُ مِنْ أَسْبابِها، وفَتَحَ الإِسْلاَمُ الوَاسِعَ مِنْ أَبْوابِها، وسَهَّلَ طُرُقَها لِطُلاَّبِها، هَذَا وإِنَّ مِمَّا شُرِعَ لِلْحُصُولِ عَلَى تِلْكَ المَطَالِبِ والرَّغَبَاتِ، والظَّفَرِ بِتلْكَ المَصَالحِ والتَّطَلُّعَاتِ، السَّيْرَ فِي أَرضِ اللهِ الوَاسِعَةِ، والمَشْيَ فِي مَنَاكِبِها المُذَلَّلَةِ الشَّاسِعَةِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ))(2)، وجَعَلَ سُبْحَانَهُ السَّفَرَ مَجَالاً لِلتَّفَكُّرِ والنَّظَرِ، والتَّدَبُّرِ فِي خَلْقِ اللهِ وتَارِيخِ مَنْ غَبَرَ، فِي إِعْمَالٍ مُثْمِرٍ لِلطَّاقَاتِ، واستِثْمَارٍ مُنْتِجٍ رَائِعٍ لِلْقُدرَاتِ، ورُؤْيَةٍ حَكِيمَةٍ لِمَا ظَهَرَ لِلْعَيانِ، وسَمَاعٍ حَسَنٍ لأَخْبَارِ مَنْ مَضَى مِنْ بَنِي الإِنْسَانِ، وفَحْصٍ دَقِيقٍ لِكُلِّ ذَلِكَ بِالعَقْلِ والجَنَانِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))(3)، وفِي السَّفَرِ فَوائِدُ لِلدُّنْيا والدِّينِ، يَجْنِيها مَنْ سَلَكَ أَثْنَاءَهُ مَنْهَجَ المُعتَبِرينَ، فَهُوَ يُقَوِّي الصِّلَةَ بِاللهِ مِنْ خِلاَلِ النَّظَرِ فِي قُوَّتِهِ القَاهِرَةِ، والتَّفَكُّرِ فِي آيَاتِ عَظَمَتِهِ الظَّاهِرَةِ، والتَّدَبُّرِ فِي بَدِيعِ صَنْعَتِهِ البَاهِرَةِ، خَلْقَاً جَمِيلاً عَجِيباً، مِنْ حَيوانٍ ومَواتٍ، وسَاكِنٍ وذِي حَرَكَاتٍ، مُختَلِفةِ الأَلْوانِ والأَشْكَالِ، ومُتَبايِنَةِ الأَحْجَامِ والأَطْوالِ، قَالَ (:((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ ?لنَّاسِ وَ?لدَّوَابّ وَ?لاْنْعَـ?مِ مُخْتَلِفٌ أَلْو?نُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء))(4)، إِنَّ السَّفَرَ الذِي احتُسِبَ فِيهِ الأَجْرُ والثَّوابُ، وحُرِصَ فِيهِ عَلَى أَنْزَهِ المَقاصِدِ والآرَابِ، لَهُوَ بِحَقٍّ رَوضَةٌ لِلْعُقُولِ، وبُلُوغٌ لِلأُنْسِ المَأْمُولِ، وهُوَ مَجْلاَةٌ لِلسَّأَمِ والكَلَلِ، وبُعْدٌ عَنِ الرَّتَابَةِ والنَّمَطِيَّةِ والمَلَلِ، وفَضَاءٌ رَحْبٌ لِلاعتِبَارِ والادِّكَارِ، فِيهِ تَتَجلَّى عَظَمَةُ الخَالِقِ البَارِئِ سُبْحَانَهُ، فَتَخشَعُ القُلُوبُ أَمَامَ بَدِيعِ السَّمواتِ والأَرضِ، قَالَ (:((أَمَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ))(5)، مَشَاهِدُ فِي الطَّبِيعَةِ ذَائِعَةٌ، ومَخلُوقَاتٌ بَدِيعَةٌ رَائِعَةٌ، تُدْهِشُ الأَلْبَابَ، وفِي إِتْقَانِها العَجَبُ العُجَابُ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَقَامَ مِنْ شَواهِدِ البَيِّنَاتِ عَلَى عَظَمَتِهِ وقُدْرَتِهِ مَا انْقَادَتْ لَهُ العُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ ومُسَلِّمَةً لَهُ، قَالَ (:((قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))(6).
