الـتَّربيَةُ الأخلاقِـيَّةُ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
22/11/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 29 ذي القعدة 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الـتَّربيَةُ الأخلاقِـيَّةُ

  الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، كَتَبَ الفَوزَ وَالفَلاَحَ لِمَنْ أَخْضَعَ نَفْسَهُ لِلتَّزكِيَةِ وَالإِصْلاَحِ، حَيْثُ قَالَ وَقَولُهُ الحَقُّ المُبِينُ: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(1)، أحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ العَلِيمُ الخَلاّقُ، قَسَمَ بَيْنَ عِبَادِهِ الأَخْلاَقَ كَمَا قَسَمَ بَينَهُمُ الأَرزَاقَ، فَبَوَّأَ حُسْنَ الخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا، وَهَدَى صَاحِبَهُ صِراطًا سَوِيًّا، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَسْمَى النَّاسِ أَخْلاَقًا وَأَفْعَالاً، وَأَعْدَلُهُمْ أَحْوَالاً وَأَزكَاهُمْ أَقْوَالاً، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الذِينَ جَاهَدُوا أَنْفُسَهُمْ وَصَدَقُوا، وَأَحَبُّوا الخَيْرَ فَسَارَعُوا إِلَيْهِ وَسَبَقُوا، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

    أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   التَّربِيَةُ هِيَ تَبلِيغُ الشَّيءِ إِلَى كَمَالِهِ شَيئًا فَشَيئًا، وَلِتَربِيَةِ الأَخْلاَقِ دَوْرٌ رَائدٌ وَسَبَّاقٌ فِي إِعْدَادِ الإِنْسَانِ لِلْقِيَامِ بِرِسَالَتِهِ، وَتَنْمِيَةِ ذَاتِيَّتِهِ، وَتَحقِيقِ انْدِمَاجِهِ فِي مُجتَمَعِهِ وَالتَّكيُّفِ وَالتَّوافُقِ مَعَهُ، وَبِذَلِكَ يَنْفَسِحُ الطَّرِيقُ أَمَامَهُ لِيَكْتُبَ قِيَمًا خَلاَّقَةً، وَمَعَارِفَ حَضَارِيَّةً وَعُلُومًا سَبَّاقَةً، بِهَدَفِ تَحقِيقِ الخَيْرِ لَهُ وَلأُسْرَتِهِ وَمُجتَمَعِهِ، وَلَمَّا كَانَتِ الأَخْلاَقُ هِيَ مِحْوَرَ الرِّسَالاَتِ السَّمَاوِيَّةِ -كَمَا أَعلَنَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  وَوَضَّحَ، وبَيَّنَ وَأَفْصَحَ، حَيْثُ قَالَ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخلاَقِ))- لَمَّا كَانَتِ الأَخلاَقُ عَلَى هَذَا القَدْرِ مِنَ الأَهَمِّيَّةِ وَضَعَ الإِسلاَمُ المِيزَانَ وَالمِعْيارَ لِدَعْوَتِهِ عَلَى أَسَاسِ مَا دَعَا إِلَيْهِ مِنْ أَفْكَارٍ بَنَّاءَةٍ، وَأَخْلاَقٍ حَمِيدَةٍ وقِيَمٍ رَشِيدَةٍ، فَالإِسلاَمُ رِسَالَةُ تَربِيَةٍ، وَتَطْهِيرٍ وَتَزكِيَةٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))(2)، وَيَقُولُ جَلَّ شأْنُهُ: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ))(3)، وَلِرِسَالَةِ الإِسلاَمِ سَاحَاتٌ وَميَادِينُ، أَوَّلُها النَّفْسُ وَالضَّمِيرُ، فَإِذَا رَبَّى كُلُّ إِنْسَانٍ الأَخْلاَقَ فِي نَفْسِهِ، وَتَعَهَّدَهَا بِالتَّنْظِيفِ وَالتَّنْقِيَةِ؛ ازْدَادَتْ تَزكِيَةً وَتَرقِيَةً، فَاكتَسَبَتْ فَلاَحًا، وَحَقَّقَتْ نَجَاحًا، فَأَسْهَمَتْ فِي إِقَامَةِ مُجتَمَعٍ نَظِيفٍ، يَسُودُ فِيهِ العَمَلُ الصَّالِحُ وَالقَولُ السَّدِيدُ العَفِيفُ، وَمُجتَمَعٌ أَفْرَادُهُ عَلَى هَذَا الطِّرَازِ وَالمُستَوَى مِنْ نَظَافَةِ المَشَاعِرِ وَالسُّلُوكِ مُجتَمَعٌ تَسُودُهُ الطُّمَأنِينَةُ وَالهُدُوءُ وَالسَّكِينَةُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى))(4)، وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلاَ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))(5).
