الطِفْلُ وَالعِلْمُ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
14/02/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 24 صفر 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الطِفْلُ وَالعِلْمُ

   الحَمْدُ للهِ ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))(1)، سُبْحَانَهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ الكَثِيرَ مِنْ ضُروبِ الفَضْـلِ وَالإِحْسَانِ، أَحْمَدُهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْـلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرسَلَهُ رَبُّهُ هَادِيًا، وَإِلَى التَّزوُّدِ بِالعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ دَاعِيًا، وَإِلَى الخَيْرِ بِقَولِهِ وَعَمَلِهِ سَاعِيًا، أَكْرَمَهُ رَبُّهُ تَكْرِيمًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ قَولَهُ: ((وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا))(2)، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ذَوِي النُّهَى وَالحِلْمِ، وَأَصْحَابِ المَعْرِفَةِ وَالعِلْمِ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   لَقَدِ استَجَابَ الإِسلاَمُ لِلْفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ؛ فَحَثَّ عَلَى رِعَايَةِ المَولُودِ مُنْذُ طُفُولَتِهِ، فَالطِّفْلُ يُولَدُ ضَعِيفًا عَاجِزًا عَجْزًا مُطْلَقًا عَنِ القِيَامِ بِشُؤونِهِ، وَالإِنْسَانُ فِي هَذَا الطَّوْرِ مِنْ حَيَاتِهِ أَكْثَرُ مَخْلُوقَاتِ اللهِ حَاجَةً لِغَيْرِهِ، وَمُدَّةُ احتِيَاجِهِ أَطْوَلُ مُدَّةٍ يَقْضِيهَا مَخْلُوقٌ، وَقَدْ أَشَارَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى ضَعْفِ الطُّفُولَةِ فَقَالَ: ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ))(3)، وَلَمَّا كَانَ الطِّفْلُ مُفْتَقِرًا لِهَذَا القَدْرِ الكَمِّيِّ وَالزَمَنِيِّ مِنَ الرِّعَايَةِ وَالعِنَايَةِ وَالحَضَانَةِ وَغَيْرِهَا كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَنْ يَقُومُ بِهَذِهِ المُهِمَّةِ وَتِلْكَ المَسؤولِيَّةِ، وَيَأْتِي الأَبَوَانِ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ؛ لأَنَّهُمَا أَلْصَقُ النَّاسِ بِهِ، وَهُمَا أَحْنَاهُمْ وَأَرفَقُهُمْ وَأَرحَمُهُمْ وَأَشْفَقُهُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي دَوْرُ المُجتَمَعِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَبِالقِيَامِ بِهَذِهِ المَسؤولِيَّةِ مِنَ الأَبَوَيْنِ وَالمُجتَمَعِ يُحفَظُ الطِّفْلُ وَيُصَانُ، وَيُكرَمُ وَلاَ يُهَانُ، فَيَنْشَأُ نَشْأَةً سَلِيمَةً، وَيُوضَعُ عَلَى طُرُقٍ قَوِيمَةٍ وَسُبُلٍ مُستَقِيمَةٍ، وَلِمَ لاَ؟ وَقَدِ ارتَكَنَ إِلَى رُكْنٍ رَكِينٍ، وَتَحصَّنَ فِي حِصْنٍ أَمِينٍ. وَنَظَرًا لِسُرْعَةِ تَأَثُّرِ الطِّفْلِ بِمَا حَولَهُ وَبِكُلِّ مَا يُشَاهِدُهُ، فَقَدْ حَرَصَ الإِسلاَمُ عَلَى أَنْ يَبْـقَى الطِّفْلُ فِي مَأْمَنٍ مِنْ أَنْ يُؤثِّرَ في نُمُوِّهِ سَلْبًا أَيُّ مُؤَثِّرٍ، أَو يُكَدِّرَ حَيَاتَهُ أَيُّ مُكَدِّرٍ، وَمِنْ أَرْوَعِ تَشْرِيعَاتِ الإِسلاَمِ لِتَحقِيقِ ذَلِكَ مَا شَرَعَهُ حِينَ يَحْدُثُ نِزَاعٌ وَخِلاَفٌ بَيْنَ الأَبوَيْنِ، فَقَدْ حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَى أَنْ يَبْـقَى الطِّفْلُ آمِنًا؛ لاَ يُؤثِّرُ فِيهِ خِلاَفٌ، وَلاَ يُضَيِّعُ حَقَّهُ نِزَاعٌ وَاختِلاَفٌ، حَيْثُ حَقُّهُ فِي الرَّضَاعِ مَكْفُولٌ، وَكِلاَ الأَبَوَيْنِ عَنْ ذَلِكَ مَسؤُولٌ، فَلاَ الأُمُّ تَضِنُّ بِلَبَنِهَا عَلَيْهِ، وَلاَ الأَبُ يُقَصِّرَ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَحتَّى إِنْ مَاتَ الأَبُ فَالمَسؤولِيَّةُ عَنِ الطِّفْلِ تَنْتَقِلُ إِلَى وَرَثَتِهِ، اقرَؤُوا قَولَ اللهِ تَعَالَى: ((وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ))(4).
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ حُسْنَ تَربِيَةِ الطِّفْلِ تَحْـفَظُهُ وَتَحْمِيهِ، لِذَا حَثَّ الإِسلاَمُ عَلَى أَنْ تَشْمَلَهُ مِنْ جَمِيعِ نَوَاحِيهِ، بَدَناً وَعَقْلاً وَرُوحًا، فَالطِّفْلُ أَمَلٌ وَاعِدٌ، وَمُستَقْبَلٌ مُشْرِقٌ صَاعِدٌ، وَالاعتِنَاءُ بِتَنْمِيَتِهِ بَدَنًا وَعَقْلاً وَرُوحًا يُؤهِّلُهُ لِيَكُونَ فِي المُستَقْبَلِ عُضْوًا نَافِعًا لِنَفْسِهِ، نَافِعًا لِمُجتَمَعِهِ، نَافِعًا لِوَطَنِهِ وَأُمَّتِهِ، وَبَيْنَ إِعْدَادِ الطِّفْلِ بَدَنِيًّا وَإِعْدَادِهِ عَقْلِيًّا وَرُوحِيًّا ارتِبَاطٌ وَثِيقٌ، يَضْمَنُ لِلطِّفْلِ سَلاَمَةَ المَسِيرِ وَإِنَارَةَ الطَّرِيقِ، فَسَلاَمَتُهُ الجَسَدِيَّةُ وبُنْيَتُهُ القَوِيمَةُ سَبِيلٌ لِسَلاَمَتِهِ الفِكْرِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ وَالخُلُقِيَّةِ، وَمِنَ القَولِ الصَّحِيحِ السَّلِيمِ (العَقْلُ السَّلِيمُ فِي الجِسْمِ السَّلِيمِ)، إِنَّ الطِّفْلَ إِذَا سَلِمَتْ بُنْيَتُهُ وسَلِمَ جَسَدُهُ مِنَ الأَسْـقَامِ وَالأَمْرَاضِ وَالعِلَلِ سَلِمَ عَقْلُهُ مِنَ الضَّعْـفِ وَالاضْطِرَابِ وَالخَلَلِ، فَعَمِلَ بِفِكْرِهِ السَّلِيمِ عَلَى أَنْ تَبْـقَى رُوحُهُ مُحافِظَةً عَلَى نَقَائِها، وَعُلوِّها وَارتِقَائِها، فَلِلرُّوحِ أَشْوَاقُها التِي يَعْمَلُ كُلُّ عَاقِلٍ عَلَى نَيْـلِها وَإِدْرَاكِها، بَيْدَ أَنَّ العَقْلَ -وَهُوَ أَدَاةُ التَّفْكِيرِ- فِي حَاجَةٍ إِلَى تَغْذِيَةٍ وَتَنْمِيَةٍ وَتَذْكِيرٍ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ الاعتِنَاءُ بِقُدُرَاتِ الطِّفْلِ العَقْلِيَّةِ وَتَعَهُّدُهَا مُنْذُ الصِّغَرِ لِتَقُومَ عَلَى أُسُسٍ قَوِيَّةٍ، وَهَذِهِ مَطَالِبُ حَتْمِيَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ، لِمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ عَقْلُهُ الصَّغِيرُ مِنْ نُمُوٍّ سَرِيعٍ، وَلِكَي يَتَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ مِنَ الضَّرورَةِ بِمَكَانٍ أَنْ يَتَعلَّمَ الطِّفْلُ مُنْذُ نُعُومَةِ أَظْفَارِهِ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ، فَهُمَا أَمْرَانِ ضَرُورِيَّانِ لِتَحْصِيلِ العُلُومِ النَّافِعَةِ، التِي يَنْطَلِقُ مِنْهَا الطِّفْلُ لِبِنَاءِ مُستَقْبَلِهِ، وَمُواجَهَةِ أَعْبَاءِ حَيَاتِهِ، وَحَسْبُ القِرَاءَةِ شَرَفًا وَعُلُوَّ مَكَانَةٍ وَسُمُوَّ مَنْزِلَةٍ أَنَّ كَلِمَةَ (اقْرَأْ) هِيَ أَوَّلُ كَلِمَاتِ الوَحْيِ نُزُولاً، فَقَدْ نَزَلَ بِهَا الرُّوحُ الأَمِينُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- عَلَى الرَّسُولِ الأَمِينِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَكَانَتِ افتِتَاحِيَّةً مُبَارَكَةً لِلْكِتَابِ المَجِيدِ، الذِي ((لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))(5)، ظَلَّ الوَحْيُ بَعْدَهَا يَنْزِلُ طَوَالَ ثَلاَثَةٍ وَعشْرِينَ عَامًا.
   أَيُّها المُؤمِنونَ :
    لَقَدِ افتَتَحَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نُزُولَ القُرآنِ بِكَلِمَةِ (اقْرَأْ)، وَجَعَلَ هَذَا الافتِتَاحَ بِاسمِ الرُّبُوبِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى الوَحْدَانِيَّةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ))(6)، إِنَّ القِرَاءَةَ هِيَ أَوَّلُ دَرَجِةٍ مِنْ دَرَجَاتِ سُلَّمِ المَجْـدِ، بِهَا يَرتَفِعُ الإِنْسَانُ وَيَرقَى، ويَسْعَدُ وَلاَ يَشَقْى، وَيَحْيَا ذِكْرُهُ وَيَبْـقَى، كَمَا أَنَّها طَرِيقُ العِلْمِ وَسَبِيلُ المَعْرِفَةِ، مَنْ سَلَكَهُ فَازَ وَنَجَا، وَهَدَى واهتَدَى، وَلاَزَمَهُ التَّقَدُّمُ وَالرُّقِيُّ أَبَدًا، فَهُوَ فِي حَيَاتِهِ مَشْكُورٌ، وَبَعْدَ مَوتِهِ مَذْكُورٌ، فَلاَ عَجَبَ وَلاَ غَرَابَةَ أَنْ أَمَرَ اللهُ بِالقِرَاءَةِ وَأَرشَدَ إِلَى الاستِعَانَةِ عَلَيْهَا بِاسمِ رَبِّنَا جَلَّ وَعَلاَ، فَمَنْ رَبَّى طِفْلَهُ عَلَى القِرَاءَةِ وَنَشَّأَهُ عَلَيْهَا وَرَغَّبَهُ فِيهَا ضَمِنَ لَهُ السَّلاَمَةَ وَالنَّجَاةَ، وَحَفِظَهُ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي كُلِّ اتِّجَاهٍ، فَقَلَّ أَنْ يَسلُكَ -وَقَدْ حُبِّبَتْ إِلَيْهِ القِرَاءَةُ- طُرُقًا مُلْتَوِيَةً وَسُبُلاً مُنْحَرِفَةً، فَهُوَ بِالقِرَاءَةِ لِوَقْتِ فَرَاغِهِ مُعَمِّرٌ، حَيْثُ الكِتَابُ أَنِيسُهُ، وَرفِيقُهُ وَجَلِيسُهُ، يَزْدَادُ بِسَعَةِ الاطِّلاَعِ مَعْرِفةً بِشَتَّى شُؤونِ الحَيَاةِ؛ وَيُشَارِكُ فِي تَقَدُّمِ البَشَرِيَّةِ وَرُقِيِّ الإِنْسَانِيَّةِ، وَلَقَدْ كَرَّرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوَّلِ آيَاتِ الوَحْيِ نُزُولاً الأَمْرَ بِالقِرَاءَةِ، وللتَّكْرَارِ مَعْنَاهُ، وَهَدَفُهُ وَمَغْزَاهُ، وبَيْنَ هذَيْنِ الأَمْرَيْنِ بِالقِرَاءَةِ يَذْكُرُ اللهُ خَلْقَ الإِنْسَانِ، وَفِي ذَلِكَ إِيحَاءٌ بِأَنَّ قِيمَةَ الإِنْسَانِ تَكُونُ بِقَدْرِ مَا حَوَاهُ مِنْ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، جَمَعَها عَبْرَ قِرَاءَةٍ مُفِيدَةٍ، نَفَعَ بِهَا نَفْسَهُ وَنَفَعَ غَيْرَهُ، فَأَصبَحَ رَافِدًا مِنْ رَوَافِدِ الخَيْرِ. إِنَّ الطِّفْلَ حِينَ يَتَعوَّدُ القِرَاءَةَ يَعْشَقُهَا، وَيُلاَزِمُهَا وَيُرافِقُهَا، حَيْثُ تُصْبِحُ القِرَاءَةُ لَهُ عَادَةً، ثُمَّ طَرِيقًا إِلَى نَيْلِ المَجْـدِ وَالسَّعَادَةِ، فَالقِرَاءَةُ سَبِيلٌ إِلَى جَمْعِ العِلْمِ وَتَحصِيلِهِ، ثُمَّ تَثْبِيتِهِ وَتَأْصِيلِهِ، وَالعِلْمُ أَشْرَفُ مَا رَغِبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ.
   أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِنَّ مِمَّا يَلْزَمُ الاعتِنَاءُ بِهِ وَالاهتِمَامُ بِشَأْنِهِ غَرْسَ عَادَةِ المُطَالَعَةِ عِنْدَ الطِّفْلِ حتَّى يُصْبِحَ مُحِبًّا لِلْقِراءَةِ مُولَعًا بِهَا، فَلاَ يَقْتَصِرُ اهتِمَامُهُ عَلَى الكُتُبِ المَدْرَسِيَّةِ فَقَط، بَلْ يَهتَمُّ إِلَى جَانِبِ ذَلِكَ بِالقِرَاءَةِ فِي كُتُبٍ أُخْرَى مُفِيدَةٍ؛ لِيَكْتَسِبَ مَعْـلُومَاتٍ جَدِيدَةً، وَإِذَا تَأَصَّلَ تَنَوُّعُ القِرَاءَةِ عِنْدَهُ حتَّى أَصبَحَ لَهُ عَادَةً فَإِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إِلَى الكِتَابِ نَظْرَةَ تَقْدِيرٍ، يَجْعَلُهُ يُحَافِظُ عَلَيْهِ، وَيَصْرِفُ جُلَّ اهتِمَامِهِ إِلَيْهِ، فَلاَ يَسمَحُ لأَحَدٍ أَنْ يَعْبَثَ فِيهِ، بَلْ يَعْمَلُ جَاهِدًا عَلَى حِفْظِهِ وَحِمَايَتِهِ، وَصِيَانَتِهِ وَرِعَايَتِهِ، وَلِتَعَاوُنِ الآبَاءِ والمُعَلِّمِينَ على تَحقِيقِ هَذِهِ الأَهدَافِ دَوْرٌ أَسَاسِيٌّ، بِدُونِهِ لاَ يَقُومُ بِنَاءٌ، وَلاَ يَتَقدَّمُ لَنَا أَبْنَاءٌ.              
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَعَوِّدُوا أَولاَدَكُمُ القِرَاءَةَ وَالمُطَالَعَةَ، وَاحْذَرُوا استِعْمَالَ الشِّدَّةِ مَعَ الطِّفْلِ فِي العَمَلِيَّةِ التَّربَوِيَّةِ وَالتَّعلِيمِيَّةِ؛ حتَّى لاَ يَحْدُثَ مِنَ الطِّفْلِ نُفٌورٌ، يَعْـقُبُهُ هَجْرٌ لِلْعِلْمِ أَو عَلَى الأَقَلِّ قُصُورٌ.          
