الـتَّوازُنُ فِي الـتَّر بِيَةِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
14/12/2008

خطبة الجمعة بتاريخ 20 ذي الحجة 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الـتَّوازُنُ فِي الـتَّر بِيَةِ

   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَهَبَ لِمَنْ شَاءَ البَنَاتِ وَالبَنِينَ، وَوَكَلَ إِلَى الآبَاءِ مَسؤولِيَّةَ رِعَايَتِهِمْ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عَلَّمَنَا أُصُولَ التَّربِيَةِ وَالتَّوَازُنَ فِيهَا، -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.  

    أّمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :         
    يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ))(1)، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ لُقْمَانَ: ((يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ))(2).
    أَيُّها المُؤمِنونَ :
    إِنَّ المُتَأَمِّلَ لِتِلْكَ الآيَاتِ العَظِيمَةِ وَالوَصَايَا النَّفِيسَةِ، يُدْرِكُ مَدَى ِحْرصِ لُقْمَانَ عَلَى وَلَدِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ لِيَحْظَى مِنَ الدُّنْيَا بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَيَنَالَ مِنَ الآخِرَةِ حَظًّا أَوفَرَ، انْظُروا كَيْفَ وَعَظَ ابنَهُ لِيَكُونَ ذَا شَأْنٍ فِي مُجتَمَعِهِ ((وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ))، وَكَيْفَ وَعَظَهُ لِيُرَاقِبَ اللهَ فِي السِّرِّ وَالعَلَنِ، فَيَكُونَ مِمَّنَ آتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ. إِنَّهُ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلاَّ وَيَرغَبُ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهُ غَايَةً فِي العِلْمِ وَالخُلُقِ، وَلَكِنَّ الرَّغْبَةَ وَحْدَهَا لاَ تَكْفِي، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَكِي بَعْضُ الآبَاءِ مِنْ صُعُوبَةِ التَّعَامُلِ مَعَ أَولاَدِهِمْ وَهُمْ يَذُودُونَ عَنْهُمْ مُغْرِيَاتِ الحَيَاةِ وَفِتَنَ الدُّنْيَا.
    عِبَادَ اللهِ :
    لَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : ((كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ))، فَالمَولُودُ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، ثُمَّ تَقُومُ البِيئَةُ بِالتَّربِيَةِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُسْهِمُ فِي صِيَاغَةِ شَخْصِيَّةِ وَلَدِهِ وَيَبْنِي فِيهِ القِيَمَ، وَهَذَا مَا يُؤكِّدُهُ عُلَمَاءُ التَّربِيَةِ، فَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الآبَاءِ وَالمُجتَمَعِ وَوَسَائلِ الإِعْلاَمِ وَالمُدْرَسَةِ وَالأَصْحَابِ وَغَيْرِهِمْ؛ لِذَا وَجَبَ عَلَى الآبَاءِ أَنْ يُؤَدُّوا الدَّوْرَ الأَهَمَّ خَيْرَ تَأْدِيَةٍ، وَأَنْ يَرقُبُوا تِلْكَ المُؤَثِّرَاتِ التِي يَتَعَرَّضُ لَهَا أَبْنَاؤُهُمْ، فَوَصِيَّةُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- لِلآَبَاءِ بَاقِيَةٌ عَلَى الدَّوَامِ، لاَ تٌغَيِّرُهَا صُرُوفُ الزَّمَانِ، فَهُوَ يَقُولُ: ((أَكْرِمُوا أَولاَدَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ)). إِنَّ الصَّبِيَّ أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ، وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوهَرَةٌ نَفِيْسَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ صُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا يُمْـلَى عَلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الخَيْرَ نَشَأَ عَلَيْهِ وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، يُشَارِكُهُ فِي ثَوَابِهِ أَبَوَاهُ وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ شَقِيَ وَهَلَكَ، وَكَانَ الوِزْرُ فِي رَقَبَةِ القَيِّمِ بِهِ وَالوَلِيِّ عَلَيْهِ. إِنَّ مَا تَنْقُشُهُ  - أَيُّهَا الأَبُ المُرَبِّي- عَلَى تِلْكَ الصَّفْحَةِ وَقْتَ النَّشْأَةِ يَتَرَاءَى أَمَامَكَ وَقْتَ الشَّبَابِ؛ فَإِنْ تَرَكْتَ الطِّفْلَ مِنْ غَيْرِ تَربِيَةٍ؛ تَعَوَّدَ مَا تَرَكْتَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَوَّمْتَ اعْوِجَاجَهُ؛ نَطَقَ بِكُلِّ قَيِّمٍ مِنَ الكَلاَمِ وَتَخَلَّقَ بِكُلِّ رَزِينٍ مِنَ الخُلُقِ، فَمَنْ شَبَّ عَلَى شَيءٍ شَابَ عَلَيْهِ.
    أيُّهَا المُسلِمُونَ :
    إِنَّ أَهَمَّ العَنَاصِرِ التِي يَجِبُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهَا تَربِيَةُ الطِّفْلِ هِيَ التَّربِيَةُ بِالقُدْوَةِ، بِمَعْنَى أَنْ تَكُونَ التَّربِيَةُ بِالفِعْلِ لاَ بِالقَولِ، وَلْيَحْذَرِ المُرَبِّي أَنْ يُخَالِفَ قَولُهُ عَمَلَهُ، فَلاَ يَحِقُّ لِمَنْ يَرتَكِبُ خَطأً أَنْ يَمْنَعَ وَلَدَهُ بِالقَولِ فَقَطْ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُرِيَهُ الالتِزَامَ بِالفِعْلِ؛ لأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ إِنَّمَا يَنْهَاهُ بِقَولِهِ وَيَسْمَحُ لَهُ بِفِعلِهِ، وَالفِعْلُ أَكْبَرُ أَثَرًا مِنَ القَولِ، لِذَا فَإِنَّ نَهْيَكَ -أَيُّهَا الأَبُ- بِالقَولِ لَنْ يَزِيدَ وَلَدَكَ إِلاَّ إِصْرَارًا وَتَمَسُّكًا بِهَذَا الشَّيءِ، فَرَبِّ نَفْسَكَ أَوَّلاً يَخْرُجْ وَلَدُكَ كَمَا كُنْتَ، فَمَنْ شَابَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ، وَالشَّبَهُ يَكُونُ بِمُشَاكَلَتِهِ لِفِعلِكَ لاَ بِتَطْبِيقِ قَولِكَ، وَاسمَعُوا مَعِي إِلَى وَصِيَّةِ أَحَدِ العُلَمَاءِ لِمُؤَدِّبِ الأَولاَدِ حَيْثُ قَالَ لَهُ: (لِيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَبْدَأُ بِهِ مِنْ إِصْلاَحِ الأَولاَدِ إِصْلاَحُكَ نَفْسَكَ، فَإِنَّ أَعيُنَهُمْ مَعقُودَةٌ بِعَيْـنِكَ، فَالحَسَنُ عِنْدَهُمْ مَا تَستَحْسِنُهُ، وَالقَبِيحُ عِنْدَهُمْ مَا تَكْرَهُهُ)، فَالتَّربِيَةُ بِالقُدْوَةِ أَهَمُّ بِكَثِيرٍ مِنَ التَّربِيَةِ بِالفِكْرَةِ؛ لأَنَّ الفِكْرَةَ تَبقَى فِي عَالَمِ المِثَالِ مِنْ غَيْرِ تَطْبِيقٍ، وَلَكِنْ عِنْدَمَا تُطَبَّقُ يَكُونُ وَقْعُهَا فِي النَّفْسِ أَعْمَقَ، وَيَفْهَمُ النَّاسُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ فِكْرَةٍ مِثَالِيَّةٍ بَلْ حَقِيقَةٌ وَاقِعَةٌ، وَهَذَا مَا أَكَّدَهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- ، فَالصَّحَابَةُ مَا كَانُوا لِيُطَبِّـقُوا أَوَامِرَ اللهِ لَو أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- تَخَلَّفَ فِي فِعْـلِهِ عَنْ قَولِهِ، وَمَا أَكْثَرُ مَا نَهَى القُرآنُ عَنْ مُخُالَفَةِ الفِعْلِ لِلْقَولِ، قَالَ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ))(3)، وِممَّا يَدْخُلُ فِي بَابِ التَّربِيَةِ بِالقُدْوَةِ، أَنْ يَلْتَزمَ الأَبُ الصِّدْقَ فِي أَقْوالِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَلاَ يَتَهاوَنُ فِي وَعْدِ وَلَدِهِ بِشَيءٍ لاَ يَرْغَبُ فِي تَحقِيقِهِ، فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يُحَقِّقْ مَا وَعَدَ بِهِ تَرَكَ ذَلِكَ أَثَرًا سَلْبِيًّا فِي وَلَدِهِ، وَارتَكَبَ الأَبُ بِذَلِكَ إِثْمًا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَامِرٍ قَالَ: ((دَعَتْنِي أُمِّي يَومًا وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قاعِدٌ فِي بَيْـتِنَا فَقَالَتْ: تَعَالَ أُعْطِكَ؛ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيْهِ؟ قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا؛ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : أَمَا إِنَّكِ لَو لَمْ تُعْطِهِ شَيئًا كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ)).
