دَعِ الخـلْـقَ لِلـخَالـِقِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
07/10/2009

خطبة الجمعة بتاريخ 19 شوال 1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
دَعِ الخـلْـقَ لِلـخَالـِقِ

   الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَكْمَلَ لَنَا الدِّينَ، وَدَعَانَا لالْتِزَامِ الخُلُقِ القَوِيمِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ لِلْحَمْدِ أَهلٌ، وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ فَلَهُ المِنَّةُ وَالفَضلُ، بِهِ نُؤْمِنُ، وَبِحِكْمَتِهِ نُوقِنُ، مَنْ هَدَاهُ لِمَكَارِمِ الأَخْلاقِ لَمْ يَزَلْ فِي رَاحَةٍ مَسْرُورًا، وَمَنْ يُؤْتِهِ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، وَمَنْ يُضلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّـنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، لَمْ يَزَلْ بِتَقْوَى رَبِّهِ مُشْتَغِلاً، وَعَمَّا لا يَعنِيهِ مُعْرِضًا مُنْصَرِفًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ :
  لَقَدْ جَاءَ الدِّينُ الحَنِيفُ لِيَسْمُوَ بِالمُسلِمِ، فَحَثَّهُ عَلَى التِزَامِ الأَخْلاقِ الرَّفِيعَةِ، وَالقِيَمِ النَّبِيلَةِ، وَنَأَى بِهِ عَنْ سَفَاسِفِ الأُمُورِ، لِيَنْصَرِفَ إِلَى مَا فِيْهِ رِفْعَتُهُ وَعُلُوُّهُ، وَمَجْدُهُ وَسُمُوُّهُ، يَقُولُ نَبِيُّـكُمُ الكَرِيمُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ))، أَلاَ وَإِنَّ مِنْ أَخْلاقِ دِينِكُمُ الَّتِي يَسْمُو بِهَا بِأَفْرَادِكُمْ، وَيَحفَظُ بِهَا مُجتَمَعَاتِكُمْ، تَرْكَ الاشْتِغَالِ بِمَا لا يَعْنِي، وَهُوَ خُلُقٌ كَرِيمٌ، يَدُلُّ عَلَى حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَركُهُ مَا لا يَعنِيْهِ))، وَكُلُّنَا يَسْعَى لأَنْ يَكُونَ ذَا إِسْلامٍ حَسَنٍ، وَخُلُقٍ رَفِيعٍ، فَمَا بَالُ أَقْوَامٍ يَأْبَوْنَ إِلاَّ التَّدَخُّلَ فِي شُؤُونِ النَّاسِ؟ إِنَّ مِمَّا يَجْمُلُ بِالمَرْءِ وَيَزِينُهُ، وَيَجْعَلُهُ شَامَةً بَيْنَ النَّاسِ، أَنْ يَدَعَ الخَلْقَ لِلْخَالِقِ، وَيَصْرِفَ قَلْبَهُ عَمَّا لا يَعنِيهِ، فَلَيْسَ مِنْ بِضَاعَةِ المُؤْمِنِ الأَرِيبِ، وَالعَاقِلِ اللَّبِيبِ، أَنْ يَشْتَغِلَ بِفُضُولِ الكَلامِ، أَوْ يُجَارِيَ الجُهَلاءَ فِي القِيلِ وَالقَالِ،  فَأَخْلاقُهُ العُلْيَا، وَقِيَمُهُ المُثْلَى، تُضفِي عَلَيْهِ الاحتِرَامَ وَجَمِيلَ الحَيَاءِ، فَتَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ عَنْ مَكْنُونِ أَحْوَالِهِمْ وَخَاصِّ شُؤُونِهِمْ، وَمَا دَخْلُهُ بِتَفَاصِيلِ حَياتِهِمْ؟ لَقَدْ رَزَقَ اللهُ النَّاسَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا، وَجَعَلَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ سِتْرًا وَحِجَابًا، فَهَذَا مِنْ مُمتَلَكَاتِهِمُ الَّتِي لا يَرْضَوْنَ لَهَا انْكِشَافًا، وَيَرفُضُونَ لَهَا تَسَوُّرًا وَاقْتِحَامًا، فَإِذَا دَاخَلَ الأَمْرَ سُخْرِيَةٌ فَالمُؤْمِنُ أَبْعَدُ النَّاسِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ))(1)، لَقَدْ جَعَلَ اللهُ النَّاسَ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِيَتَعَارَفُوا وَيَتَآلَفُوا، لا لِيَسْخَرَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى مُذَكِّرًا بِأَصلِ الجَمِيعِ وَمُبَيِّنًا عِلَّةَ وُجُودِ الأَنْسَابِ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))(2)، إِنَّ مِمَّا يُنَافِي المُرُوءَةَ وَيُجَافِي الحَيَاءَ أَنْ يَعْمِدَ البَعْضُ – عَافَاكُمُ اللهُ – إِلَى تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ، وَالبَحْثِ عَنْ عُيُوْبِهِمْ وَمَثَالِبِهِمْ، وَلَرُبَّمَا لَفَّقُوا عَلَيْهِمُ التُّهَمَ، وَأَثَارُوا حَولَهُمُ الشُّبُهَاتِ، ثُمَّ نَشَرُوا عَنْهُمُ الأَكَاذِيبَ وَالشَّائِعَاتِ؟ أَمَا يَستَحُونَ؟ أَمَا يُفَكِّرُونَ فِي عَاقِبَةِ مَا يَفْعَلُونَ؟ أَلَمْ يَقْرَعْ أَسْمَاعَهُمْ قَولُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  : ((مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِـيْهِ المُسلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْـتِهِ))، أَلاَ وَإِنَّ مِنَ الجَمِيلِ أَلاَّ يَجِدَ هَؤُلاءِ فِي مُجتَمَعِنَا آذَانًا صَاغِيَةً، تَستَمِعُ لِشَائِعَاتِهِمْ، وَتَتَقَبَّـلُ أَرَاجِيفَهُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ مِمَّنْ يَعِي قَولَ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ))(3)،  لَقَدْ عَلَّمَنَا دِينُنَا الكَرِيمُ أَنْ نُحِبَّ لإِخْوَانِنَا مَا نُحِبُّ لأَنْفُسِنَا، فَإِذَا وَقَعْنَا فِي خَطَأٍ أَوْ زَلَلٍ، فَوَجَدْنَا مَنْ يُرشِدُنَا، وَيُقَوِّمُ اعْوِجَاجَنَا، وَقَدَّمَ لَنَا النُّصْحَ فِي ثَوْبِ اللُّطْفِ، مَقْرُونًا بِأَدَبٍ جَمٍّ؛ كَانَ ذَلِكَ لَنَا سُرُورًا، وَشَكَرْنَا لِصَاحِبِهِ حُسْنَ الخِطَابِ، وَرَجَونَا لَهُ طِيْبَ الثَّوَابِ، ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(4).                                      
  عِبَادَ اللهِ :
  إِنَّ أَخْلاقَ الإِسْلامِ الفَاضِلَةَ، إِنَّمَا هِي لِسَعَادَةِ الفَرْدِ وَرَاحَةِ المُجتَمَعِ، تَأَمَّـلُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - قَولَ رَبِّـكُمْ جَلَّ فِي عُلاهُ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))(5)، فَإِذَا كَانَ القُرْآنُ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَتْرُكَ مَنْ ضَلَّ بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ المُؤْمِنُ مَا عَلَيْهِ مِنْ نُصْحٍ وَإِرشَادٍ، وَيُطَمْئِنُهُ بِأَنَّ فِي ذَاكَ رَاحَتَهُ، وَلا يَضُرُّهُ غَوَايَتُهُمْ، فَكَمْ مِنْ رَاحَةٍ يَجنِيهَا لَوْ تَرَكَ النَّاسَ وَخَوَاصَّ شُؤُونِهِمْ؟ إِنَّ المُتَأَمِّـلَ المُتَبَصِّرَ عِنْدَمَا يَدَعُ الخَلْقَ لِلْخَالِقِ يُدْرِكُ أَنَّ فِي ذَلِكَ حِفْظًا لِكَرَامَتِهِ وَكَرَامَةِ النَّاسِ، بَلْ كَرَامَةِ المُجتَمِعِ بِأَسْرِهِ، فَلْنَحْمَدِ اللهَ عَلَى نِعْمَةِ الاستِقْرَارِ فِي المُجتَمَعِ، وَالأَمْنِ فِي الوَطَنِ.                                  
  أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
  إِنَّ المُسلِمَ حِيْنَ يَعِي أَهَمِّيَّةَ تَرْكِ مَا لا يَعنِيهِ، وَيُؤْمِنُ بِجَمِيلِ ثَمَرَاتِ هَذَا الخُلُقِ الطَّيِّبِ، لا بُدَّ أَنَّهُ سَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ، وَلا شَكَّ أَنَّكُمْ لِلأَفْضَلِ تَسْعَوْنَ، وَفِي كَرِيمِ الخِصَالِ وَالارتِقَاءِ بِأَنفُسِكُمْ تَرْغَبُونَ، وَأَنْتُمْ تَقْرَأُونَ قُولَ اللهِ تَعَالَى: ((قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(6)، فَاعلَمُوا – رَحِمَكُمُ اللهُ – أَنَّ الوَسِيلَةَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَشْتَغِلَ الإِنْسَانُ بِمَا يُهِمُّهُ وَيَنْفَعُهُ مِنْ أُمُورِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ، فَإِنَّ العُمرَ قَصِيرٌ، وَالنَّاقِدَ بَصِيرٌ، وَالنَّفْسَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالحَقِّ شَغَلَتْكَ بِالبَاطِلِ، وَلا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلاَّ بِتَنْظِيمِ الوَقْتِ التَّنْظِيمَ الجَيِّدَ، وَوَضْعِ الخُطَطِ الحَازِمَةِ لِحُسْنِ استِغْلالِهِ، فَإِنَّ مَنْ نَجَحَ فِي استِغْلالِ وَقْتِهِ وَحُسْنِ تَنْظِيمِهِ؛ وَجَدَ لِذَلِكَ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا لا يُحْصَى، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي تَوَافِهِ الأُمُورِ مَقْصَدًا وَلا مَغْزًى، فَتَنْصَرِفُ نَفْسُهُ عَنِ السَّـفَاسِفِ، وَتَتَّجِهُ إِلَى المَعَالِي، وَمَا عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ نَفْسَهُ لِيُعَوِّدَهَا الاستِمْرَارَ وَالمُوَاصَلَةَ، فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ هَدَاهُ اللهُ، يَقُولُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ))(7)، وَكَمَا لا يَخْفَى عَلَيْكُمْ فَإِنَّ مِنَ العَادَاتِ مَا يُكْتَسَبُ بِالتَّعَوُّدِ، وَمَا يَأْتِي مَعَ الزَّمَنِ بِالتَّدَرُّجِ، فَالعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَكَمْ مِنْ عَادَةٍ طَيِّبَةٍ صَارَتْ طَبْعًا، وَجَنَى الإِنْسَانُ مِنْهَا ثَمَرَةً وَنَفْعًا.