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ التَّربِيَةَ الأَخْلاَقِيَّةَ فِي الإِسلاَمِ تَبْدَأُ بِالفَرْدِ فَتَرُدُّهُ إِلَى فِطْرَتِهِ السَّلِيمَةِ السَّوِيَّةِ القَوِيمَةِ، كَمَا تُرَبِّي فِيهِ الضَّمِيرَ المُرهَفَ الحَسَّاسَ، الذِي يُرَاعِي شُعُورَ كُلِّ النَّاسِ، وتُرَوِّضُهُ عَلَى الخُلُقِ الفَاضِلِ؛ فَيُمَارِسُ الأَخْلاَقَ الطَّيِّبَةَ الزَّكِيَّةَ مُمَارَسَةً وَاقِعيَّةً عَملِيَّةً، فَيُحِبُّ الخَيْرَ وَيعْشَقُهُ، ويُلاَزِمُهُ ويُرَافِقُهُ، وَيَزْدَادُ سُموًّا وَرِفْعَةً وَعُلُوًّا، فَلاَ يَتَوقَّفُ عِنْدَ حُبِّهِ لِلْخَيْرِ وَإِنَّمَا يَتَعَدَّاهُ إِلَى كَرَاهِيَةِ الشَّرِّ، فَلَيْسَ الصَّالِحُ مَنْ هُوَ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ فَقَط، وَإِنَّمَا هُوَ صَالِحٌ فِي نَفْسِهِ مُصلِحٌ لِغَيْرِهِ، وَلَقَدْ ظَلَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  ثَلاَثَةَ عَشَرَ عَامًا فِي مَكَّةَ يَغْرِسُ فِي نُفُوسِ أَصْحَابِهِ بُذُورَ الأَخلاَقِ الفَاضِلَةِ، ويُرَبِّيها ويُغَذِّيْها ويُنمِّيها، بِالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ تَارَةً وَبِالقُدْوَةِ العَملِيَّةِ تَارَةً أُخْرَى، لِيَعَمَلُوا عَلَى عِمَارَةِ الدُّنْيَا وَالأُخْرَى، وَقَدَ شَهِدَ دَارُ الأَرقَمِ فِي مَكَّةَ ومِنْ بَعْدِهِ المَسجِدُ النَّبَوِيُّ فِي المَدِينَةِ هَذَهِ التَّربِيَةَ السُّلُوكِيَّةَ الفَرِيدَةَ، فَتَغيَّرَتْ أَوضَاعٌ، وَتَبدَّلَتْ طِبَاعٌ، إِذْ سَارَتْ وَفْقَ التَّربِيَةِ القُرآنِيَّةِ التِي تُوافِقُ وتُلاَئِمُ الطَّبِيعَةَ البَشَرِيَّةَ وَالاستِعْدَادَاتِ الفِطْرِيَّةَ، وَحَقَّقَتْ لِلإِنْسَانِ رَاحَتَهُ النَّفْسِيَّةَ وطُمَأْنِينَتَهُ القَلْبِيَّةَ، فَالقُرآنُ الكَرِيمُ يَهْدِي لِلْتَي هِيَ أَقْوَمُ، وَيأْخُذُ بِيَدِ الإِنْسَانِ إِلَى مَا هُوَ أَنْجَى وَأَسلَمُ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ شأنُهُ: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا))(6)، وَقَدْ صَوَّرَ جَعفَرُ بنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَبْدَعَ تَصْوِيرٍ، هَذَا التَّبْدِيلَ والتَّغْيِيرَ، حينَ قَالَ أَمَامَ النَّجَاشِيِّ: ((لَقَدْ كُنَّا قَومًا أَهلَ جَاهِليَّةٍ؛ نَأْكُلُ المَيْـتَةَ، وَنَأْتِي الفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الأَرْحاَمَ، ونُسِيءُ الجِوَارَ، وَيأْكُلُ القَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَبَعَثَ اللهُ فِينَا رَسُولاً مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَأَمَرَنا أَنْ نَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ، وَصِدْقِ الحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ وَحُسْنِ الجِوَارِ، وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهانَا عَنِ الفَوَاحِشِ وَقَولِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالِ اليَتِيمِ وَقَذْفِ المُحصَنَاتِ؛ فَصَدَّقْنَاهُ وآمَنَّا بِهِ)).