    أَيُّهَا المُؤمِنونَ :
    إِنَّ عَلَينَا فِي عَمِليَّةِ التَّربِيَةِ أَنْ نُحَقِّقَ مُعَادَلَةَ التَّوَازُنِ بِكُلِّ أَشْكَالِهِ، التَّوَازُنِ المَادِّيِّ وَالمَعَنَوِيِّ، التَّوَازُنِ المَالِيِّ وَالعَاطِفيِّ، فَبَعْضُ الآبَاءِ يَرَى أَنَّ القَسْوَةَ وَسِيلَةٌ مُهِمَّةٌ لِلضَّغْطِ عَلَى الوَلَدِ؛ لأَنَّهَا تُنَشِّئُهُ قَوِيَّ الشَّكِيمَةِ، وَهَذَا فَهْمٌ خَاطِئٌ، وَبَعْضُهُمْ يُفْرِطُ فِي اللِّينِ إِلَى حَدِّ تَضْيِيعِ المَبَادِئِ، وَهَذَا فَهْمٌ خَاطِئٌ أَيْضًا. إِنَّ التَّوَازُنَ - أَيُّهَا الأَبُ - أَنْ تُعْطِيَ الوَلَدَ بِقَدْرِ مَا تَأْخُذُ مِنْهُ، فَلاَ تَنْتَظِرُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَيْـتَهُ، فَالوَالِدُ الذِي هَيّأَ لِوَلَدِهِ المَالَ فَقَطْ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ الوَسِيلَةُ الأَهَمُّ وَالضَّرورَةُ التَّربَوِيَّةُ المُثْلَى؛ يَكُونُ قَدْ أَخْطَأَ فِي أَنَّهُ قَوَّى جَانِبَ المَادَّةِ عَلَى جَانِبِ المَعنَى فَأَفْسَدَ الوَلَدَ بِذَلِكَ؛ لأَنَّهُ أَفْقَدَهُ عُنْصُرَ التَّوَازُنِ، وَكَذَلِكَ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَبُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَى وَلَدِكَ مِنْ وَقْتِكَ كَمَا تُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِكَ، فَتَكُونَ مَعَهُ بِالقَدْرِ الذِي تَغَيبُ عَنْهُ، فَلاَ تُغَطِّ غَيْبَتَكَ عَنِ الوَلَدِ بِسَيْـلٍ مِنَ العَطَاءَاتِ المَالِيَّةِ تُجَمِّلُ بِهَا غِيَابَكَ، فَإِنَّ الحَاجَةَ إِلَى وُجُودِكَ تَفُوقُ الحَاجَةَ إِلَى مَالِكَ، وَفِي الحَدِيثِ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسؤُولٌ عَنْ  رَعِيَّتِهِ، فَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا))، فَالأَبُ وَالأُمُّ مَسؤولاَنِ عَنْ رَعِيَّتِهِمَا، وَالأَمَانَةِ التِي أَودَعَهَا اللهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَقَدْ أَوْضَحَ بَعْضُ العُلَمَاءِ جَانِبَ التَّوَازُنِ فِي تَربِيَةِ الطِّفْلِ (بِأَلاَّ يُعَوِّدَهُ التَّنَعُّمَ وَلاَ يُحَبِّبَ إِلَيْهِ الزِّينَةَ وَأَسْبَابَ الرَّفَاهِيَةِ؛ فَيُضَيِّعَ عُمُرَهُ فِي طَلَبِهَا إِذَا كَبِرَ، وَأَوّلُ مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفَاتِ شَرَهُ الطَّعَامِ؛ فيُعَلِّمُهُ مَتَى يَأْكُلُ، وَيُعَلِّمُهُ أَلاَّ يُسْرِعَ فِي الأَكْلِ، وَيُعَوِّدُهُ الخُبْزَ وَحْدَهُ فِي بَعْضِ الأَوقَاتِ حتَّى لاَ يَرَى الإِدَامَ حَتْمًا دَائِمًا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بَعْدَ الفَرَاغِ مِنَ التَّعلُّمِ أَنْ يَلْعَبَ لَعِبًا جَمِيلاً يَستَرِيحُ إِلَيْهِ مِنْ تَعَبِ الأَدَبِ، فَإِنَّ مَنْعَ الصَّبِيِّ مِنَ اللَّعِبِ وَإِرْهَاقَهُ إِلَى التَّعلِيمِ دَائِمًا يُمِيتُ قَلْبَهُ وَيُبْطِلُ فِكْرَهُ).