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَلْنَدَعِ الخَلْقَ لِلْخَالِقِ، وَلْنُجَاهِدْ أَنْفُسَنَا عَلَى أَنْ نَذَرَ النَّاسَ وَخَوَاصَّ شُؤُونِهِمْ، فَفِي ذَلِكَ رَاحَةٌ لَنَا وَلَهُمْ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
                                                *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
  إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَدْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ قَولُ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ))(8)، فَيَظُنُّ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْأَى بِنَفْسِهِ عَنِ النَّاسِ، وَيَتَقَوقَعَ فِي بَيتِهِ، وَيَهْجُرَ بَنِي مُجتَمَعِهِ، مُعتَقِدًا أَنَّ أُمُورَهُمْ لا تَعنِيهِ، وَمَصَالِحَهُمْ لا تُغْنِيهِ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الإِسْلامَ دِيْنٌ يُرَبِّي المُسلِمَ عَلَى أَنْ يَكُونَ فَرْدًا نَافِعًا، وَلَبِنَةً حَسَنَةً فِي مُجتَمَعِهِ وَوَطَنِهِ، وَإِنَّمَا نَهَى الإِنْسَانَ عَمَّا لا يَعنِي المُسلِمَ مِنْ شُؤُونِ النَّاسِ الخَاصَّةِ، أَوْ تَتَبُّعِ عُيُوبِهِمْ وَنَوَاقِصِهِمْ، فِي الوَقْتِ الَّذِي يَأْمُرُهُ بِأَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا مُصلِحًا، يَقُومُ بِوَاجِبِ النُّصْحِ وَالإِرشَادِ، فَالنُّصْحُ مِنْ صُلْبِ الدِّينِ، يَقُولُ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم-  : ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ))، وَإِنَّمَا عَلَى النَّاصِحِ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا فِي نَصِيحَتِهِ، مُتَّبِعًا الحِكْمَةَ وَالأُسلُوبَ الطَّيِّبَ الحَسَنَ، فَإِنَّنَا فِي سَفِينَةٍ وَاحِدَةٍ إِنْ لَمْ نَأْخُذْ بِأَيدِي بَعْضِنَا غَرِقْنَا جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ فِي المُجتَمَعِ ظَاهِرَةٌ تَحتَاجُ إِلَى عِلاجٍ، فَلْيَأْخُذِ النَّاصِحُونَ وَالمُختَصُّونَ بِالأَسَالِيبِ العُمُومِيَّةِ، دُونَ تَشْهِيرٍ وَإِحْرَاجٍ، هَذَا وَإِنَّ مِنَ النُّصْحِ لِلمُجتَمَعِ أَنْ يَسْعَى الإِنْسَانُ لِلصُّـلْحِ بَيْنَ النَّاسِ، خَاصَّةً فِيمَا اشْتَهَرَ مِنْ خُصُومَاتِهِمْ، وَإِنَّ مِنَ الخَطَأِ أَنْ يَظُنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ تَدَخُّلاً فِيمَا لا يَعْنِي، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي الصُّـلْحِ الخَيْرَ وَالمَنْفَعَةَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَالصُّـلْحُ خَيْرٌ))(9)، وَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: ((لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا))(10).
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَكُونُوا لَبِنَةً صَالِحَةً فِي مُجْتَمَعِكُمْ، تَنْأَونَ بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ خَوَاصِّ شُؤُونِ النَّاسِ، وَتَسْعَونَ بِالصُّـلْحِ وَالإِصْلاحِ خِدْمَةً لأُمَّـتِكُمْ.
  هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (11).
  اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
  اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
  رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
  عِبَادَ اللهِ :(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).

(1) سورة الحجرات/ 11.
(2) سورة الحجرات/ 13.
(3) سورة الحجرات/ 6.
(4) سورة النحل/ 125.
(5) سورة المائدة/ 105.
(6) سورة الشمس/ 9-10.
(7) سورة العنكبوت/ 69.
(8) سورة المائدة/ 105.
(9) سورة النساء/ 128.
(10) سورة النساء/ 114.
(11) سورة الأحزاب / 56 .