إِضََاءَاتٌ مِنَ الإِسْرَاءِ والِمعْراجِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
19/07/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 22 رجب 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إِضََاءَاتٌ مِنَ الإِسْرَاءِ والِمعْراجِ
   الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، ((الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى))(1)، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ الكُبْرَى، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ خَالِصُ العِبَادَةِ كَمَا يُحِبُّ ويَرْضَى، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، جَعَلَ اللهُ لَنَا فِي سِيرَتِهِ عِظَةً وذِكْرَى، وفِي رِسَالَتِهِ نَذِيراً وَبُشْرَى، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي -عِبادَ اللهِ- بِتَقْواهُ، والعَمَلِ بِمَا فِيهِ رِضَاهُ، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(2)، واعَلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ حَيَاةَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  مَلِيئَةٌ بِالمَواقِفِ العَظِيمَةِ، وغَنِيَّةٌ بِالمَشَاهِدِ الجَسِيمَةِ، التِي تُرشِدُ العَاقِلَ إِلَى المَسَالِكِ القَوَيمَةِ، مَواقِفُ تَشِعُّ بِالطُّهْرِ والنَّقَاءِ، وتَحكِي أَرْوَعَ صُوَرِ الصِّدْقِ بِلاَ افتِرَاءٍ، قَالَ تَعالَى: ((لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (3)، فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَواقِفَ عَابِرَةٍ، ولاَ حِكَايَاتٍ مُتَدَاولةٍ سَائرَةٍ، لِذَا وَجَبَ عَلَيْنَا أَنْ نَقِفَ مَعَها وَقْفَةَ تَأَمُّلٍ ودِرَاسَةٍ، ونَنظُرَ إِلَيْها نَظْرَةَ فِكْرٍ واعتِبَارٍ، ونَتَأَمَّلَ فِيها تَأَمُّلَ العُقَلاَءِ، نَدْرُسُها بِفِكْرٍ مُستَنِيرٍ، لاَ يَقِفُ عِنْدَ حَدِّ ذِكْرِ الأَخْبَارِ، وَسَرْدِ القَصَصِ والمَواقِفِ، بَلْ دِرَاسَةً تَأْخُذُ مِنَ المَوقِفِ عِبْرَتَهُ، ومِنَ الحَدَثِ مَغْزَاهُ وعِظَتَهُ، ومِنَ الوَاقِعِ هَدَفَهُ وحِكْمَتَهُ، دِرَاسَةً يُشْرِقُ مِنْها ضِيَاءٌ يُنِيرُ لَيْلَ الضَّلاَلَةِ، ويَتَفتَّقُ مِنْها عِلْمٌ يَمْحُو كَدَرَ الجَهَالَةِ، تَضَعُ البَلْسَمَ الشَّافِي عَلَى الدَّاءِ، وتَصنَعُ لِجَمِيعِ الأَسقَامِ أَنْجَعَ دَواءٍ، لِتُؤَسِّسَ بِنَاءً فِكْرِيَّاً لاَ تَتَزَعزَعُ أَركَانُهُ، ولاَ يَتَصَدُّعُ أَمَامَ العَوَادِي بُنْيَانُهُ، لأَنَّها دِرَاسَةٌ تَتَنَاولُ سِيْرةَ مَنْ أَرْسَلَهُ اللهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، فَهَذَا أَمْرُ اللهِ لَنَا فِي كِتَابِهِ، وتَوجِيهُ رَسُولِهِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي بَدِيعِ خِطَابِهِ، قَالَ تَعالَى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) (4)، هَذَا وإِنَّ مِنَ المَواقِفِ المَشْهُودَةِ، والوَقَائِعِ المُشتَهِرَةِ المَعدُودَةِ، حَادِثَةَ الإِسرَاءِ والمِعْرَاجِ، حَيْثُ جَاءَ الخَبَرُ بِالأُولَى فِي كِتَابِ اللهِ وَاضِحاً صَرِيحاً، وبِالثَّانِيَةِ إِشَارَةً وتَلْمِيحاً، قَالَ تَعالَى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) (5)، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ النَّجْمِ: ((وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)) (6).
