المسْؤولـيـَّةُ الأُسَرِيَّةُ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
21/06/2008
طبة الجمعة بتاريخ 23 جمادى الثانية 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
المسْؤولـيـَّةُ الأُسَرِيَّةُ
   الحَمْدُ للهِ الذِي أَمَرَ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُ أَحْوَالَ الأَفْرَادِ والأُسَرِ، وَحَثَّ عَلَى العِنَايَةِ بِالنَّاشِئَةِ مُنْذُ الصِّغَرِ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ  وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرشَدَ الأُمَّةَ إِلَى مَا فِيهِ عِزُّ أَبْنَائِها وصَلاَحُ مُجتَمَعاتِها، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنِ اهتَدَى بِهَدْيِهِ، وَاستَنَّ بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.   أَمَّا بَعْدُ، فيا أَيُّها المُؤمِنُونَ:
   إِنَّ المُجتَمَعَ يَتَكَوَّنُ مِنْ دَوائِرَ مُتَعدِّدةٍ، تَبْدَأُ مِنَ الفَرْدِ فَالأُسْرَةِ فَالمُجتَمَعِ، ولاَ تَستَقِيمُ الحَيَاةُ إِذَا لَمْ تَأْخُذْ كُلُّ دَائِرَةٍ حُقُوقَها وتُؤَدِّي وَاجِبَاتِها، فَالفَرْدُ بِصِفَتِهِ مُنْطَلَقاً ونَوَاةً لِلأُسْرَةِ والمُجتَمَعِ يَنْبَغِي أَنْ يُدْرِكَ وَاجِبَاتِهِ وأَبْعَادَ مَسؤولِيَّتِهِ، وذَلِكَ فِي حُدودِ المَسْؤولِيَّةِ الشَّخْصِيَّةِ تِجَاهَ نَفْسِهِ وخَالِقِهِ، ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مَسْؤولِيَّةٌ أَعَمُّ يَتَحَمَّلُها الفَرْدُ تِجَاهَ الأُسْرَةِ والعَائِلَةِ التِي يَنْتَمِي إِلَيْها، ثُمَّ مَسؤولِيَّةٌ تَشْمَلُ المُجتَمَعَ، ومَا مِنْ خَطَأٍ يَقَعُ فِي أَيِّ مُستَوىً مِنَ المُستَويَاتِ إِلاَّ والفَرْدُ مَسؤولٌ عَنْهُ بِدَرَجَةٍ أَو أُخْرَى، لِذَلِكَ نَجِدُ القُرآنَ الكَرِيمَ يُحَذِّرُنا مِنْ آثَارِ الإِهْمَالِ فِي شُؤونِ الأُسْرَةِ، ويُذَكِّرُنا بِأَنَّ الأَولاَدَ امتِحَانٌ لِلإِنْسَانِ وابتِلاَءٌ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ))(1)، وتُحَذِّرُ آيَةٌ أُخْرَى مِنَ الانْشِغَالِ عَنِ اللهِ بِفِتْنَةِ المَالِ والوَلَدِ، يَقولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ))(2)، فَالعَلاَقَةُ بَيْنَ الآبَاءِ والأَبْنَاءِ حَسَّاسَةٌ ومُهِمَّةٌ جِدّاً، فَالوَلَدُ امتِدَادٌ لأَصْلِهِ وأُسْرَتِهِ، فَإِنْ كَانَ صَالِحاً نَالَ الجَمِيعُ الحَمْدَ والثَّنَاءَ، وإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّ الأُسْرَةَ تَتَحَمَّلُ قِسْطاً مِنْ آثَارِ سُوئِهِ، لِذَلِكَ كَانَ التَّحْذِيرُ القُرآنِيُّ شَدِيداً يُسْهِمُ فِي تَحْصِينِ المُجتَمَعِ مِنْ مَصَادِرِ الخَلَلِ فِي تَكْوِينِ أَفْرَادِهِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   لَقَدْ حَرَصَ الإِسلاَمُ عَلَى صِيَاغَةِ أُسُسٍ تُجَنِّبُ الأُسْرَةَ مِنِ احتِمَالاَتِ الخَلَلِ فِي تَكْوِينِ أَفْرَادِها، فَوَضَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  الفَرْدَ الذِي يُقْدِمُ عَلَى تَكْوِينِ أُسْرَةٍ أَمَامَ مَسؤولِيَّتِهِ فِي هَذَا الأَمْرِ فَقَالَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وكُلُّكُمْ مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهلِ بَيْتِهِ ومَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، والمَرأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِها ومَسؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِها، فَكُلُّكُم رَاعٍ وكُلُّكُم مَسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)). وقَدَ بَدَأَ تَحِديدُ المَسؤولِيَّةِ مُنْذُ بِدَايَةِ التَّفْكِيرِ فِي تَشْكِيلِ الأُسْرَةِ، فَأَرشَدَ الإِسْلاَمُ الشَّابَّ إِلَى أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي أَلاَّ يَتَنازَلَ عَنْهُ فِي اختِيارِ الزَّوجَةِ، قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِها ولِحَسَبِها وجَمَالِها ولِدِينِها، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ))، فَالصَّلاَحُ هُوَ أَهَمُّ عُنْصُرٍ يَضْمَنُ استِقَامَةَ الأُسْرَةِ ونَجَاحَها، كَمَا أَرشَدَ الفَتَاةَ وأَهلَهَا لأَنْ يَكُونَ أَهَمُّ مِعْيَارٍ فِي قَبُولِ الخَاطِبِ زَوْجاً لِلْفَتَاةِ هُوَ الصَّلاَحُ أَيْضاً، فَوَرَدَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((إِذَا جَاءَكُم مَنْ تَرضَوْنَ دِينَهُ وخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرضِ وفَسَادٌ كَبِيرٍ))، فَإِذَا كَانَ الصَّلاَحُ مَوجُوداً فِي الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ تَمَّ تَحقِيقُ أَهَمِّ الشُّرُوطِ لِنَجَاحِ الأُسْرَةِ وتَكْوِينِها عَلَى قَاعِدَةٍ سَلِيمَةٍ، فَإِنْ تَمَّ الزَّواجُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَخْطِيطُ بِنَاءِ الأُسْرَةِ مُستَنِداً إِلَى رُؤْيَةٍ مُستَقْبلِيَّةٍ، فَيَكُونُ إِنْجَابُ الأَولاَدِ فِي ضَوءِ المَعَايِيرِ التَّربَوِيَّةِ، والقُدْرَةِ عَلَى تَحَمُّلِ المَسؤولِيَّةِ، فَإِذَا تَكَوَّنَتِ الأُسْرَةُ تَحَمَّلَ الأَبُ مَسؤولِيَّةَ النَّفَقَةِ عَلَى الأُسْرَةِ بِقَدْرِ الوِسْعِ والعُرْفِ ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا))(3)، وهَذَا يَعْنِي أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُحَقِّقَ المُقَدِّمَاتِ التِي تُسَاعِدُهُ عَلَى القِيَامِ بِهَذَا الوَاجِبِ والاستِمرَارِ فِيهِ، وهُوَ العَمَلُ وإِتْقَانُهُ والاستِقَامَةُ فِيهِ.
   أَيُّها المُسلِمُونَ :
   إِنَّ القُدوَةَ الحَسَنَةَ والسَّلُوكَ والنَّمُوذَجَ الطَّيِّبَ أَبْلَغُ فِي التَّرْبِيَةِ والتَّأْثِيرِ، وبِوسْعِ أَيٍّ مِنَّا أَنْ يَلْحَظَ ذَلِكَ، فَقَلَّمَا تَجِدُ طِفْلاً أَو شَابّاً يَعتَادُ فِعْلاً سَيِّئاً إِنْ لَمْ يَجِدْ هَذَا الفِعْلَ مُمَارَساً فِي أُسْرَتِهِ، أَو بِتَأْثِيرِ الصَّاحِبِ السَّيِّءِ، وبِالتَّالِي فَالمَسؤولِيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ هِيَ مِفْتَاحُ النَّجَاحِ فِي المَسؤولِيَّةِ الأُسُرَيَّةِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَحَمَّلِ المَسؤولِيَّةَ الشَّخْصِيَّةَ تِجَاهَ خَالِقِهِ وتِجَاهَ النَّاسِ لَنْ يَتَحَمَّلَ المَسؤولِيَّةَ تِجَاهَ الأُسْرَةِ، لأَنَّ مِنْ أَهَمِّ عَنَاصِرِ المَسؤولِيَّةِ تِجَاهَ الأُسْرَةِ تَجْسِيدَ النَّمُوذَجِ الحَسَنِ فِي تَرْبِيَةِ الأَولاَدِ، لَكِنَّ الاستَقامَةَ الشَّخْصِيَّةَ لاَ تُعفِي مِنَ العِنَايَةِ بِأَفْرادِ الأُسْرَةِ تَوجِيهاً وتَربِيَةً، فَأَنْ يَكُونَ الأَبُ والأُمُّ مِنَ الصَّالِحينَ لَنْ يَكْفِيَ حَتَّى يَلْتَزِمَ الوَلَدُ بِهَذَا الصَّلاَح،ِ لَكِنَّ ذَلِكَ سَيُسَاعِدُ عَلَى الالتِزَامِ بِهِ بَعْدَ التَّوجِيهِ والأَمْرِ بِهِ والحِرْصِ عَلَيْهِ، أَمَّا أَنْ يَتِمَّ الأَمْرُ بِالصَّلاَحِ مِنْ قِبَلِ أَبَوَيْنِ غَيْرِ صَالِحَيْنِ فَلَنْ يَنْفَعَ ذَاكَ الأَمْرُ، وقِسْ عَلَى ذَلِكَ أَشْيَاءَ كَثِيرةً مِنَ المَأْمُوراتِ والمَنْهِيَّاتِ، فَأْنْ تَنْهَى وَلَدَكَ عَنْ سُلُوكٍ سَيِّءٍ لاَبُدَّ وأَنْ تَكُونَ مِنَ المُنتَهِينَ عَنْهُ، وإِلاَّ فَإِنَّ نَهْيَكَ لَنْ يُجْدِي شَيْئاً، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ تُعَلِّمَ وَلَدَكَ وتُقْنِعَهُ وتَنْصَحَهُ وتُحَذِّرَهُ مِنْ مَخَاطِرِ ذَلِكَ السُّلُوكِ الخَاطِئِ؛ كَيْ لاَ يَجُرَّهُ إِلَيْهِ رِفَاقُ السُّوءِ الذِينَ مِنْ مَسؤولِيَّتِكَ أَنْ تُسَاعِدَ وَلَدَكَ فِي البُعْدِ عَنْهُمْ واختِيارِ الصَّاحِبِ الجَيِّدِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ)).
   عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ السُّلوكَ المُستَقِيمَ ومَنْهَجَ التَّعامُلِ مَعَ أَفْرَادِ الأُسْرَةِ هُوَ الجَانِبُ الأَهَمُّ فِي المَسؤولِيَّةِ الأُسَرِيَّةِ، وهُوَ الأَعْمَقُ أَثَراً مِنَ النُّصْحِ والتَّوجِيهِ، والخُلُقُ الحَسَنُ والأَدَبُ فِي التَّعامُلِ هُوَ أَهَمُّ مَا يُعْطِي الأَبُ لِوَلَدِهِ، وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ : ((مَا نَحَلَ -أَي أَعْطَى- وَالِدٌ وَلَداً أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ))، ومِنَ الأَدَبِ الحَسَنِ حُسْنُ اللَّفْظِ والكَلاَمِ فِي الأُسْرَةِ ومَعَ الأَولاَدِ، فَالكَلاَمُ البَذِيءُ إِنَّما يَتَلَقَّاهُ الطِّفْلُ مِنْ مُحِيطِهِ الأَصْغَرِ وهُوَ الأُسْرَةُ، بَل إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  حَذَّرَنا مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ فِي حَالاَتِ الغَضَبِ، ومِنَ ذَلِكَ الدُّعَاءُ بِالسُّوءِ الذِي قَدْ تُطْلِقُهُ الأُمُّ أَو الأَبُ فِي تِلْكَ الحَالَةِ، فَذَاكَ الدُّعاءُ قَدْ يُجَابُ فَيَنْدَمُ الإِنْسَانُ عَلَى دُعَائِهِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-  : ((لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْـتَجِيبُ لَكُمْ))، ومِمَّا يَنْبَغِي أَنْ نَتَنَبَّهَ إِلَيْهِ أَنَّ مَسؤولِيَّةَ الفَرْدِ تِجَاهَ أُسْرَتِهِ لاَ تَقْتَصِرُ عَلَى الأُمُورِ المَادِّيَّةِ وتَبِعاتِها، إِنَّمَا هِيَ مَسؤولِيَّةُ بِنَاءِ إِنْسَانٍ وتَكْوِينِ شَخْصِيَّةٍ، فَكُلُّ وَاجِبٍ يُسْهِمُ فِي تَقْوِيمِ سُلُوكِ الطِّفْلِ وتَنْمِيَةِ مَدَارِكِهِ، وتَأْهِيلِ الشَّابِّ لَيُسْهِمُ فِي بِنَاءِ المُجتَمَعِ، هُوَ مِنَ المَسؤولِيَّةِ الأُسَرِيَّةِ التِي يَجِبُ تَحَمُّلُها، والوَاجِبَاتُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرَةٌ، ومِنْ أَهَمِّها مَحْوُ الأُمِّيَّةِ وتَعلِيمُ الأَطْفَالِ، وهَذَا وَاجِبٌ مِنْ أَهَمِّ الوَاجِبَاتِ، والأُسْرَةُ هِيَ المِفْتَاحُ لِمُكَافَحَةِ الأُمِّيَّةِ والقَضَاءِ عَلَيْها، وكَذَلِكَ مِنَ المَسؤولِيَّاتِ العِنَايَةُ الطِّبِّيَّةُ بِالطِّفْلِ وتَجنِيبُهُ مَخَاطِرَ الإِصْابَةِ بِبَعْضِ الأَمْراضِ التِي تَحْتَاجُ إِلَى وِقَايَة.