    عِبَادَ اللهِ :
    يَنْبَغِي أَنْ يَحْذَرَ الآبَاءُ مِنَ اختِلاَلِ التَّوَازُنِ، فَدَوْرُ الأَبِ لاَ يُعَوَّضُ، وَمَسؤُولِيَّتُهُ لاَ يُمكِنُ لَهُ أَنْ يُوكِلَهَا عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الأُمُّ، فَالخَادِمَةُ لَنْ تُمَارِسَ دَوْرَ الأُمِّ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهَا ذَلِكَ أَيْضًا، وَإِنْ حَاوَلَتْ مُمُارَسَتَهُ فَإِنَّهُ سَيَبقَى قَاصِرًا دُونَ دَوْرِ الأُمِّ الحَنُونِ التِي جُبِلَتْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَ مِنْ نَفْسِهَا لِوَلَدِهَا الذِي هُوَ بَضْعَةٌ مِنْهَا، وَإِنَّ التَّربِيَةَ لَنْ تَنْفَعَ مَا لَمْ تَبْدَأْ مُبَكِّرًا، فَإِنَّ الأَبَ أَوِ الأُمَّ لَو تَرَكَا وَلَدَهُمَا دُونَ تَربِيَةٍ بِذَرِيعَةِ الصِّغَرِ حتَّى شَبَّ فَإِنَّ وُصُولَ النَّصَائِحِ وَاستِقْرَارَهَا فِي فِكْرِ الوَلَدِ يَكُونُ مِنَ الصُّعُوبَةِ بِمَكَانٍ، وَمَا مَشْروعِيَّةُ الأَذَانِ فِي أُذُنِ المَولُودِ عِنْدَ وِلاَدَتِهِ إِلاَّ تَوكِيدٌ لِهَذَا المَعْنَى، فَإِنَّ الوَلَدَ الذِي لَمْ يَتَلَقَّ مِنْ وَالِدِهِ مَبَادِئَ التَّربِيَةِ سَيَتَلقَّاهَا مِنْ طَرَفٍ آخَرَ، وَعِنْدَمَا يَأْتِي الوَالِدُ لِتَلْقِينِهِ تِلْكَ المَبَادِئَ سَيَصْطَدِمُ بِأَنَّ ذَلِكَ الفِكْرَ مَشْغُولٌ بِقِيَمٍ لاَ تَسْمَحُ لِقِيَمِ الآبَاءِ بِالمُرورِ، فَالعُودُ قَدْ تَصَلَّبَ وَلَنْ تُجْدِيَ مَحَاوَلاَتُ ثَنْيِهِ وَعَطْفِهِ. وَلَيَحْذَرِ الأَبُ أَيْضًا مِنْ كَثْرَةِ العِتَابِ وَالتَّعْـنِيفِ لِلْوَلَدِ، فَإِذَا كَثُرَ العِتَابُ تَعَوَّدَهُ الوَلَدُ، وَفَقَدَ العِتَابُ غَايَتَهُ، فَيَهُونُ عَلَيْهِ سَمَاعُ المَلاَمَةِ ورَكُوبُ القَبَائِحِ، وَيسقُطُ وَقْعُ الكَلاَمِ مِنْ قَلْبِهِ، وَلْيَكُنِ الأَبُ حَافِظًا هَيْبَةَ الكَلاَمِ مَعَهُ فَلاَ يُوَبِّخُهُ إِلاَّ أحيَانًا، وَمَا يَصْدُقُ عَلَى العِتَابِ يَصْدُقُ عَلَى الدُّعَاءِ مِنْ بَابِ أَولَى، فَبَعْضُ الأُمَّهَاتِ أَو الآبَاءِ قَدْ يَتَوَرَّطُونَ فِي الدُّعَاءِ عَلَى أَولاَدِهِمْ فِي لَحْظَةِ غَضَبٍ، وَفِي هَذَا يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَولاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لاَ تُوافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسأَلُ فِيهَا عَطَاءً فَيَستَجِيبُ لَكُمْ)). ثُمَّ إِنَّ مِنَ الأُمُورِ المُهِمَّةِ ألاَّ نُكْثِرَ لِلأَولاَدِ مِنْ دَائِرَةِ المَحْظُورِ، لأَنَّنَا بِذَلِكَ نُوَسِّعُ لَهُمْ دَائِرَةَ الرَّغْبَةِ، فَكُلُّ مَمْـنُوعٍ مَرغُوبٌ، فَعَلَى الآبَاءِ أَنْ يَتَجَاهَلَوا الأَشْيَاءَ التِي لاَ يَرْغَبُونَ بِذِكْرِهَا -إِنْ أَمْـكَنَ-، وَعَدَمُ ذِكْرِهَا أَصْلاً خَيْرٌ مِنْ ذِكْرِهَا وَمَنْعِهَا. هَكَذَا يَكُونُ التَّوَازُنُ فِي