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   لَقَدْ لاَقَى رَسُولُنَا الكَرِيمُ -صلى الله عليه وسلم-  صُنُوفَ العَنَاءِ، وذَاقَ مِنْ قَوْمِهِ أَنْوَاعَ البَلاَءِ، وهُوَ ثَابِتٌ فِي طَرِيقِهِ، لاَ يُرْضِيهِ مِنَ الهَدَفِ غَيْرُ تَحقِيقِهِ، عَرَفَ نُبْلَ الرِّسَالَةِ فَثَبَتَ عَلَيْهَا، وأَدْرَكَ قِيمَةَ الغَايَةِ فَسَعَى إِلَيْهَا، وحِينَ اشتَدَّ بِهِ مِنَ النَّاسِ البَلاَءُ، وأَثْقَلَ كَاهِلَهُ فِي الأَرضِ العَنَاءُ، جَاءَتْهُ دَعْوَةُ الضِّيَافَةِ مِنَ السَّمَاءِ، بَعْدَ أَنْ صَدَرَ مِنْهُ رَقِيقُ الشَّكْوَى وخَالِصُ الإِنَابَةِ، وأَكْرَمَهُ اللهُ بِالإِجَابَةِ، يَوْمَ ضَرَعَ إِلَى اللهِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ قَائلاً: ((اللهُمَّ إِلَيكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمينَ، أَنْتَ رَبُّ المُستَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبِّي، إِلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلاَ أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِكَ الذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُماتُ وَصَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا والآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلاَ حَولَ ولاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ))، إِنَّهَا رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ رَاغِبٍ فِي خِدْمَةِ العَالَمِينَ، ومُسَاعَدَةِ المُحتَاجِينَ، أَنَّ مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ -صلى الله عليه وسلم-  لاَ يَضِيعُ مَعَ اللهِ جَزَاؤُهُ، ولاَ يَذْهَبُ سُدىً عَنَاؤُهُ، جُهْدُهُ مِنَ اللهِ مَشْكُورٌ، وهُوَ عَلَى عَنَائِهِ مُثَابٌ مَأْجُورٌ، فَضْلاً مِنَ الغَفُورِ الشَّكُورِ، فَلْيَمْضِ عَلَى طَرِيقِ الخَيْرِ بِثَبَاتِ الجِبَالِ، فَإِنَّ حَسْبَهُ اللهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، الذِي أَلْهَمَهُ رُشْدَهُ وهَدَاهُ الدَّلِيلَ، قَالَ تَعالَى: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ، إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))(7)، وُعْدٌ مِنَ اللهِ عَزَّوجَلَّ أنَّ بَعْدَ العُسْرِ يُسْراً، وبَعْدَ الجُهْدِ ثَواباً وأَجْراً.
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ الذِي يَدْعُو إِلَى الخَيْرِ وَيَبْذُلُ الإِحْسَانَ، ويَخْدِمُ بَنِي الإِنْسَانِ، قَدْ يَجِدُ مَنْ يَتَنَكَّرُ لِجُهُودِهِ، ويُقَابِلُ إِحْسَانَهُ بِجُحُودِهِ، بَل رُبَّمَا يَصْطَدِمُ بِمَنْ يُحَاوِلُ إِيقَافَ نَفْعِهِ، ويَرومُ الحَيْلُولَةَ بَيْـنَهُ وبَيْنَ بُلُوغِ هَدَفِهِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا تَسَلَّحَ بِالصَّبْرِ والثَّبَاتِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُقَيِّضُ لَهُ مَنْ يُعِينُهُ عَلَى جُهْدِهِ، وَيُسَدِّدُ عَلَى الخَيْرِ خُطَاهُ، ويُشَارِكُهُ جُهْدَهُ ومَسْعَاهُ، يُصَبِّرُهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، ويُواسِيهِ عِنْدَ المَصَائِبِ، وهَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، قَالَ تَعَالَى: ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ))(8)، والعَاقِبَةُ لِلتَّقوَى، والبَقَاءُ لِلأَنْفَعِ، كَمَا ضَرَبَ اللهُ المَثَلَ لِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ((أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ))(9)، وَاللهُ لَنْ يَتَخَلَّى عَنْ فَاعِلِ الخَيْرِ، وَلَنْ يَخْذُلَ الذِي يَنْفَعُ النَّاسَ، قَالَ تَعالَى: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)) (10)، وَإِنَّ مِنْ طَبِيعَةِ الإِنْسَانِ أَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ بِتَكْذِيبِ المُكَذِّبِينَ، ونُكْرَانِ الجَاحِدِينَ، فَيَتأَذَّى عِنْدَمَا يُقَابَلُ إِحْسَانُهُ بِالإِسَاءَةِ، ويَتَأَلَّمُ عِنْدَمَا تَتَعَرَّضُ جُهُودُهُ لِلتَّخْرِيبِ، ولَكِنْ يَجِبُ ألاَّ يُثْنِيَهِ ذَلِكَ عَنْ مُواصَلَةِ الجُهُودِ، بَلْ يَستَمِرُّ عَلَيْهَا مُتُوَكِّلاً عَلَى الخَالِقِ المَعبُودِ، وَيَجِبُ أَلاَّ يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى الحِقْدِ عَلَى الشَّانِئينَ، أَوِ الانْتِقَامِ مِنَ الحَاسِدِينَ، أَوِ الكَفِّ عَنْ بَذْلِ الخَيْرِ لِلْمُحتَاجِينَ، لأَنَّهُ يَفْعَلُ الخَيْرَ لِيَنْشُرَهُ، ويَعبُدُ اللهَ بِذَلِكَ لِيَأْجُرَهُ، وَأَمَّا النَّاسُ فَيُعَامِلُهُمْ بِالخُلُقِ الحَسَنِ، يَحْلُمُ عَنْ مُسِيئِهِمْ، ويَعفُو عَنْ مُخْطِئِهِمْ، وَيَستَمِرُّ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ هَدَفَهُ أَو تَأْتِيَهُ الوَفَاةُ، قَالَ تَعالَى: ((وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ))(11).
   أّيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ يَدَ اللهِ مَعَ المُسلِمِ النَّافِعِ لِعبَادِهِ، السَّاعِي بِالخَيْرِ فِي بِلاَدِهِ، المُخْلِصِ فِي سَعْيِهِ المُستَنِيرِ بِرَشَادِهِ، لَنْ يَتَخلَّى عَنْهُ وإِنِ ادلَهَمَّتِ الخُطُوبُ، وَلَنْ يَتْرُكَهُ ولَو تَكَالَبَتِ الكُرُوبُ، فَكُلَّمَا ضَاقَ الأَمْرُ اقتَرَبَ الفَرَجُ، وإِنْ أَطْبَقَ العُسْرُ أَقْبَلَ اليُسْرُ، قَالَ تَعالَى: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ))(12)، فَمِنْ سُنَّةِ اللهِ التَّمْحِيصُ لِلأَتْقِياءِ، والتَّصفِيَةُ لِلأَولِياءِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ((أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))(13)، يُمِدُّ اللهُ المُحسِنينَ بِتَأيِيدِهِ ونَصْرِهِ، وَيُنْفِذُ فِي الكَوْنِ مَا يَشَاءُ مِنْ حُكْمِهِ وأَمْرِهِ، لَقَدْ أَذْهَلَتْ حَادِثَةُ الإِسْراءِ والمِعرَاجِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، فَأَخْضَعُوها لِلْمُحَاكَمَةِ وِفْقَ مَعَايِيرِ عُقُولِهِمْ، ومَقَايِيسِ مَأْلوفَاتِهِمْ، فَوجَدُوا أَنَّها لاَ تَستَقِيمُ مَعَ تِلْكَ المَعَايِيرِ والمَقَايِيسِ، فَكَذَّبُوها وعَجِبُوا لَها أَشَدَّ العَجَبِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُستَغْرَباً عَلَى عُقُولٍ مَفْصُولَةٍ عَنْ عَالِمِ الغَيْبِ، لاَ صِلَةَ لَها بِهِ، بَيْدَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَما بَلَغَهُ الخَبَرُ لَم يَتَلكَّأْ أَو يَتَلَجْلَجْ أَو يَتَوانَ لَحْظَةً وَاحِدَةً عَنْ تَصْدِيقِهِ، لأَنَّهُ صَاحِبُ عَقْلٍ مَوصُولٍ بِالغَيْبِ، فَهُوَ نَمَوذَجُ العَقْلِ المُنْفَتِحِ عَلَى عَالَمِ الغَيْبِ المُصَدِّقِ بِهِ، المُؤمِنِ بِكُلِّ تَفصِيلاَتِهِ، كَمَا وَرَدتْ فِي القُرآنِ الكَرِيمِ والسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعتَبِروا بِذِكْرَى سِيرَتِهِ العَطِرَةِ -صلى الله عليه وسلم-  ، واهتَدُوا بِهَدْيِهِ؛ تُفْلِحُوا فِي دُنْيَاكُم وآخِرَتِكُم.