الـشَّبابُ ثـروةُ الـوَطَـنِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
24/06/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 3 رجب 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الـشَّبابُ ثـروةُ الـوَطَـنِ

    الْحَمْدُ للهِ الذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَبِفَضْـلِهِ يَرقَى الشَّبَابُ بِالمُجتَمَعَاتِ، وَأشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الإِنْسَانَ أَطْوَارًا، فَجَعَلَ مَرْحَلَةَ الشَّبَابِ أَفْضَلَهَا قُوّةً وَعَطَاءً وَازْدِهَارًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ، رَبَّى الشَّبَابَ عَلَى حُبِّ الفَضَائِلِ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ مَسَالِكِ الرَّذَائِلِ، فَكَانُوا أَسْمَى النَّاسِ أَخْلاَقًا وَأَعْمَالاً، وَأَزكَاهُمْ أَقْوَالاً وَأَفْعَالاً، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

    أَمَّا بَعْدُ، فَأُوصِيكُمْ وَنَفْسِي-عِبَادَ اللهِ- بِتَقْوَى اللهِ، فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ السَّعَادَةِ وَالنَّجَاحِ، وَسَبِيلُ الهِدَايَةِ وَالفَلاَحِ، وَاعلَمُوا - رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ - أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ اقتَضَتْ حِكْمَتُهُ أَنْ يَكُونَ نُمُوُّ الإِنْسَانِ عَلَى أَطْوَارٍ وَمَرَاحِلَ، فَجَعَلَ مَا بَيْنَ كُلِّ مَرْحَلَةٍ وَأُخْرَى مِنْ مَرَاحِلِ نُمُوِّهِ مُدَّةً لَيْسَتْ بِالقَصِيرَةِ، وَمَا ذَلِكَ إِلاَّ لِيَتَأَمَّـلَ هَذَا الإِنْسَانُ أَطْوَارَ حَيَاتِهِ، وَيُدْرِكَ قِيمَةَ عُمُرِهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ، فَيَستَغِلَّهُ لِعِمَارَةِ دُنْيَاهُ، وَمَا يَنْفَعُهُ فِي أُخْرَاهُ، قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ: ((مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا))(1)، إِنَّ حَيَاةَ الإِنْسَانِ هِيَ عُمُرُهُ الذِي يَقْضِيهِ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الفَانِيَةِ، وَإِنَّ هَذَا العُمُرَ يَنْقَسِمُ عَلَى مَرَاحِلَ يَخْتَلِفُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَمِنْهَا مَا يَكُونُ الإِنْسَانُ فِيهَا قَوِيًّا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهَا ضَعِيفًا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ، إِلاَّ أَنَّ أَفْضَلَ هَذِهِ المَرَاحِلِ وَأَكْثَرَهَا قُوّةً مَرْحَلَةُ الشَّبَابِ؛ فَالشَّبَابُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ عَصَبُ حَيَاتِهَا، وَمَصْدَرُ قُوَّتِهَا وَرَجَائِهَا، وَهَبَهُمُ اللهُ أَسْبَابَ القُوَّةِ، وَمَنَحَهُمُ الجَلَدَ وَالهِمَّةَ، لِيَكُونُوا سَبَبًا فِي رُقِيِّ مُجتَمَعَاتِهِمْ، وَازْدِهَارِ أَوْطَانِهِمْ، لِذَلِكَ حَثَّ الإِسْلاَمُ عَلَى الاهتِمَامِ بِمَرْحَلَةِ الشَّبَابِ وَاغتِنَامِهَا، وَالاستِفَادَةِ مِنْ عَوَائِدِ طَاقَاتِهَا، لأَنَّهَا مَرْحَلَةٌ تَتَّسِمُ بِالنَّشَاطِ وَالحَيَوِيَّةِ، وَالقَابِليَّةِ عَلَى مُوَاجَهَةِ الأَعْبَاءِ وَتَحَمُّلِ المَسْؤُولِيَّةِ، فَكَانَ مِنْ وَصَايَا النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  الخَمْسِ التِي وَصَّى بِهَا فِي حَدِيثِهِ الشَّرِيفِ: ((اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ، وَذَكَرَ مِنْهَا: وَشَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ)).
    أَيُّها المُؤمِنونَ :
    إِنَّ المُتَأمِّـلَ فِي كِتَابِ اللهِ المُبِينِ وَمَا جَاءَ فِي سِيَرِ المُرْسَلِينَ، يَجِدُ أَنَّ المَولَى سُبْحَانَهُ قَدْ خَصَّهُمْ بِالنُّبُوَّةِ وَهُمْ فِي مَرْحَلَةِ شَبَابِهِمْ، لِمَا فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ مِنْ قُوَّةٍ تُمَكِّنُهُمْ مِنْ تَبْلِيغِ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))(2)، كَمَا ذَكَرَ نَبِيَّهُ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- فَقَالَ: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))(3)، وَمَنْ تَأَمَّـلَ سِيرَةَ الحَبِيبِ المُصْطَفَى وَالرَّسُولِ المُجْـتَبَى -صلى الله عليه وسلم-  وَجَدَ أَمثِلَةً كَثِيرَةً عَلَى اهتِمَامِهِ -صلى الله عليه وسلم-  بِفِئَةِ الشَّبَابِ، لِعِلْمِهِ أَنَّ الشَّابَّ فِي هَذِهِ المَرْحَلَةِ يَكُونُ أَسْرَعَ بِالآخَرِينَ تَأثُّرًا، وَأَكْثَرَ قُوَّةً وَنَشَاطًا وَتَطَلُّعًا، لِذَلِكَ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ - يُعْطِي الشَّبَابَ مِنْ وَقْتِهِ مَا يَجْعَلُهُمْ يَستَأْنِسُونَ بِهِ وَيَشْعُرونَ بِاهتِمَامِهِ، فَلَمْ يَكُنْ يَوْمًا يَحْـقِرُ شَابًّا لِصِغَرِ سِنِّهِ، بَلْ كَانَ يُولِي الشَّبَابَ اهتِمَامًا بَالِغًا وَيُقَرِّبُهُمْ مِنْهُ، فَعَنْ مَالكِ بنِ الحُويْرِثِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قَالَ: ((أَتَيْنَا النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-  وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم-  رَحِيمًا رَقِيقًا))، وَمِنِ اهتِمَامِهِ -صلى الله عليه وسلم-  بِالشَّبَابِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَغْرِسُ فِيهمُ الثِّقَةَ بِالنَّفْسِ عَلَى تَحَمُّـلِ أَعْظَمِ المَسؤُولِيَّاتِ، وَالقُدْرَةِ عَلَى مُوَاجَهَةِ الشَّدَائِدِ وَالصُّعُوبَاتِ، فَكَانَ يَكِلُ إِلَى بَعْضِ الشَّبَابِ الأَعْمَالَ الكَبِيرَةَ وَالمَهَامَّ العَظِيمَةَ، فَقَدْ عَيَّنَ -صلى الله عليه وسلم-  الصَّحَابيَّ الجَلِيلَ عَتّابَ بنَ أَسِيْدٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وَالِيًا عَلَى مَكَّةَ يُدِيرُ شُؤُونَهَا، وَيَقُومُ بِمَصَالِحِهَا، وَهُوَ شَابٌّ لَمْ يِتَجَاوَزْ مِنْ عُمُرِهِ الوَاحِدَ وَالعِشْرِينَ عَامًا، وَهَكَذَا سَارَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ - بَعْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي اهتِمَامِهِمْ بِفِئَةِ الشَّبَابِ، فَعِنْدَمَا هَمَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِجَمْعِ القُرآنِ؛ كَلَّفَ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بِهَذِهِ المُهِمَّةِ العَظِيمَةِ، وَهُوَ شَابٌّ لَمْ يَتَجَاوَزْ إِذْ ذَاكَ الثَّانِيَةَ وَالعِشْرِينَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلاَ نَتَّهِمُكَ، كُنْتَ تَكْتُبُ الوَحْيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  فَتَتَبَّعِ القُرآنَ فَاجْمَعْهُ)، قَالَ زَيْدٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (فَوَاللهِ لَوْ كَلَّّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ القُرْآنِ).