التَّربِيَةِ، وَتُؤتِي العَمَلِيَّةُ التَّربَوِيَّةُ ثِمَارَهَا المَرْجُوَّةَ، فَيَكُونُ الوَلَدُ عَلَى الوَجْهِ الذِي يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرضَاهُ، مُلْتَزِمًا بِالآدَابِ وَالقِيَمِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاتَّقُوا اللهَ - يَا مَعْـشَرَ الآبَاءِ- فِيمَا استَرْعَاكُمُ اللهُ وَجَعَلَكُمْ أُمَنَاءَ عَلَيْهِ، قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ فِيهِ، أَدُّوا وَاجِبَاتِكُمْ حَقَّ تَأْدِيَةٍ، وَكُونُوا خَيْرَ المُرَبِّينَ، وَقُومُوا بِوَاجِبِ الأُبُوَّةِ، بَرُّوا أَبْنَاءَكُمْ حتَّى يَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ.
      أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                                                        *** *** ***
     الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ مِنْ أَولَى الوَاجِبَاتِ أَنْ نُخَصِّصَ بَعْضَ الأَوقَاتِ لِمُتَابَعَةِ الأَبنَاءِ، وَالمُتَابَعَةُ هُنَا لَيْسَتْ رَِقَابَةً وَحِسَابًا، بَلْ عَلاَقَةُ مَوَدِّةٍ وَرَحْمَةٍ، تَحْـفَظُ التَّوَازُنَ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَاللِّينِ، كُلٌّ بِقَدَرٍ، فَلاَ يَغْلِبُ اللِّينُ الشِّدَّةَ، وَلاَ تَغْلِبُ الشِّدَّةُ اللِّينَ، فَخَيْرُ الأُمُورِ الوَسَطُ، وَلْنَتَذكَّرْ أَنَّ التَّربِيَةَ بِالقُدْوَةِ هِيَ خَيْرُ وَسِيلَةٍ لِتَحقِيقِ مَا نَصْبُو إِلَيْهِ، وَتَربِيَةُ النُّفُوسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى تَربِيَةِ الأَولاَدِ، بَلْ هِيَ المُقَدِّمَةُ الضَّرورِيَّةُ لِتَنْشِئَةِ الجَيلِ الصَّالِحِ الذِي نَتَطَلَّعُ إِلَيْهِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَإِيَّاكُمْ وَاستِصْغَارَ شَأْنِ الأَطْفَالِ، بِحُجَّةِ أَنَّهُمْ مَا زَالُوا صِغَارًا لاَ يَفْهَمُونَ، فَإِنَّ النَّارَ مِنْ مُستَصْغَرِ الشَّرَرِ، وَإِنَّ الاستِخْفَافَ بِهِمْ لَهُ أَضْرَارٌ بَالِغَةٌ عَلَى نُفُوسِهِمْ، فَيَجِبُ تَعْوِيدُهُمُ احتِرَامَ ذَاتِهِمْ وَاستِقْلاَلِيَّـتَهُمْ مُنْذُ الصِّغَرِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَدْعَى لِتَكِريمِهِمْ، وَغَرْسِ الثِّقَةِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَصَلاَبَةِ عُودِهِمْ فِي مُوَاجَهَةِ أَعْبَاءِ الحَيَاةِ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (4).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.                                       
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.                                       
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة لقمان/ 13-14.
(2) سورة لقمان/ 17-19.
(3) سورة الصف/ 2.
(4) سورة الأحزاب / 56 .