عَامٌ جَدِيدٌ وَخَيرٌ يَتَجَدَّدُ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
09/12/2009

24 ذي الحجة  1430هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
عَامٌ جَدِيدٌ وَخَيرٌ يَتَجَدَّدُ

الْحَمْدُ للهِ مَا تَعَاقَبَتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّامُ، وَطُوِيَتِ السِّنُونَ وَالأَعْوَامُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الشُّكْرُ عَلَى مِنَنِهِ العِظَامِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتَصَّهُ اللهُ بِشَرَفِ المَنْزِلَةِ وَالمَقَامِ،  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَعْلامِ الأَنَامِ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، وَسَلَّمْ تَسلِيمًا كَثِيرًا مَعَ مَزِيدِ تَأْيِيدٍ وَتَجْدِيدٍ وَدَوَامٍ.


أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- تَقْوَى مَنْ عَرَفَ قَدْرَ نَعْمَائِهِ، فَوَفَّى حَقَّهُ تَقْدِيسًا وَتَنْزِيهًا، وَعَمِلَ لِدِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَجَابَ الأَرْضَ يَبنِيهَا وَيُحيِيهَا، وَاعلَمُوا - وَفَّقَكُمُ اللهُ - أَنَّ تَقَلُّبَ الأَيَّامِ وَانْصِرَامَهَا مَدْرَسَةٌ مِنَ الحَيَاةِ، لَهَا جَانِبَانِ فِي الحِكْمَةِ: جَانِبُ الاعتِبَارِ وَجَانِبُ الأَمَلِ، فَبِقَدرِ الحُزنِ الَّذِي يَغْمُرُ النَّفْسَ مِنْ فَوَاتِ فُرَصِ الحَيَاةِ، وَانْقِضَاءِ الأَيَّامِ وَانتِهَائِهَا، وَاقْتِرَابِ الأَجَلِ وَدُنُوِّهِ، ثَمَّةَ قَدرٌ مِنَ الأَمَلِ يَمْلأُ القَلْبَ، يَنْسَى بِهِ المَرءُ الهُمُومَ، وَيَمْسَحُ عَنْهُ الأَحزَانَ، وَيُولَدُ بِهِ إِنْسَانًا جَدِيدًا، مِنْحَةٌ رَبَّانِيَّةٌ يُشِيرُ إِلَيْهَا قَولُهُ تَعَالَى: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً)( )، إِنَّ الأَمَلَ صِنَاعَةٌ يُمكِنُ تَعَلُّمُهَا وَإِتْقَانُهَا، وَفَنٌّ إِنْسَانِيٌّ جَدِيرٌ بِنَا تَتَبُّعُهُ، يَقْتَرِنُ بِالرَّجَاءِ الَّذِي حَثَّ عَلَيْهِ الدِّينُ فِي تَعَالِيمِهِ، وَعَرَفَهُ الحُكَمَاءُ فِي تَجَارِبِهِمْ وَأَرشَدُوا إِلَيْهِ، ذَلِكَ أَنَّ الأَمَلَ رُوحُ الحَيَاةِ وَجَمَالُهَا، وَبَهْجَةٌ لِلنَّفْسِ وَانْشِرَاحٌ لَهَا، وَبِغَيْرِهِِ لا يَستَعذِبُ الإِنْسَانُ مَا يُوَاجِهُهُ مِنْ تَحَدِّيَاتٍ، وَلا يَقْدِرُ عَلَى تَخَطِّي أَوقَاتِ المِحَنِ وَالأَزَمَاتِ، فَاليَائِسُونَ قَومٌ فَرَغَتْ قُلُوبُهُمْ مِنَ الأَمَلِ فَوَقَعُوا فِي القُنُوطِ، وَمَاتَ الرَّجَاءُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَاستَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَى حَبَائِلِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)( ).
أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
هَا هُوَ عَامٌ قَدْ دَنَا أَجَلُ انْقِضَائِهِ، وَحَانَتْ وِلادَةُ عَامٍ جَدِيدٍ، فَلْنَقِفْ بَيْنَ هَذَيْنِ العَامَيْنِ وَقْفَةَ تَأَمُّـلٍ، نَنْظُرُ فِيهَا إِلَى المَاضِي نَظْرَةَ مُوَدِّعٍ، فَنَتَأَمَّـلُهُ إِمَّا فَرِحِينَ بِإِنْجَازَاتٍ تَحَقَّقَتْ، وَنَجَاحَاتٍ دُوِّنَتْ، أَوْ حَزِنِينَ عَلَى فَوَاتِ فُرَصٍ، دُونَ أَنْ يَعُوقَنَا ذَلِكَ عَنِ المُضِيِّ قُدُمًا إِلىَ الأَمَامِ، وَالبِنَاءِ لِلْمُستَقْبَلِ، وَاستِنْزَالِ القَدَرِ الجَمِيلِ بِحُسْنِ الظَّنِّ، وَاستِكْمَالِ الخَيْرِ بِطَلَبِ الحُظُوظِ، وَلْنَستَمِعْ إِلَى قَولِهِ سُبْحَانَهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)( )، فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُوجِبَاتِ السَّعَادَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَمَعَ المُوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَالاعتِبَارِ شِفَاءُ الصُّدُورِ مِنْ عِلَلِهَا، وَنُزُولُ الرَّحْمَةِ وَالهُدَى، وَعُمُومُ فَضلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالفَرَحُ وَالاستِبشَارُ، وَهِيَ مِنْ عَطَايَا اللهِ فِي الدُّنيَا وَهِبَاتِهِ. إِنَّ العَمَلَ مِنْ أَجلِ غَدٍ أَفْضَلَ وَمُستَقْبَلٍ جَمِيلٍ رَكِيزَةٌ مِنْ رَكَائِزِ هَذَا الدِّينِ، وَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ المُبِينِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)( )، وَالغَدُ عِنْدَ العَرَبِ كِنَايَةٌ عَنِ المُستَقْبَلِ، وَالرُّتَبُ فِي ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ، وَالفَضْلُ مُتَبَايِنٌ، وَالنَّظَرُ لِلإِنْسَانِ: مَاذَا يُرِيدُ أَنْ يُحَقِّقَ؟ وَأَينَ يُرِيدُ أَنْ يَصِلَ؟ وَبِقَدرِ الطُّمُوحِ يَكُونُ العِزُّ وَالشُّمُوخُ، إِنِ اقْتَرَنَ بِاتِّخَاذِ الأَسْبَابِ وَإِحْسَانِ النِّيَّةِ وَالظَّنِّ.

أَيُّهَا النَّاسُ :
إِنَّ العَمَلَ مِنْ أَجْـلِ غَدٍ أَفْضَلَ يَبْدَأُ بِالتَّغْيِيرِ، وَالتَّغْيِيرُ يَبْدَأُ مِنَ النَّفْسِ، مِصْدَاقًا لِقَولِ اللهِ جَلَّ وَعَلا: ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)( )، وَالغَدُ الأَفْضَلُ يَبْدَأُ مِنَ المَشَاعِرِ المُعتَدِلَةِ، وَالانْفِعَالاتِ المُتَوَازِنَةِ، وَالنَّظَرِ إِلَى الحَيَاةِ كَمَا هِيَ، يُشَارِكُهُ فِيهَا آخَرُونَ مِنْ بَنِي جِنْسِهِ، وَمِنْ مَخلُوقَاتِ اللهِ الَّتِي نَعلَمُهَا وَالَّتِي لا نَعلَمُهَا، لِئَلاَّ يَظُنَّ أَحَدٌ أَنَّ الحَيَاةَ جَمِيعَهَا لَهُ، وَأَنَّ الأَرْضَ مِلْكُهُ وَحْدَهُ، وَأَنَّ الأَحْوَالَ فِيهَا لا تَتَبَدَّلُ وَلا تَتَغَيَّرُ، فَالقَانُونُ الأَوْحَدُ هَاهُنَا: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)( )، وَالتَّغْيِيرُ إِلىَ الأَفْضَلِ يَقْتَضِي التَّوَسُّطَ بَيْنَ الأَلَمِ وَالأَمَلِ، فَمِنْ سُنَنِ الحَيَاةِ أَنَّهَا مَزْجٌ بَيْنَ المُتَنَاقِضَاتِ، وَجَمْعٌ مُدْهِشٌ بَيْنَ الأَضْدَادِ، فَالأَيَّامُ الحَزِينَةُ لا تَبقَى عَلَى حَالِهَا، وَالأَيَّامُ السَّعِيدَةُ تَأْتِي وَتَرُوحُ، وَحِينَ يَذْهَبُ رِزقٌ مِنْ هُنَا يَأْتِي رِزقٌ آخَرُ مِنْ هُنَاكَ، وَعِنْدَمَا