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِذَا كَانَتْ رِحْلَةُ الإِسْراءِ والمِعْرَاجِ إِكْرَاماً لِشَخْصِ الرَّسُولِ الكَرِيمِ -صلى الله عليه وسلم-  وتَثْبِيتاً لَهُ وهُوَ يُواجِهُ التَّحَدِّيَاتِ والصِّعَابَ، فَإِنَّ فِيهَا إِكْرَاماً لأُمَّتِهِ، ومِنْ أَبْرَزِ صُوَرِ هَذَا الإِكْرَامِ الإِلَهيِّ لِهَذِهِ الأُمَّةِ وأَكْمَلِ نِعَمِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْها فَرْضُ الصَّلاَةِ، فَقَدْ فُرِضَتْ لَيْلَةَ المِعْرَاجِ فِي السَّمَاوَاتِ العُلاَ، وفِي هَذَا دَلاَلَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الصَّلاَةِ وجَلِيلِ قَدْرِها، فَهِيَ لَذَّةٌ لأَرْوَاحِ المُوَحِّدِينَ، وبُستَانٌ لِعَمَلِ العَابِدِينَ، وثَمَرَةٌ لِجُهْدِ الخَاشِعِينَ، وَمِحَكٌّ لأَحْوالِ الصَّادِقينَ، ومِيزَانٌ لأَصنَافِ السَّالِكينَ، وهِيَ مِنْ أَعظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْهِمْ، وأَفْضَلِ هَدَايَاهُ التِي سَاقَها إِلَيْهِمْ، هِيَ رُوحُ قُلُوبِهِم، ولَذَّةُ نُفُوسِهِم، ورِيَاضُ جَوارِحِهِم، يُفْلِحُ مَنْ أَدَّاها كَمَا شَرَعَها العَزِيزُ الحَكِيمُ، قَالَ تَعالَى: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) (14)، وهِيَ قُرَّةُ عَيْنِ النَّبِيِّ الأَمِينِ، ومَهْوَى قُلُوبِ المُؤمِنينَ، فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: ((جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ))، بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ تُكَفَّرُ السَّيِّئَاتُ وتُمْحَى الخَطِيئَاتُ وتُرفَعُ الدَّرَجَاتُ، وفِيهَا يَكُونُ العَبْدُ أَقَرَبَ مَا يَكُونُ إِلَى اللهِ إِذَا أَقَامَها فَأَكْمَلَ شُرُوطَها وأَرْكَانَها، واستَغْرَقَ قَلْبُهُ مُرَاعَاةَ حُدُودِها وحُقُوقِها، وَكَانَّ هَمُّهُ مَصرُوفاً إِلَى إِكْمَالِها وإِتْمَامِها، قَدِ استَغْرَقَ قَلْبُهُ شَأْنَ الصَّلاَةِ وعُبُودِيَّةَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعالَى، قَالَ تَعالَى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)) (15).
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- ، وأَدَّوا الصَّلاَةَ كَمَا شَرَعَها اللهُ؛ تَنْجَحوا فِي دُنْيَاكُمْ، وتُرفَعُ مَنْزِلَتُكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (16).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكّل أرزاقنا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة  الإسراء / 1 .
(2) سورة الاحزاب / 70-71 .
(3) سورة يوسف / 111 .
(4) سورة الأحزاب / 21 .
(5) سورة الإسراء / 1 .
(6) سورة النجم / 7-18 .
(7) سورة آل عمران / 173- 175 .
(8) سورة الإنعام / 34 .
(9) سورة الرعد / 17 .
(10) سورة النحل / 128 .
(11) سورة الحجر / 97-99 .
(12) سورة يوسف / 110 .
(13) سورة العنكبوت / 2-3 .
(14) سورة المؤمنون / 1-2 .
(15) سورة البقرة / 43 .
(16) سورة الأحزاب / 56 .
آخر تحديث ( 19/07/2008 )