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                                                   *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الكِتَابَةَ لِلْقِرَاءَةِ مُرَافِقَةٌ، وَلَهَا صَاحِبَةٌ مُوافِقَةٌ، وَلِذَا جَاءَتِ الإِشَارَةُ إِلَيْهَا فِي أَوَّلِ آيَاتِ الوَحْيِ نُزُولاً؛ حَيْثُ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى آلَتَها وَوَسيِلَتَها مَقْرُونَةً بِالعِلْمِ فَقَالَ: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ))(7)، كَمَا كَانَ القَسَمُ بِالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُهُ هُوَ أَوَّلُ قَسَمٍ يُقْسِمُ بِهِ اللهُ ويَذْكُرُهُ، قَالَ تَعَالَى: ((نْ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ، مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))(8)، إِنَّ الكِتَابَةَ قَيْـدٌ لِلْعِلْمِ، وَعَوْنٌ عَلَى الفَهْمِ، فَتَعلُّمُهَا مِنْ أَلْزَمِ اللَّوَازِمِ، لاَ يَغْفُلُ عَنْهَا عَاقِلٌ وَلاَ يَتْرُكُهَا حَازِمٌ، وَمَنِ اعتَمَدَ عَلَى حِفْظِهِ وَتَصَوُّرِهِ وَأَغْفَلَ الكِتَابَةَ؛ فمَا أَدْرَكَ هَدَفَهُ وَمَا أَصَابَهُ، ذَلِكَ لأَنَّ النِّسيَانَ مُلاَزِمٌ لِبَنِي الإِنْسَانِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((قيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابَةِ))، كَمَا قِيلَ: ((اجعَلْ مَا كَتَبْتَهُ رَأْسَ مَالِكَ، وَمَا فِي قَلْبِكَ لِلنَّفَقَةِ))، وَقَالَ بَعْضُ البُلَغَاءِ: ((إِنَّ هَذَهِ الآدَابَ نَوَافِرُ تَنِدُّ عَنْ عَقْلِ الأَذْهَانِ؛ فَاجْعَلُوا الكُتُبَ عَنْهَا حُمَاةً، وَالأَقْلاَمَ رُعَاةً)).
   أّيُّهَا المُسلِمُونَ :
   إِذَا كَانَتْ أَهَمِّيَّةُ القِرَاءَةِ وَالكِتَابَةِ فِي الإِسلاَمِ مَا عَلِمْتُمْ؛ فَمَا أَحْرَانَا أَنْ نَنْهَضَ بِالقِرَاءَةِ فِي مُجتَمَعِنَا الإِسلاَمِيِّ، وَنَبْدأَ بِتَشْجِيعِ أَبْنَائِنَا عَلَيْهَا، إِذْ إِنَّ التَّعلُّمَ فِي الصِّغَرِ أَحْمَدُ، وَثَبَاتَهُ فِي الذَّاكِرَةِ أَوكَدُ، وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ: ((التَّعلُّمُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الحَجَرِ))، وَقَالَ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ -كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ-: (( قَلْبُ الحَدَثِ كَالأَرْضِ الخَالِيَةِ، مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيءٍ قَبِلَتْهُ ))، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لأَنَّ الصَّغِيرَ أَفْرَغُ قَلْبًا، وَأَقَلُّ شُغْلاً، وَأَكْثَرُ تَواضُعًا.
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَأَعِينُوا أَبْنَاءَكُمْ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ النَّافِعِ، وَكُونُوا قُدْوَةً لَهُمْ فِي القِرَاءَةِ وَالمُطَالَعَةِ وَاختِيَارِ الكُتُبِ المُفِيدَةِ، فَبِذَلِكَ تُؤسِّسُونَ لَهُمْ مُستَقْبَلاً مُشْرِقًا سَعِيدًا.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا))(9).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.                    
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.                  
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة العلق/ 5-4.
(2) سورة النساء/ 113.
(3) سورة الروم/ 54.
(4) سورة البقرة/ 233.
(5) سورة فصلت/ 42.
(6) سورة العلق/ 1-5 .
(7) سورة العلق/ 4.
(8) سورة القلم/ 1-2 .
(9) سورة الأحزاب / 56 .