    أَيٌّهَا المُسلِمُونَ :
    إِنَّ الإِسْلاَمَ عِنْدَمَا أَمَرَ بِالاهتِمَامِ بِالشَّبَابِ، وَحَثَّ عَلَى إِعْدَادِهِمْ بَدَنِيًّا وَعَقْلِيًّا، وَرُوحِيًّا وَخُلُقِيًّا، إِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ لِيَكُونَ الشَّابُّ عُضْوًا نَافِعًا لِنَفْسِهِ وَمُجتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْشَأَ قَوِيَّ البُنْيَةِ، سَلِيمَ الجِسْمِ كَامِلَ الشَّخْصِيَّةِ، يَسْمُو بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ مُسْلِمًا حَقًّا، مُتَمِيِّزًا بِشَخْصِيَّتِهِ المُسْلِمَةِ عَقِيدةً وخُلُقًا، يَأْسِرُ بِصِفَاتِهِ الأَلْبَابَ، وَيَهْـتَدِي إِلَى الخَيْرِ وَيُسَارِعُ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ بَابٍ، وَيَتَخلَّقُ بِالأَخْلاَقِ الحَمِيدَةِ وَالآدَابِ المَجِيدَةِ، التِي تَضْمَنُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ النَّزَاهَةَ وَالعَفَافَ، وَالسَّلاَمَةَ مِنَ الضَّياعِ وَالانْحِرَافِ، فَتَرَاهُ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَنفَعُهُ وَيَسُرُّهُ، وَيَبتَعِدُ عَمَّا يَسُوؤُهُ وَيَضُرُّهُ، مَتَّبِعًا هَدْيَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- فِي قَوْلِهِ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاستَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ))، لِتَتَحَرَّكَ فِيهِ حَيَوِيَّةُ الشَّبَابِ؛ فَيَسْعَى لِيَنْفُضَ عَنْ نَفْسِهِ غُبَارَ الدَّعَةِ وَالكَسَلِ، وَيَمْلأَ فَرَاغَهُ بِالمُفِيدِ مِنَ العَمَلِ، وَمَا أَرْوَعَ الشَّابَّ الذِي يَحْرِصُ عَلَى مُمَارَسَةِ النَّافِعِ مِنَ المِهَنِ وَالأَعْمَالِ، وَيَهْتَمُّ بِأَدَاءِ المُفِيدِ مِنَ الهِوَايَاتِ، فَتَصْـقُلُ فِيهِ المَوَاهِبُ وَالقُدُرَاتُ، قَالَ تَعَالَى: ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))(4)، إِنَّ الشَّابَّ ذَا العَقْلِ السَّوِيِّ، وَالحَزْمِ القَوِيِّ، هُوَ مَنْ يَبْـتَعِدُ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ لِصِحَّـتِهِ، حتَّى لاَ يَهْدِمَ طُمُوحَهَ وَمُستَقْبَلَ حَيَاتِهِ، فَاللهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ قَدْ أَحَلَّ الكَثِيرَ مِنَ الأَطْعِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَنَهَى بِحِكْمَتِهِ عَنِ الأَطْعِمَةِ الخَبِيثَةِ، قَالَ تَعَالَى: ((وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ))(5)، إِنَّ الإِسْلاَمَ حَرِيصٌ أَنْ يَسْـلُكَ المَرْءُ فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ حَيَاتِهِ مَسَالِكَ الخَيْرِ وَالسَّلاَمَةِ، وَيَبْـتَعِدَ عَنْ طُرُقِ الشَّرِّ وَمَا يَجُرُّهُ لِلْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، لِذَلِكَ فَعَلَى الشَّابِّ ألاَّ يُصَاحِبَ إِلاَّ الجَلِيسَ الصَّالِحَ، وَالصَّدِيقَ المُفِيدَ النَّاصِحَ.
    فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَاعلَمُوا أنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَتَضَافَرَ الجُهُودُ لِتَوْجِيهِ الشَّبَابِ إِلى مَا فِيهِ صَلاَحُهُمْ وَنَفْعُهُمْ؛ فَلْنَتَعاوَنْ عَلَى تَوْجِيهِهِمُ التَّوْجِيهَ الصَّالِحَ الرَّشِيدَ، وَلْنَكُنْ قُدْوَةً لَهُمْ فِي الخَيْرِ، فَبِذَلِكَ تَنْعَمُ مُجتَمَعَاتُنَا وَيَرتَقِي وَطَنُنَا.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                      *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
    أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
    إِنَّنَا نَعِيشُ فِي عَالَمٍ مُمْـتَلِئٍ بِالتَّحَدِّيَاتِ، مُزْدَحِمٍ بِالمُؤَثِّرَاتِ، فَحَرِيٌّ بِنَا أَنْ نُحَصِّنَ أَبْنَاءَنَا وَشَبَابَنَا مِنْ جَمِيعِ الأَفْكَارِ وَالتَّصَرُّفَاتِ غَيْرِ السَّلِيمَةِ المُخَالِفَةِ لِقِيَمِنَا وَأَمْنِ مُجتَمَعِنَا، فَالشَّبَابُ اليَوْمَ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَقِفُ مَعَهُمْ ويُرشِدُهُمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى مَا يُفِيدُهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ وَيَنْفَعُهُمْ، فَدَوْرُ تَنْشِئَةِ الشَّبَابِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأُسْرَةِ وَالمَدْرَسَةِ وَالمُجتَمَعِ، فَالتَّربِيَةُ لاَ تَقَعُ عَلَى عَاتِقٍ وَاحِدٍ، بَلْ كُلُّ مَنْ حَولَ الشَّابِّ يَستَطِيعُ أَنْ يُسْهِمَ فِي تَرْبِيَتِهِ، غَيْرَ أَنَّ التَّركِيزَ الأَسَاسِيَّ هُنَا يَنْصَبُّ عَلَى الأُسْرَةِ فِي المَقَامِ الأَوَّلِ، لِذَلِكَ عَلَى الأُسْرَةِ أَنْ تَعْـلَمَ أَنَّ مِنْ أَهَمِّ العَوَامِلِ التِي تُعِينُ الآبَاءَ عَلَى تَخْرِيجِ جِيلٍ صَالِحٍ لِمُجتَمَعِهِ، نَافِعٍ لِوَطَنِهِ، وُجُودَ الاستِقْرَارِ الأُسْرِيِّ بَيْنَ الوَالِدَيْنِ، وَإِظْهَارَ جَانِبِ الحُبِّ وَالمَوَدَّةِ وَالتَّفَاهُمِ بَيْنَ الزَّوجَيْنِ، فَهَذَا يَغْرِسُ الاستِقْرَارَ وَالاتِّزَانَ فِي نَفْسِيَّةِ الشَّابِّ، فَيَجْعَلُهُ يَنْشَأُ عَلَى التَّوَاصُلِ مَعَ وَالِدَيْهِ فِي جَوٍّ أُسْرِيٍّ مُفْعَمٍ بِالسَّعَادَةِ وَالنَّقَاءِ، فَتَكُونُ الأُسْرَةُ بِذَلِكَ قَدْ أَعْطَتِ ابْنَها الشَّابَّ أَفْضَلَ الهِبَاتِ وَالعَطَاءِ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : (( مَا نَحَلَ - أَي أَعْطَى- وَالِدٌ وَلَدًا أَفْضَـلَ مِنْ أَدَبٍٍ حَسَنٍ ))، وَجَدِيرٌ بِرَبِّ الأُسْرَةِ أَنْ يَعْـلَمَ أنَّ الشَّابَّ بِحَاجَةٍ إِلَى مَنْ يَقْتَدِي بِهِ فِي حَيَاتِهِ، فَوُجُودُ القُدْوَةِ الحَسَنَةِ وَالمَثَلِ الأَعْـلَى عَامِلٌ مُهِمٌّ فِي تَرْبِيَةِ الشَّابِّ عَلَى الخُلُقِ القَوِيمِ، وَتَعْوِيدِهِ السُّلُوكَ المُستَقِيمَ، فَرُؤيَةُ الشَّابِّ لِوَالِدِهِ مَثَلاً حَالَ أَدَاءِ عِبَادَتِهِ، لَهُ بَالِغُ الأَثَرِ فِي الاقتِدَاءِ بِهِ وَالتَّأثُّرِ بِشَخْصِيَّـتِهِ، بِعَكْسِ ذَلِكَ الأَبِ الذِي يُنَاقِضُ نَفْسَهُ وَيَأْمُرُ أَبْنَاءَهُ بِتَرْكِ سُلُوكٍ سَيِّئٍ أَو عَادَةٍ شَائِنَةٍ، وَهُمْ يَرَوْنَ تِلْكَ العَادَةَ فِي وَالِدِهِمْ وَاضِحَةً بَيِّـنَةً، لِذَلِكَ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ))(6)، كَمَا أَنَّ مِنَ المُهِمِّ جِدًّا أَنْ تَصِلَ عَلاَقَةُ الأَبِ بِابْنِهِ الشَّابِّ إِلَى أَبْـلَغِ مَدَاهَا، وَأَفْضَلِ أَحْوَالِهَا، لِيَنْصَحَهُ وَيُرشِدَهُ، وَيَنْفَعَهُ بِآرَائِهِ وَيُفِيدَهُ، وَيَحْسُنُ لِلْمُرَبِّي أَنْ يَقْرَأَ الكُتُبَ التِي تُعنَى بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ وَكَيْـفِيَةِ التَّعَامُلِ مَعَهُمْ، لأَنَّ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ الوَسَائِلَ المُنَاسِبَةَ لَهَا، وَمَا يَصْـلُحُ لِتَرْبِيَتِهَا، فَلِتَرْبِيَةِ الطِّفْلِ طُرُقٌ تَختَلِفُ عَنْ طُرُقِ تَرْبِيَةِ الشَّابِّ، إِنَّ علَى الأَب أَنْ يَسْعَى لِكَسْبِ وُدِّ ابْنِهِ، وَيُشَارِكَهُ فِي شُؤُونِ حَيَاتِهِ لِيَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ، فَيُشَجِّعَهُ لِمُمَارَسَةِ المُفِيدِ مِنَ الأَعْمَالِ، وَيُطَالِبَهُ بِالقِيَامِ بِدَوْرٍ بَنَّاءٍ فِي الحَيَاةِ، وَلاَ نَنْسَ دَوْرَ الأُمِّ فِي مُسَانَدَةِ الأَبِ فِي تَنْشِئَةِ أَبْنَائِهِمَا، فَالأُمُّ إِنْ رَأَتْ مِنْ أَحَدِ أَبْنَائِهَا سُلُوكًا سَيِّئًا أَو تَصَرُّفًا خَاطِئًا فَعَلَيْهَا أَنْ تَكُونَ حَازِمَةً فِي مُعَالَجَةِ الأُمُورِ، وَلاَ تَأْخُذْهَا العَاطِفَةُ إلى التَّسَتُّرِ عَلَيْهِ، وَلْيَعْـلَمِ الزَّوْجَانِ مَدَى أَهَمِّيَّةِ التَّعَاوُنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا؛ وَضَرورَةَ وُجُودِهِ مِنْ أَجْـلِ تَرْبِيَةِ أَبْنَائِهمَا، فَعَلَى الأَبِ عَدَمَ الانْشِغَالِ الطَّوِيلِ عَنِ الأُسْرَةِ، خُصُوصًا إِنْ كَانَ بَعْضُ أَوْلاَدِهِ قَدْ بَلَغَ سِنَّ الشَّبَابِ، لِيَتَفَقَّدَ سُلُوكَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ، وَيَسأَلَ فِي المَدْرَسَةِ عَنْ مُستَوَيَاتِهِمْ، وَلاَ يَبْخَلْ عَلَيْهِمْ بِأَيِّ نُصْحٍ أَو إِرشَادٍ أَو إِفَادَةٍ، وَلْيَجْعَـلْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ مَعَهُمْ مَنْهَجًا وَعَادَةً، وَقَدْ جَاءَ فِي الأَثَرِ: ((الْزَمُوا أَوْلاَدَكُمْ وَأَحْسِنُوا أَدَبَهُمْ))، بِذَلِكَ يَبْـقَى الشَّبَابُ فِي مَأْمَنٍ يَحْـفَظُ لَهُمْ حَيَاتَهُمْ وَمُستَقْبَلَهُمْ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَالْتَمِسُوا أَفْضَلَ السُّبُلِ وَالوَسَائِلِ فِي تَرْبِيَةِ الشَّبَابِ، لِيَكُونُوا نَافِعِينَ لأَنْفُسِهِمْ، نَاجِحِينَ فِي حَيَاتِهِمْ، صَالِحِينَ فِي وَطَنِهِمْ وَمُجتَمَعَاتِهِمْ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (7).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة نوح/ 13-14.
(2) سورة القصص/ 14.
(3) سورة يوسف/ 22.
(4) سورة التوبة/ 105.
(5) سورة الأعراف/ 157.
(6) سورة الصف/ 2-3.
(7) سورة الأحزاب / 56 .