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   مَعَ مَا لِلسَّفَرِ الرَّشِيدِ مِنْ صَلاَحٍ عَظِيمٍ، فَإِنَّ لَهُ نَفْعاً عَلَى النَّفْسِ جِدُّ عَمِيمٍ، فَفِيهِ تَصفُو المَشَاعِرُ والأَذْهَانُ، وبِهِ تَنْجَلِي عَنِ النَّفْسِ الهُمُومُ والأَحزَانُ، مَعَ مَا يَكْتَسِبُهُ المُسَافِرُ مِنْ مَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ فِي بَنِي الإِنْسَانِ، فَيُصلِحُ بِذَلِكَ شُؤُونَ مَعَاشِهِ وحَيَاتِهِ، ويَتَزَوَّدُ مَا يَصلُحُ لآخِرَتِهِ، قَالَ (:((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ))(7)، فَالعِلْمُ والمَعْرِفَةُ مِنْ أَهَمِّ فَوَائِدِ السَّفَرِ، وإِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِمَّنْ تَمُرُّ عَلَيْهِ المَشَاهِدُ والمَواقِفُ، لاَ يَكْتَسِبُ مِنْهَا خِبْرَةً، ولاَ يَتَزَوَّدُ مِنْهَا مَعْرِفَةً ولاَ عِلْماً، ولَقَدْ ضَرَبَ السَّلَفُ الصَّالِحُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَرْوَعَ الأَمثِلَةِ فِي اغتِنَامِ فَوائِدِ السَّفَرِ، جَاءَ فِي الحَدِيثِ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((زَارَ رَجُلٌ أَخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ، فَأَرْصَدَ اللهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخِي فِي هَذِهِ القَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَربُّها عَلْيهِ - أي تَقومُ بِها وتُصِلحُها-؟ قَالَ: لاَ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ))، إِنَّ رِعَايَةَ المَصَالِحِ الاجتِمَاعِيَّةِ، وَصِلَةَ الأَرْحَامِ والمَنَافِعَ الأُسَرِيَّةَ، لَهِيَ فَائِدَةٌ مِنْ فَوائِدِ السَّفَرِ العُظْمَى، ومَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِهِ السَّامِيَةِ الكُبْرَى، والمُتَأَمِّلُ لِكِتَابِ اللهِ العَظِيمِ، والنَّاظِرُ فِي آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ، يَجِدُ إِشَارَةً وَاضِحَةً إِلَى مَا فِي السَّفَرِ مِنَ المَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ومَا يَكُنُّهُ مِنَ المَنَافِعِ المَعِيشِيَّةِ، فِيهِ مَخْرَجٌ مِنْ رِبْـقَةِ التَّضْيِيقِ والإِعْسَارِ، وتَحقِيقٌ لِكَثِيرٍ مِنْ مُقَوِّمَاتِ الرُّقِيِّ والازْدِهَارِ، فَالمَصَالِحُ والمَنَافِعُ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي رُقْعَةٍ مِنَ الأَرضِ، بَلْ هِيَ مُنْتَشِرَةٌ فِي طُولِها والعَرْضِ، قَالَ تَعالَى:((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(8)، وَلَقدْ سَافَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي التِّجَارَةِ فَكَانَ نِعْمَ التَّاجِرُ صِدْقاً وأَمَانَةً ووَفَاءً، وطُهْراً فِي المُعَامَلَةِ ونَقَاءً.
