بناءُ التَّقْوَى فِي الفَرْدِ وَالمُجتَمَع
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
29/09/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 3 شوال 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
بناءُ التَّقْوَى فِي الفَرْدِ وَالمُجتَمَع
   الْحَمْدُ للهِ الذِي أَلْبَسَ عِبَادَهُ المُؤمِنينَ حُلَلَ التَّقْوَى، وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ مَا لاَ يُعَدُّ وَلاَ يُحْصَى، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأَستَغْفِرُهُ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، عَمَرَ بِالتَّقْوَى حَيَاةَ أَولِيَائِهِ، وَرَفَعَ بِهَا شَأْنَ أَحِبَّائِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدِنَا مُحَمَّداً عَبْدُاللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ فَاتَّقَاهُ، فَعَاشَ أَفْضَلَ عَيْشٍ وَأَرقَاهُ، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَكُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَتَرَسَّمَ خُطَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤمِنُونَ :
   اتَّقُوا رَبَّكُمْ حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَتَقْوَى اللهِ جِمَاعُ الخَيْرَاتِ، وَمَنَبْعُ البَرَكَاتِ، بِهَا يَخْرُجُ المُسلِمُ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ، وَيَرْزُقُهُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحتَسِبُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحتَسِبُ))(1)، بِهَا الفَرَجُ مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ، وَاليُسْرُ مِنْ كُلِّ عُسْرٍ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً))(2)، هِيَ نُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وَجَلاَءٌ لِكُلِّ وَحْشَةٍ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ به))(3)، تَطْرُدُ الخَوْفَ، وَتُذْهِبُ الحُزْنَ: ((فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(4)، هِيَ بَابُ النَّجَاحِ وَسِرُّ الفَلاَحِ: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))(5)، مَنْ أَرَادَ العِلْمَ سَارَعَ  إِلَيْهَا: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ))(6)، وَمَنْ رَجَا قَبُولَ عَمَلِهِ التَزَمَ سَبِيلَهَا، ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ))(7)، وَبِقَدْرِ مَا يَرتَقِي العَبْدُ فِي مَرَاقِي التَّقْوَى تَكُونُ كَرَامَتُهُ عِنْدَ اللهِ: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))(8)، هِيَ سَبَبُ البَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))(9)، وَهِيَ مَنَاطُ الفَوْزِ فِي العُقْبَى: ((تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً))(10)، وَلِهَذَا - يَا عِبَادَ اللهِ- دَعَا جَمِيعُ الأَنْبِيَاءِ إِلَى التَّقْوَى، فَكُلُّ نَبِيٍّ قَالَ لِقَوْمِهِ: ((أَلاَ تَتَّقُونَ))(11)، وَأَوْصَى اللهُ بِهَا الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فَقَالَ: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))(12)، وَإِنَّ أَمْراً هَذَا شَأْنُهُ، وَهَذِهِ هِيَ مَكَانَتُهُ؛ لَحَرِيٌّ بِالعَاقِلِ الوَاعِي أَنْ يَحْرِصَ عَلَيْهِ، وَيتَحرَّى الطُّرُقَ المُوْصِلَةَ إِلَيْهِ، وَيَسْعَى جَاهِداً لِنَيْـلِهِ وَقَطْفِ ثَمَرَاتِهِ، فَإِنَّ اللهَ بَيَّنَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقَ الهُدَى وَالتُّقَى، وَطَرِيقَ البُؤْسِ وَالشَّقَاءِ، ثُمَّ تَرَكَ لَهُ الاخْتِيارَ، لِيَتَحَمَّلَ نَتِيجَةَ مَا يُفَضِّلُ وَيَخْتَارُ.
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ بِنَاءَ التَّقْوَى إِنَّمَا يُشَيَّدُ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ الإِيمَانِ الخَالِصِ للهِ، فَهُوَ البِدَايَةُ الصَّحِيحَةُ السَّلِيمَةُ، الهَادِي إِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمَةِ، يَقُولُ المَولَى    عَزَّ وَجَل: ((وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ))(13)، فَإِذَا صَلَحَ القَلْبُ وَتَنَوَّرَ بِنُورِ الإِيمَانِ، وَعَمَرَ بِمَحَبَّةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، خَلَصَ مِنْ أَكْدَارِهِ، وَصَفِيَ مِنَ الغِلِّ وَالحَسَدِ، وَالبَغْيِ وَالحِقْدِ، وَالعُجْبِ وَالغُرورِ، وَتَنَقَّى مِنْ كُلِّ الشَّوَائِبِ وَالشُّرورِ؛  فَتَبِعَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الجَوَارِحُ، فَصَلاَحُهَا بِصَلاَحِهِ، وَفَسَادُهَا بِفَسَادِهِ، يَقُولُ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم- : ((التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا، التَّقْوَى هَاهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ-))، وَيَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: ((أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ لَمُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ))، ثُمَّ الالتِفَاتِ إِلَى النَّفْسِ وَتَربِيَتِها عَلَى الطَّاعَةِ وَالإِحْسَانِ، فَتَزكِيَةُ النَّفْسِ هِيَ المُنْطَلَقُ الثَّانِي لِلتَّقْوَى بَعْدَ عِمَارَةِ القَلْبِ بِالإِيمَانِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(14)،  فَالنَّفْسُ كَالنَّبْـتَةِ الصَّغِيرَةِ مَتَى مَا تَعَاهَدَها صَاحِبُهَا بِالعِنَايَةِ وَالرِّعَايَةِ آتَتْ يَانِعَ الثِّمَارِ وَوَارِفَ الظِّلالِ، وَإِنْ تُرِكَتْ وَأُهْمِلَتْ آلَتْ إِلَى الجَفَافِ، وَصَارَتْ كَلاًّ عَلَى الأَرْضِ التِي أَنَبَتَتْهَا، وَاليَدِ التِي غَرَسَتْهَا، وَتَزكِيَةُ النَّفْسِ بِالتَّقْوَى إِنَّمَا تَكُوُنُ بِتَربِيَتِهَا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَالأَفْعَالِ الطَّيِّبَةِ، حَتَّى يُصْبِحَ فِعْـلُ الخَيْرِ لَهَا عَادَةً وَطَبْعاً، ابْـتِدَاءً بِالالتِزَامِ بِرَواتِبِ العِبَادَاتِ، ثُمَّ الاهتِمَامِ بِمُخْتَلَفِ صُنُوفِ النَّوَافِلِ وَالقُرُبَاتِ، وَانْتِهَاءً بِالإِحْسَانِ إِلَى الآخَرِينَ وَإِسْدَاءِ الجَمِيلِ، أَلاَ تَرَوْنَ- يَا عِبَادَ اللهِ- كَيْفَ قَرَنَ اللهُ فَرَائضَ العِبَادَاتِ بِالتَّقْوَى، فَقَالَ تَعَالَى فِي الأَمْرِ بِالصَّوْمِ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))(15)، وَقَالَ فِي الحَجِّ: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))(16)، وَكَذَا فِي بَقِيَّةِ الفَرَائضِ وَالأَركَانِ، فَإِذَا أَقَامَ العَبْدُ الفَرَائِضَ شَرَفَتْ نَفْسُهُ إِلَى المَزِيدِ بِالنَّوَافِلِ التِي تُرَسِّخُ قَدَمَهُ فِي التَّقْوَى، وتُوْصِلُهُ إِلَى مَحَبَّةِ المَولَى، لِيَجِدَ رَبَّهُ عِنْدَ ذَاكَ لَهُ نِعْمَ المُعِينُ وَالنَّصِيرُ، إِنْ سَأَلَ أَجَابَهُ، وَإِنْ طَلَبَ أَعْطَاهُ، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: ((مَا زَالَ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيِّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْـتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ التِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجلَهُ التِي يَمشِي بِهَا، وَلَئنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَإِنِ استَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ))، وَلاَ تَكْمُلُ التَّقْوَى عِنْدَ المُسلِمِ إِلاَّ بِالأَخْلاَقِ الفَاضِلَةِ وَالقِيَمِ النَّبِيلَةِ وَالشِّيَمِ الرَّفِيعَةِ، لِذَا جَعَلَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- حُسْنَ الخُلُقِ عَيْنَ التَّقْوَى، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((التَّقْوَى حُسْنُ الخُلُقِ))، وَقَرَنَ بَيْنَهما فِي قَولِهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((اتَّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))، وَمِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الأَخْلاَقِ التِي تُحَقِّقُ التَّقْوَى وَتُوصِلُ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ إِلَيْهَا خُلُقُ الصَّبْرِ وَالمُجَاهَدَةِ، فَمَا ذُكِرَ الصَّبْرُ فِي القُرآنِ أَكْثَرَ مِنْ مِائةِ مَرَّةٍ إِلاَّ لأَنَّ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ إِنَّمَا يُنَالاَنِ بِجَمِيلِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الاجتِهَادِ وَالمُجَاهَدَةِ، فَطَالَمَا قَرَنَ اللهُ التَّقْوَى بِالصَّبْرِ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ، يَقُولُ عَزَّ مِنْ قَائلٍ: ((إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))(17)، كَمَا قَرَنَ المُجَاهَدَةَ بِالهِدَايَةِ المُوْصِلَةِ إِلَى التَّقْوَى، وَالتِي بِهَا تُنَالُ مَعِيَّةُ اللهِ، يَقُولُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))(18).
   أَيُّهَا المُؤمِنُونَ :
   إِنَّ المُؤمِنَ وَهُوَ يَسْعَى إِلَى غَايَةِ التَّقْوَى النَّبِيلَةِ، وَيَجتَهِدُ فِي تَحَرِّي طَرِيقِهَا وَالوَسِيلَةِ، عَلَيْهِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي مَاضِيهِ، وَيَدْرُسَهُ دِرَاسَةً وَافِيَةً، وَيَنْظُرَ فِيمَا حَقَقَّهُ مِمَّا يَصبُو إِلَيْهِ، فَلَطَالَمَا وَجَّهَ القُرآنُ الكَرِيمُ العِنَايَةَ بِالاستِفَادَةِ مِنَ المَاضِي، وَأَخْذِ العِبْرَةِ مِنَ الغَابِرِ، وَهَذَا فِي آيَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، أَو يُعَدَّ وَيُستَقْصَى، وَمَا ذَاكَ إِلاَّ لِيَستَعِينَ المُؤمِنُ بِعِبَرِ مَاضِيهِ فِي بِنَاءِ حَاضِرٍ مُشْرِقٍ، وَيَضَعَ الخُطَطَ السَّلِيمَةَ لِمُستَقْبَلٍ مُتَأَلِّقٍ، وَلِهَذَا جَمَعَ اللهُ بَيْنَ التَّخْطِيطِ لِلْمُستَقْبَلِ وَبَيْنَ غَايَةِ التَّقْوَى، بَلْ جَعَلَ الأَمْرَ بِالتَّقْوَى مُكَرَّراً بَيْنَ الأَمْرِ بِحُسْنِ العَمَلِ لِلْمُستَقْبَلِ الوَاعِدِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))(19)، فَلاَ بُدَّ لِمَنْ أَرَادَ التَّقْوَى أَنْ يَنْظُرَ فِيمَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلٍ، تِجَاهَ نَفْسِهِ وَتِجَاهَ الآخَرِينَ، فَمَتَى مَا وَجَدَ حَسَناً فَلْيَحْمَدِ اللهِ، وَمَتَى مَا وَجَدَ خَطَأً -وَكُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ- فَلْيَكُنْ خَيْرَ الخَطَّائينَ بِحُسْنِ الإِصْلاَحِ، فَهَذَا هُوَ دَيْدَنُ المُتَّقِينَ، يَهتَدُونَ بِنُورِ تَقْوَاهُمْ لإِصْلاَحِ الأَخْطَاءِ السَّابِقَةِ وَعَدَمِ تَكْرَارِهَا؛ حَتَّى يَعْمُروا حَاضِرَهُمْ ومُستَقْبَلَهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ))(20).
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَرَبُّوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى فِعْـلِ الخَيْرِ، وَالإِحْسَانِ إِلَى الغَيْرِ، واجْعَلُوا ذَلِكَ لَكُمْ دَأْباً وَعَادَةً؛ لِتَحْـظَوا بِالتَّقْوَى وتَنَالُوا السَّعَادَةَ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ لِبِنَاءِ التَّقْوَى أَبْعَاداً أُسَرِيَّةً، فَالمُؤمِنُ حِينَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ التَّقْوَى، وَيجِدُ طِيبَ ثَمَرَاتِهَا، تَتَوقُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يَبلُغَ الخَيْرُ ذَوِيهِ، وَيَصِلَ الثَّمَرُ لِمَنْ حَولَهُ وَمُحِبِّيهِ، فَطُوبَى لِمَنِ امتَلأَتْ نَفْسُهُ بِهَذَا الشُّعُورِ، وَأَدْرَكَ الوَاجِبَ المُتَرَتِّبَ عَلَيْهِ، وَقَدْ تَحلَّى بِخَصْلَةِ التَّقْوَى، وَرَاقَبَ رَبَّهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى، فَحَرَصَ كُلَّ الحِرْصِ عَلَى أَنْ تَكُونَ أُسْرَتُهُ أُسْرَةَ تَقْوَى وَصَلاَحٍ، يَتَرابَطُ أَفْرَادُهَا فيمَا بَيْنَهُمْ بِالحُبِّ وَالمَودَّةِ، وَيَمْلأُ قُلُوبَهُمْ تِجَاهَ بَعْضِهِمُ الصَّفَاءُ وَالنَّقَاءُ، فَتَكُونُ تِلْكَ القُلُوبُ التَّقِيَّةُ النَّقِيَّةُ وَسِيلَةً لِبِنَاءِ أُسْرَةٍ تُعْنَى بِالحُقُوقِ وَالوَاجِبَاتِ، ويُدْرِكُ كُلُّ فُرْدٍ فيهَا مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ خَصلَةِ التَّقْوَى فِي أُسْرَتِهِ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ لَهَا عَلَى خَيْرِ بِنَاءٍ، وَذَلِكَ بِاختِيَارِ الشَّرِيكِ الطَّيِّبِ الذِي يَكُونُ لَهَا السَّاعِدَ الأَيْمَنَ فِي تَشْيِيدِ الأُسْرَةِ التَّقِيَّةِ الصَّالِحَةِ، حَتَّى تَكُونَ أُسْرَةً يَعْرِفُ كُلٌّ مِنَ الزَّوجَيْنِ فِيهَا حُقُوقَ زَوْجِهِ، فَلاَ يَبْخَسُهُ شَيئاً، مُنْطَلِقاً مِنَ التَّقْوَى التِي تَعْمُرُ قَلْبَهُ وَتَمْلأُ كِيَانَهُ،  فَيَحْرِصُ كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى استِعْطَافِ قَلْبِ الآخَرِ، واستِجْلاَبِ وُدِّهِ بِشَتَّى الطُّرُقِ ومُخْتَلَفِ الوَسَائلِ، فَتَنْتَشِرُ المَحَبَّةُ بَيْنَهُمَا، وَيشِيعُ السَّكَنُ الذِي هُوَ مِنْ أَجَلِّ غَايَاتِ عَلاَقتِهِمَا، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ العُظْمَى كَمَا قَالَ تَعالَى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ))(21)، ثُمَّ يَضَعُ كُلٌّ مِنَ الزَّوجَيْنِ يَدَهُ فِي يَدِ شَرِيكِهِ لِيَعْـتَنِيَا بِأَبنَائِهمَا بِالتَّرْبِيَةِ الصَّالِحَةِ بِجَمِيعِ جَوَانِبِها النَّفْسِيَّةِ وَالصِّحيَّةِ والرُّوحِيَّةِ والخُلُقِيَّةِ، لِيَكُونُوا عَلَى قَدَمٍ رَاسِخٍ فِي التَّقْوَى، فَإِذَا قَامَ البَيْتُ المُسلِمُ عَلَى حُسْنِ التَّعَامُلِ بِالأَخْلاَقِ الفَاضِلَةِ، والالتِزَامِ بِالشِّيَمِ النَّبِيلَةِ، وَسَادَ البِرُّ والتَّآزُرُ، وَعَمَّتِ المَودَّةُ والتَّرَاحُمُ، وَتَواصَى الجَمِيعُ عَلَى الخَيْرِ؛ اكتَمَلَ بِنَاءُ التَّقْوَى فِي الأُسْرَةِ.
   أيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ بِنَاءَ التَّقْوَى يَتَجَاوَزُ حُدُودَ الفَرْدِ وَالأُسْرَةِ، لِيَكُونَ لَهُ الحُضُورُ الاجتِمَاعِيُّ البَارِزُ فِي المُجتَمَعِ المُسلِمِ، فَالفَرْدُ الذِي مَلأَتِ التَّقْوَى كِيَانَهُ، وَبَنَى عَلَيْهَا أُسْرَتَهُ، إِنَّمَا يَكُونُ هُوَ وَأُسْرَتُهُ التَّقِيَّةُ خَيْرَ لَبِنَةٍ يَقُومُ عَلَيْهَا المُجتَمَعُ الرَّاشِدُ، الذِي يَعِي كُلُّ فَرْدٍ فِيهِ وَاجِبَهُ تِجَاهَ أَبْنَاءِ مُجتَمَعِهِ، وَبِذَا تَكُونُ جَمِيعُ مُؤَسَّسَاتِ المُجتَمَعِ قَائِمَةً عَلَى التَّقْوَى، فَتَجِدُ بِنَاءَ التَّقْوَى مُشَيَّداً فِي المَكَاتِبِ وَالدَّوَائِرِ الحُكُومِيَّةِ، وَالمُؤَسَّسَاتِ الخَاصَّةِ وَالمِهْـنِيَّةِ، وَفِي القِطَاعَاتِ كَافَّة، وَعَبْرَ مُخْتَلَفِ قَنَوَاتِ الاتِّصالِ، بَلْ يَتَجَاوَزُ حُدُودَ المُجتَمَعِ إِلَى المُجتَمَعَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ الأُخْرَى، فَيَقُومُ التَّعَامُلُ مَعَ الجَمِيعِ عَلَى أَسَاسٍ رَاسِخٍ مِنَ التَّقْوَى، فَتُحَقِّقُ لِلْجَمِيعِ بَرَكَاتِها.
   فَاتَّقَوا اللهَ رَبَّكُمْ -عِبَادَ اللهِ-، وَأَقِيمُوا عَلَى التَّقْوَى أُسَرَكُمْ، واعْمُرُوا بِهَا مُجتَمَعَاتِكُمْ، تَنَالُوا البَرَكَةَ فِي دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (22).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ)).
(1) سورة الطلاق/ 2-3.
(2) سورة الطلاق/  4.
(3) سورة الحديد/ 28.
(4) سورة الأعراف/ 35.
(5) سورة البقرة/ 189.
(6) سورة البقرة/ 282.
(7) سورة المائدة / 27.
(8) سورة الحجرات/ 13.
(9) سورة الأعراف/ 96.
(10) سورة مريم/ 63.
(11) سورة الشعراء/ 106.
(12) سورة النساء/ 131.
(13) سورة التغابن/ 11.
(14) سورة الشمس/ 7-10.
(15) سورة البقرة/ 183.
(16) سورة الحج/ 32 .
(17) سورة يوسف/ 90.
(18) سورة العنكبوت/ 69.
(19) سورة الحشر/ 18.
(20) سورة الأعراف/ 201.
(21) سورة الروم/ 21.
(22) سورة الأحزاب / 56 .