   أَيُّها المُسلِمُونَ :
   إِنَّ مِنْ أَهَمِّ المَسؤولِيَّاتِ الأُسَرِيَّةِ أَنْ تُعَلِّمَ أَولاَدَكَ احتِرامَ النِّظَامِ والقَوانِينِ، والالتِزامَِ بِحِفْظِ الحُقُوقِ تِجَاهَ الآخَرِينَ، فَالفَوضَى وعَدَمُ الالتِزَامِ بِالقَواعِدِ المُنَظِّمَةِ لِسَيْرِ المُجتَمَعِ إِنَّمَا تَبْدأُ مِنَ الأُسْرَةِ، والتَّربِيَةُ والنَّمُوذَجُ الصَّالِحُ هُوَ مَسؤولِيَّةُ الوَالِدَيْنِ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الأَبِ أَنْ يُراقِبَ وَلَدَهُ ويَلْحَظَ مَا تَتِّجِهُ إِلَيهِ نَفْسُهُ فِي التَّعلِيمِ أَو العَمَلِ، فَيُوَجِّهُ وَلَدَهُ إِلَيهِ ويُسَاعِدُهُ فِي تَحصِيلِهِ، فَلِكُلِّ إِنْسَانٍ وِجْهَةٌ يَمِيلُ إِلَيْها ويُبْدِعُ فِيها، ومِنْ مَسؤولِيَّةِ الأَبِ أَنْ يَكْتَشِفَ مَوْهِبَةَ وَلَدِهِ، ويُنَمِّيَ لَهُ مَهَارتَهُ، ويُسَاعِدَهُ فِي تَحصِيلِ مَا يَصْبُو إِلَيهِ، فَذَلِكَ أَدْعَى لِنَجَاحِهِ وأَثْمَرُ لِعَطَائِهِ فِي المُجتَمَعِ، فَالتَّفْكِيرُ بِمُستَقْبَلِ الطِّفْلِ مِنْ مَسؤولِيَّةِ وَالِدَيْهِ، فِي ضَوءِ مَا يَمتَلِكُهُ الطِّفْلُ مِنْ مَهَارَاتٍ وتَتَّجِهُ إِلَيْهِ نَفْسُهُ مِنْ تَعلِيمٍ أَو عَمَلٍ.
   أَيُّها المُؤمِنُونَ :
   كُلُّنَا يَعلَمُ الوَاجِبَاتِ الأُسَرِيَّةَ وقَدْ أَصْبَحَتِ اليَوْمَ مِنَ الوضُوحِ بِمَكَانٍ، لاَسِيَّما مَعَ وُجُودِ وَسَائلَ كَثِيرَةٍ لِتَوْعِيَةِ الأُسْرَةِ بِهَذِهِ الوَاجِبَاتِ بِمُختَلَفِ نَواحِيها، كَوَسَائِلِ الإِعْلاَمِ والكُتُبِ المُتَخَصِّصَةِ فِي التَّربِيَةِ التِي يَنْبَغِي عَلَى المَسؤولِ عَنِ الأُسْرَةِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْها ويُعَمِّقَ ثَقَافَتَهُ بِها، فَعَلَيْنا أَنْ نُدْرِكَ ضَرورَةَ التَّكَامُلِ بَيْنَ هَذِه الوَاجِبَاتِ وأَنَّها لاَ تَنْفَصِلُ، وأَنَّ التَّقْصِيرَ فِي أَيِّ جَانِبٍ يَنْعَكِسُ عَلَى الجَوانِبِ الأُخْرَى، وأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ كُلَّ الوَاجِبَاتِ الأُسَرِيَّةِ هِيَ وَاجِبَاتٌ يَأْمُرُ الإِسْلاَمُ بِها ويَحُضُّ عَلَيْها، فَلَو أَمَرْتَ وَلَدَكَ بِسُلُوكٍ حَسَنٍ وعَلَّمْتَهُ إِيَّاهُ لاَ يَعْنِي أَنَّكَ قُمْتَ بِكُلِّ وَاجِبِكَ، فَهُنَاكَ وَاجِبَاتٌ أُخْرَى مَعلُومُةٌ يَنْبَغِي أَنْ تُتَابَعَ وأَنْ نَحْرِصَ عَلَيْها.