   أيُّها المُسلِمُونَ:
   لَقَدْ عُنِيَ الإِسلاَمُ بِالسَّفَرِ عِنَايَةً فَائِقَةً؛ فَجَعَلَ لَهُ أَحكَاماً تَخُصُّهُ مِنْ سُنَنٍ وآدَابٍ وواجِبَاتٍ، وأَذْكَارٍ ودَعَواتٍ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسلِمِ المَحَافَظَةُ عَلَى ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ومُنَاسَبَةٍ، إِذِ المُسَافِرُ تَعْرِضُ لَهُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ، ولِكُلٍّ مِنْها أَدْعِيَةٌ مَخْصوصةٌ، فَلْيَأْتِ كُلاًّ مِنْها فِي وَقْتِهِ ومُنَاسَبَتِهِ، فَعَنْ أَبِي الدَّردَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((اذكُروا اللهَ فِي أَسفَارِكُمْ عِنْدَ كُلِّ حَجَرٍ وشَجَرٍ، لَعَلَّها تَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ تَشْهَدُ لَكُم))، وقَدْ عَلَّمَنَا اللهُ تَعالَى أَنْ نَذْكُرَهُ فِي بِدَايَةِ أَسفَارِنَا، وذَلِكَ فِي قَولِهِ (:((لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ)) (9) ، وبِدَوامِ ذِكْرِ اللهِ فِي السَّفَرِ يَتَضَاعَفُ الأَجْرُ والثَّوابُ، ويَكُونُ مَظِنَّةً لإِجَابَةِ الدُّعَاءِ مِنَ الكَرِيمِ الوَهَّابِ، فَعَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((ثَلاَثُ دَعَواتٍ مُستَجابَاتٍ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظلُومِ، ودَعْوَةُ الوَالِدِ، ودَعْوَةُ المُسَافِرِ))، وَعَنْهُ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَو سَافَرَ، كُتِبَ لَهُ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ مُقِيماً صَحِيحاً))، وهَكَذَا يُبقِي صِلَتَهُ بِاللهِ قَوِيَّةً، وتَصلُحُ عَلاَقَتُهُ مَعَ صَحْبِهِ فَتَكونُ قَوِيمَةً سَوِيَّةً، فَفِي السَّفَرِ تَنْكَشِفُ لِلنَّاسِ أَخْلاَقُ المَرءِ عَلَى حَقِيقَتِها، وتَظْهَرُ سُلُوكِيَّاتُهُ عَلَى طَبِيعَتِها، وقَدْ رُوِيَ (أَنَّ رَجُلاً شَهِدَ عِنْدَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ عُمَرُ: لاَ أَعْرِفُكَ، ائتِني بِمَنْ يَعْرِفُكَ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا أَعْرِفُهُ، فَقَالَ عُمَرُ: هَل جَاوَرْتَهُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: هَلْ عَامَلْتَهُ بِالدِّينَارِ والدِّرْهَمِ؛ فَعَرِفْتَ صِدقَهُ وأَمَانَتَهُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ سَافَرْتَ مَعَهُ فَعَرِفْتَ أَخْلاَقَهُ؟ قَالَ: لاَ، فَقَالَ عُمَرُ: مَا تَعْرِفُ الرَّجُلَ، ثُمَّ التَفَتَ إِلَى الرَّجُلِ الشَّاهِدِ وقَالَ: ائتِنِي بِمَنْ يَعْرِفُكَ)، عَلَى أَنَّ الصُّحْبَةَ فِي السَّفَرِ مَطْلَبٌ شَرْعِيٌّ، وطَبْعٌ إِنْسَانِيٌّ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((لَوْ يَعلَمُ النَّاسُ ما في الوَحْدَةِ مَا أَعلَمُ مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ))، ومِنْ أَعْظَمِ آدَابِ المُسلِمِ فِي سَفَرِهِ وحَضَرِهِ المُحَافَظَةُ عَلَى المَرَافِقِ العَامَّةِ، فَلاَ يَتَعَرَّضُ لَهَا بِمَا يُؤْذِي مُرتَادِيها، ويَمْنَعُ الانْتِفَاعَ بِها لِقَاصِدِيها، كَالتَّسَاهُلِ فِي رَمْيِ المُخَلَّفَاتِ، وإِفْسَادِ الطَّرِيقِ أَوِ الظِّلِّ النَّافِعَيْنِ، أَو مَوارِدِ المِيَاهِ العَذْبَةِ ونَحْوِ ذَلِكَ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((اتَّقُوا الَّلاعِنَيْنِ، قَالُوا: وما الَّلاعِنَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: الذِي يَتَخلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَو ظِلِّهِم))، وسَمَّى ذَلِكَ لاَعِنَيْنِ؛ لأَنَّهُمَا يَجْلِبَانِ سَخَطَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومَا أَجْمَلَ أَنْ يَظْهَرَ المُسلِمُ بِصُورَةِ الوَاعِي الذِي يُفَكِّرُ فِيمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ مِنَ النَّاسِ، ويُقِيمُ وَاجِبَ الجِوارِ فِي المُتَنزَّهَاتِ العَامَّةِ؛ فَلاَ يُؤْذِي مَشَاعِرَ مَنْ يَجْلِسُ بِجِوارِهِ، بَلْ يُبَادِرُ إِلَى الإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ بِالهَدِيَّةِ الطَّيِّبَةِ مِنَ الطَّعَامِ أَو نَحْوِهِ مِنَ المَنَافِعِ المَادِيَّةِ والمَعْنَوِيَّةِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- فِي كُلِّ أَحْوالِكُمْ، فِي حِلِّكُمْ وارتِحَالِكُمْ، وظَعْنِكُمْ وانتِقَالِكُمْ، تَصْحَبْكُمُ السَّلاَمَةُ فِي أَسفَارِكُمْ، ويُصلِحِ اللهُ شَأَنَكُم.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ السَّفَرَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ فَوائِدَ جَمَّةٍ، ومَا يُنْتِجُهُ مِنْ مَنَافِعَ مُهِمَّةٍ، إِلاَّ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وِفْقَ مَا لِلْفَرْدِ أَو الأُسْرَةِ مِنْ إِمْكَانِيَّاتٍ، ومَا يَملِكُونَهُ مِنْ مِيزَانِيَّةٍ وقُدراتٍ، يُخَطِّطُونَ لأَسفَارِهِمْ وِفْقاً لِقُدرَاتِهِمُ المَالِيَّةِ، وتَمَشِّياً مَعَ التِزَامَاتِهِمُ الاجتِمَاعِيَّةِ، وبِمَا يَتَماشَى مَعَ ارتِبَاطَاتِهِمُ العَمَلِيَّةِ، فَهُمْ يُسَافِرونَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَى السَّفَرِ، بَعْدَ التَّأَكُّدِ أَنَّ ذَلِكَ لَنْ يَكُونَ سَبَباً فَي خَلَلٍ أَو ضَرَرٍ، فَإِنَّ مِنْ هَدْيِ الإِسلاَمِ لأَتْبَاعِهِ الابتَعادَ عَنِ القَرارَاتِ الارتِجَالِيَّةِ، والحَذَرَ مِمَّا يُسَبِّبُ لَهُمْ مَشَاكِلَ مَالِيَّةً، أَو يُورِثُهُمْ مَشَاكِلَ أُسَرِيَّةً، أَو تَكُونُ عَاقِبَتُها أَضْراراً اجتِمَاعِيَّةً، وإِنَّ مِمَّا يَحُزُّ فِي النَّفْسِ أَنْ يُنْفِقَ البَعْضُ لِلسَّفَرِ الأَمْوالَ الطَّائِلَةَ، عَلَى