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   لَقَدْ وَضَعَ الإِسلاَمُ حَوَافِزَ لِلتَّربِيَةِ الأَخلاَقِيَّةِ، مِنْهَا اكتِسَابُ الفَردِ لِحُبِّ النَّاسِ، فَالإِنْسَانُ السَّوِيُّ الفِطْرَةِ يُسْعِدُهُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ النَّاسِ مَحْبُوبًا وَمَقْبُولاً وَمَرغُوبًا، فَإِنْ تَخَلَّقَ بِالأَخلاَقِ الرَّشِيدَةِ، وَتَحلَّى بِالخِصَالِ الحَمِيدَةِ تُلُقِّي بِالقَبُولِ تِلْقَائيًّا مِنَ النَّاسِ مِمَّا لاَ يُمكِنُهُ تَحقِيقُهُ بِمَالِهِ أَو جَاهِهِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّكُمْ لَنْ تَسَعُوا النَّاسَ بِأَمَوالِكُمْ فَسَعُوهُمْ بِحُسْنِ الخُلُقِ))، وَيَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((المُسلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ))، وَيَقُولُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: ((خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاقًا))، فَالإِنْسَانُ لاَ أَهَمِّيَّةَ لِذَاتِهِ إِذا نُزِعَتْ مِنْ إِطَارِهَا الاجتِمَاعِيِّ، فَالذِي لاَ يَهتَمُّ بِالآخَرِينَ، وَلاَ يَشْعُرُ بِشُعُورِهِمْ، وَلاَ يَنْفَعِلُ بِآلاَمِهِمْ وَآمَالِهِمْ، وَلاَ يَفْرَحُ لأَفْرَاحِهِمْ، وَلاَ يُحِسُّ بِمَآسِيهِمْ وَأَتْرَاحِهِمْ؛ لاَ يُسْهِمُ فِي تَربِيَةِ أَخْلاَقِهِ وَتَزكِيَةِ نَفْسِهِ؛ لأَنَّ مَا حَاطَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ سِتَارٍ حَاجِبٍ أَفْقَدَ عِنْدَهُ الاهتِمَامَ بِعَمَلِ مَا هُوَ لاَزِمٌ وَوَاجِبٌ، إِنَّ الأَعْمَالَ الخَيِّرَةَ وَالأَخْلاَقَ النَّيِّرَةَ تَنْقُلُ صَاحِبَهَا مِنْ حَيَاةٍ سَلْبِيَّةٍ إِلَى حَيَاةٍ إِيجَابِيَّةٍ، يَبْحَثُ الإِنْسَانُ فِيهَا عَنِ الخَيْرِ وَيَقْصِدُهُ، وَيَنْبِذُ عَنْهُ الشَّرَّ وَيُبْعِدُهُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ))(7)، وَمِنْ وَسَائلِ تَربِيَةِ الأَخْلاَقِ استِقْلاَلُ الإِنْسَانِ فِي اتِّبَاعِ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، فَلاَ يَنْجَرُّ وَرَاءَ مَسَاوِيهَا وَلاَ يَنْسَاقُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((لاَ يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً يَقُولُ: أَنَا مَعَ النَّاسِ؛ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ وإِنْ أَسَاؤُوا أَسأْتُ، وَلَكِن وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحَسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وإِنْ أَسَاؤوا أَنْ تَجتَنِبُوا إِسَاءَتَهُمْ)).