   نَسأَلُ اللهَ أَنْ يُوفِّقَنَا لِمَعْرِفَةِ الوَاجِبِ وحُسْنِ العَمَلِ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   وَرَدَ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الصَّحابَةِ أَعطَى وَلَدَهُ هَدِيَّةً ثَمِينةً، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  لِيُشْهِدَهُ علَى ذَلِكَ، فقَالَ لَهُ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلاَمُ-: ((هلْ أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟))، قَالَ: لاَ، قَالَ: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ))، فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ. هَذَا الخَبَرُ يَدلُّنا على مَسؤُولِيَّةٍ حَسَّاسةٍ تِجاهَ الأَبناءِ وِهِيَ العَدلُ بَينَهُمْ، حتَّى في الهَدايا والعَطَاءِ، ذَلِكَ أَنَّ الخَلَلَ في العَدلِ يَعني خَلَلاً في العَلاَقَةِ بَيْنَ الأَبنَاءِ وأَبِيهِمْ، وَبَيْنَ الإِخْوَةِ مَعَ بَعضِهِمُ البَعْض، إِذْ سَيُوَلِّدُ ذَلِكَ بَينَهُمْ حَسَداً وشَحنَاءَ قَدْ تَصِلُ إِلَى قَطْعِ الرَّحِمِ، والَّذِي يَتَحَمَّلُ المَسؤولِيَّةَ في ذَلِكَ هُوَ الأَبُ أَوْ وَلِيُّ الأَمْرِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَعدِلْ، وَحَتَّى التَّعبِيرُ عَنِ الحُبِّ والمَيلِ لِوَاحِدٍ مِنَ الأَبنَاءِ أَكْثَرَ مِنَ الآخَرِ يَنْبَغِي أَنْ يكُونَ بِحَذَرٍ وَبِطَرِيقَةٍ لاَ تُؤذِي مَشَاعِرَ الإِخْوَةِ، فَالعَدلُ شَامِلٌ في الأُمُورِ المَادِّيَّةِ والمَعنَوِيَّةِ.
   أَيُّها المُسلِمُونَ :
   إِنَّ المَسؤُولِيَّةَ الأُسَرِيَّةَ لاَ تَعنِي مَسؤُولِيَّةَ الأَبِ فَقَطْ، إِنَّما هِيَ مَسؤُولِيَّةُ الوَالِدَينِ الأَبِ والأُمِّ، بَلْ إِنَّ الأُمَّ تَتَحَمَّلُ مِنَ المَسؤُولِيَّةِ التَربَوِيَّةِ الجَانِبَ الأَهَمَّ، لاتِّصَالِهَا بِالأَطْفَالِ فَتْرةً أَطْولَ مِنَ الأَبِ، كَما أَنَّ الوَلِيَّ الَّذِي يَلِي أَمْرَ الأُسْرَةِ في حَالَةِ غِيَابِ الأَبِ يَتَحَمَّلُ المَسؤُولِيَّاتِ نَفْسَها.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، ولْنَخْرُجْ وقَدْ وَضَعَ كُلٌّ مِنَّا بَرنَامَجاً يُراجِعُ مِنْ خِلاَلِهِ وَاجِبَاتِهِ تِجَاهَ أُسْرَتِهِ، يُدَقِّقُ أَدَاءَهُ وَما يَقُومُ بِهِ، وَيَبْحَثُ عَمَّا هُوَ مُقَصِّرٌ فِيهِ لِيَتَلاَفَاهُ، فَيَعِيشُ مُرتَاحَ الضَّمِيرِ مُطْمَئِناً لأَدَاءِ مَا يَجِبُ علَيهِ. اللَّهُمَّ اجْعلْنَا مِنَ الَّذِينَ يَقُولُونَ القَولَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَيَعْرِفُونَ الحَقَّ فَيَقِفُونَ عِنْدَهُ، وَيَعْمَلُونَ بِما يَقُولُونَ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (4).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الأنفال / 28 .
(2) سورة المنافقون / 9 .
(3) سورة البقرة / 233 .
(4) سورة الأحزاب / 56 .