حِسَابِ الأُسْرَةِ وحُقُوقِ العَائِلَةِ، يُسَافِرُ سَفَراً تَضِيعُ مَعَهُ رِعَايَةُ أُسْرَتِهِ فِي الجَوانِبِ المَادِيَّةِ، وتَخْتَلُّ فِيهِ تَرْبِيَةُ أَولاَدِهِ الأَخَلاَقِيَّةُ، وتَضْعُفُ بِهِ أَواصِرُهُ الاجتِماعِيَّةُ، إِنَّ سَفَراً كَهَذا لاَ يَنْشَأُ مَعَهُ جِيلٌ وَاعِدٌ، ولاَ يَتَعَزَّزُ بِهِ خُلُقٌ رَفِيعٌ مَاجِدٌ، وفِي الحَدِيثِ عَنِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-  أنَّهُ قَالَ: ((كَفَى بِالمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ))، أَوْ أَنْ يُسَافِرَ المَرْءُ لِلنُّزْهَةِ والسِّياحَةِ فِي العَامِ مَرَّاتٍ عَدِيدةً، بَيْـنَما يَجْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ أُسْرَتِهِ مِنَ الأَحْلاَمِ البَعِيدَةِ، ولَيْسَ بَعِيداً عَنْ هَذَا مَنْ يَعْبُرُ الحُدودَ لِلسِّياحَةِ مُتَكَلِّفاً المَصَارِيفَ الكَثِيرَةَ، وفِي الوَطَنِ العَزِيزِ لِلْنُّزْهَةِ أَمَاكِنُ كَثِيرَةٌ، يَستَطِيعُ بِزِيَارَتِها تَلْبِيَةَ حَاجَةِ نَفْسِهِ وأُسْرَتِهِ مِنَ التَّرفِيهِ، ويَتَعَرَّفُ عَلَى رُبُوعِ وَطَنِهِ والمَقْدِّراتِ التِي فِيهِ، ولَئِنْ كَانَ شُكْرُ النِّعَمِ وَاجِباً دِينِياً، فَإِنَّنا لَنَشْكُرُ المُنْعِمَ المُتَفَضِّلَ أَنْ مَنَّ عَلَى بِلاَدِنا -حَرَسَها اللهُ- فَحَبَاهَا الكَثِيرَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ السِّيَاحَةِ الحِسِّيَّةِ والمَعنَوِيَّةِ، وذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، أَلاَ فَلْتَدُومِي سَالِمَةً يَا أَرضَ الأَوفِياءِ، ولْتَعِيشِي هَانِئةً يَا مَوئِلَ السُّمَحَاءِ، ولْتَبقِيْ -بِإِذْنِ اللهِ- عَلَى مَرِّ الدُّهُورِ وكَرِّ العُصُورِ شَامَةً فِي دُنْيَا الوَاقِعِ، تَحْتَ ظِلاَلٍ وَارِفَةٍ مِنَ الأَمْنِ والأَمَانِ، هَانِئَةً بِالاستِقْرارِ والاطمِئْنَانِ.
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واهنَأَوا بِمَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، ومَا أَبَاحَ لَكُمْ مِنْ نَقَيِّ النُّزُهَاتِ، تَظْفَروا بِالسَّعَادَةِ فِي الحَيَاةِ وبَعْدَ المَمَاتِ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (10).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
                                             
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
                                             
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الاحزاب / 70-71 .
(2) سورة الملك / 15 .
(3) سورة الحج / 46 .
(4) سورة فاطر / 27-28 .
(5) سورة النمل / 60 .
(6) سورة العنكبوت / 20 .
(7) سورة غافر / 82 .
(8) سورة الجمعة / 10 .
(9) سورة الزخرف / 13-14 .
(10) سورة الأحزاب / 56 .
آخر تحديث ( 04/06/2008 )