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَلْيَعْمَلْ كُلٌّ مِنْكُمْ عَلَى تَربِيَةِ أَخْلاَقِهِ وتَزكِيَتِها؛ لِيَنَالَ الخَيْرَ وَالسَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالأُخْرَى.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ مِمَّا يُعِينُ عَلَى تَربِيَةِ الأَخْلاَقِ وَتَزكِيَتِها اختِيَارَ الأَصْدِقَاءِ وَانِتَقَاءَ الرُّفَقَاءِ، فَأَثَرُ الصَّدِيقِ وَالرَّفِيقِ فِي صَدِيقِهِ وَرَفِيقِهِ عَمِيقٌ، وَلَهُ دَورٌ كَبِيرٌ فِي تَوجِيهِ المَسِيرِ وَتَحْدِيدِ الطَّرِيقِ، وَالعَاقِلُ الفَطِنُ الحَذِرُ اليَقِظُ هُوَ مَنْ يَنْتَقِي أَصْدِقَاءَهُ وَيَبلُوَ حَقَائِقَهُمْ قَبْـلَ أَنْ يُرَافِقَهُمْ ويُصَادِقَهُمْ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ إِلَى الخَيْرِ دَاعِينَ، وَإِلَى الصَّلاَحِ سَاعِينَ؛ خَالَطَهُمْ وَرَافَقَهُمْ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ نَأَى بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ وَفَارَقَهُمْ، بَعْدَ أَنْ يُبَرِّئَ ذِمَّتَهُ ويُخلِيَ مَسؤولِيَّتَهُ بِالإِرشَادِ وَالتَّوجِيهِ وَالنُّصْحِ وَالتَّنْبِيهِ، وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ كَانَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَى الشَّرِّ جَانِحَةً، وَعَنِ الخَيْرِ صَادَّةً وَجَامِحَةً؛ صَادَقُوا أَهلَ الخَيْرِ وَرَافَقُوهُمْ، واستَجَابُوا لِنَصائِحِهِمْ ووَافَقُوهُمْ، فَصَحَّحُوا المَقْصَدَ والاتِّجَاهَ، فَفَازُوا بِالسَّعَادَةِ وَالنَّجَاةِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ)).
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
   إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ وَسَائلِ التَّربِيَةِ الأَخْلاَقِيَّةِ اللُّجُوءَ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّضَرُّعِ وَالدُّعَاءِ أَنْ يُعِينَ عَلَى حُسْنِ الأَخْلاَقِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا، وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  -وَهُوَ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ بِشَهَادَةِ القُرآنِ الكَرِيمِ- كَانَ يَدْعُو رَبَّهُ فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ كَمَا حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي))، وَكَانَ يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((اللَّهُمَّ اهدِني لأَحْسَنِ الأَخلاَقِ إِنَّهُ لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِها إِلاَّ أَنْتَ، واصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا إِنَّهُ لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ))، وَمَا أَحْسَنَ أَنْ يَغْتَنِمَ المُؤمِنُ الأَوقَاتَ الفَاضِلَةَ وَمُواسِمَ الخَيْرِ فَيَدْعُوَ رَبَّهُ لِتَحقِيقِ ذَلِكَ، وَهَا أَنْتُمْ -عِبادَ اللهِ- أَمَامَ مَوسِمٍ مِنْ هَذَهِ المَوَاسِمِ الخَيِّرَةِ، أَلاَ وَهِيَ الأَيَّامُ العَشْرُ مِنْ ذِي الحِجَّةِ، وَفِيهَا فُرصَةٌ عَظِيمَةٌ لِتَنْمِيَةِ الأَخْلاَقِ وتَزكِيَتِهَا مِنْ خِلاَلِ المُتَابَعَةِ فِي فِعْـلِ الخَيْرَاتِ وَعَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَتَنَوُّعِ العِبَادَاتِ، مِنْ صِيَامٍ وَصَلَواتٍ، وَذِكْرٍ وَدَعَواتٍ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((مَا مِنْ أَيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ      - يَعنِي الأَيَّامَ العَشْرَ-))، وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ العُلَمَاءِ أَنَّها الأَيَّامُ التِي أَقْسَمَ اللهُ بِلَيَالِيها فِي قَولِهِ تَعَالَى: ((وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ))(8).
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، والْتَمِسُوا السُّبُلَ وَالوَسَائِلَ لِتَربِيَةِ نُفُوسِكُمْ عَلَى أَحْسَنِ الأَخْلاَقِ، لِتَنَالُوا مَرْضَاةَ اللهِ الوَاحِدِ الخَلاَّقِ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (9).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
                                            
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
                                            
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الشمس/ 9-10. ً
(2) سورة آل عمران/ 164.
(3) سورة الجمعة/ 2.
(4) سورة الأعلى/ 14-15.
(5) سورة الأحزاب/ 70-71.
(6) سورة الإسراء/ 9.
(7) سورة العصر/ 1-3.
(8) سورة الفجر/ 1-2.
(9) سورة الأحزاب / 56 .