يَمُوتُ إِنْسَانٌ فِي أَرْضٍ يُولَدُ طِفلٌ آخَرُ فِي غَيْرِهَا، وَهَكَذَا هِيَ الدُّنيَا، فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ ألاَّ يُضَيِّعَهُ الرَّجَاءُ وَالأَمَلُ، ولا يُقْنِّطَهُ الخَوفُ وَالوَجَلُ، وَلا تَفْسِدَهُ الأَحزَانُ، وَلا تُبْطِرَهُ الأَفْرَاحُ، وَقَدْ كَانَتْ وَصِيَّةُ اللهِ لِعِبَادِهِ: (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)( )، وَالتَّغْيِيرُ نَحْوَ الأَفْضَلِ -عِبَادَ اللهِ- لَيْسَ بِوُقُوفِ الإِنْسَانِ عَلَى عَتَبَاتِ الأُمُورِ المُؤَقَّتَةِ، أَوْ أَنْ تُقْعِدَهُ الظُّرُوفُ القَاهِرَةُ، بَلْ هُوَ أَنْ يَتَسَامَى عَنِ النَّظَرِ إِلىَ الحَدَثِ إِلَى تَأَمُّـلِ حِكَمِهِ، وَأَثَرِهِ فِي نَفْسِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ مِنَ المِحنَةِ مِنْحَةً، وَمِنَ الأَلَمِ أَمَلاً، وَمِنَ البَلِيَّةِ عَطِيَّةً، وَقَدْ كَانَتْ أَحْدَاثُ الهِجْرَةِ مَعْـلَمًا مُهِمًّا فِي تَأْكِيدِ هَذَا المَعنَى، فَقَدْ خَرَجَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- مُهَاجِرًا عَلَى ضَعْفٍ وَحُزنٍ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَخنَعْ وَيَذِلَّ، وَحِينَ أَحَسَّ مِنْ صَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الحُزنَ قَالَ لَهُ: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)( )، فَمِنَ الخَيْرِ أَنْ نَحْرِصَ عَلَى هَذَا السُّلُوكِ فِي تَعَامُلاتِنَا اليَوْمِيَّةِ، وَنُرَبِّيَ أَبنَاءَنَا عَلَيْهِ، وَأَنْ نَكِلَ الأُمُورَ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، فَالخَيْرُ لا يَأْتِي إِلاَّ مِنْ عِنْدِهِ، وَالشَّرُّ لا يُدفَعُ إِلاَّ بِقُدْرَتِهِ، وَمَا نَرَاهُ فِي تَقَلُّبِ الحَالِ وَالزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ لِحِكْمَةٍ يُرِيدُهَا سُبْحَانَهُ، يَقُولُ تَعَالَى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)( )، وَيَقُولُ جَلَّ وَعَلا: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)( )، وَلِسَانُ المُؤْمِنِ فِي كُلِّ حَالٍ: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)( ).
عِبَادَ اللهِ :
تَحْمِلُنَا سَفِينَةُ الحَيَاةِ عَبْرَ بَحْرِ الزَّمَنِ، وَتَمُرُّ بِنَا الأَيَّامُ يَومًا بَعْدَ يَومٍ، وَعَامًا بَعْدَ عَامٍ، وَإِذْ لا مَنَاصَ مِنَ السَّـفَرِ وَلا بَدِيلَ عَنْهُ، فَأَخْذُ احتِيَاطَاتِ السَّلامَةِ وَضَرُورَاتِ الأَمَانِ مِنْ أَهَمِّ المَرَاشِدِ، وَالوُصُولُ إِلَى بَرِّ الأَمَانِ وَشَاطِئِ الخَيْرِ مَنُوطٌ بِمَنْ تَمَسَّـكَ بِهَا، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا، فَيَتَحَقَّقُ مَا يَصْبُو إِلَيْهِ مِنْ أَهدَافٍ وَمَقَاصِدَ، وَمِنْ أَهَمِّ تِلْكَ الاحتِيَاطَاتِ عَلَى المُستَوَى العَامِّ أَنْ يَشْعُرَ المَرْءُ بِمَسؤُولِيَّاتِهِ تِجَاهَ الآخَرِينَ، فَلا يَكُونَ أَنَانِيًّا فِي أَفْعَالِهِ، أَوْ يَنْظُرَ إِلَى مَصلَحَتِهِ الذَّاتِيَّةِ فَحَسْبُ، وَهَذَا مَا يُرشِدُ إِلَيْهِ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ قَالَ: ((مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَومٍ استَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسفَلَهَا، وَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسفَلِهَا إِذَا استَقَوا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوقَنَا؛ فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيدِيهِمْ نَجَوا وَنَجَوا جَمِيعًا))، فَهَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّنَا عَلَى أَنَّ المُجتَمَعَ لا يَستَقِيمُ وَأَفْرَادُهُ مُتَفَرِّقُونَ، وَلا يَقُومُ بُنْيَانُهُ وَقُلُوبُ أَبنَائِهِ عَلَى غَيْرِ وِفَاقٍ، وَلَوِ اسْتَقَامَتْ نِيَّاتُهُمْ، وَحَسُنَتْ مَقَاصِدُهُمْ؛ فَلا تُغْنِي النِّيَّةُ الحَسَنَةُ عَنْ ثَقْبٍ فِي أَسْفَلِ السَّفِينَةِ، وَلا تَنْفَعُ المَقَاصِدُ الجَمِيلَةُ فِي رَدِّ الهَلاكِ إِنْ وَقَعَتْ أَسْبَابُهُ، فَالوَاجِبُ هُوَ القِيَامُ بِالمَسؤُولِيَّاتِ تِجَاهَ الآخَرِينَ، وَالسَّعْيُ فِي الصَّالِحِ العَامِّ، وَتَقْدِيمُ المَصلَحَةِ العَامَّةِ عَلَى المَصلَحَةِ الخَاصَّةِ.
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَاستَعِينُوا بِهِ سُبْحَانَهُ عَلَى مَقَاصِدِكُمُ الحَسَنَةِ، وَاتَّبِعُوا نَهْجَ الاعتِدَالِ وَالقَصْدِ فِي أُمُورِكُمْ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، وَأَجْرَى الأُمُورَ عَلَى مَا يَشَاءُ حِكْمَةً وَتَدبِيرًا، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، كَفَى بِهِ وَلِيًّا وَنَصِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرسَلَهُ إِلَى النَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ -، وَاعلَمُوا - رَحِمَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ - أَنَّ مِنْ تَدَابِيرِ السَّلامَةِ وَأَسْبَابِ النَّجَاحِ عَلَى مُستَوَى الفَردِ التَّخْطِيطَ السَّلِيمَ، فَمَنْ فَشِلَ فِي التَّخْطِيطِ فَقَدْ خَطَّطَ لِلْفَشَلِ، وَحَيَاةُ النَّاجِحِينَ لا تَمْضِي نَحْوَ وِجْهَةٍ مَجْهُولَةٍ، وَلا تَسُوقُهَا الظُّرُوفُ كَيفَمَا اتَّفَقَ، بَلْ هُمْ مُخَطِّطُونَ نَاجِحُونَ، عَمِلُوا بِأَسبَابِ النَّجَاحِ فَنَالُوهُ، وَأَخَذُوا بِمَرَابِطِ الرُّشْدِ وَالتَّوفِيقِ فَكَانَ لَهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)( )، فَيَجْدُرُ بِالمُسلِمِ مَطْلَعَ كُلِّ عَامٍ جَدِيدٍ أَنْ يَضَعَ لِنَفْسِهِ أَهْدَافًا مُحَدَّدَةً لِتَحقِيقِهَا، وَيَرْسُمَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُوصِلُهُ إِلَيْهَا، فَالعَفْوِيَّةُ لا تَصنَعُ الإِنْجَازَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَحْيَانِ، وَتَركُ الأُمُورِ دُونَ ضَبْطِهَا دَلِيلٌ عَلَى الضَّعْفِ فِي التَّدبِيرِ، وَلَنَا فِي مَملَكَةِ النَّحْلِ عِبرَةٌ، فَهِيَ أُمَّةٌ مُنَظَّمَةٌ، وَذَاتُ أَهْدَافٍ مُحَدَّدَةٍ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا وَظِيفَةٌ مُعَيَّنَةٌ، فَكَانَ نِتَاجُهَا العَسَلَ المُصَفَّى فِي بَرَكَتِهِ وَمَنَافِعِهِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)( ).
عِبَادَ اللهِ :
مِنْ حُسْنِ التَّدبِيرِ رَدُّ الأُمُورِ إِلَى مَوَاضِعِهَا، وَالرِّفْقُ بِالنَّفْسِ فِي كُلِّ أَحْوَالِهَا، فَإِنَّ المُنْبَتَّ لا أَرْضًا قَطَعَ وَلا ظَهْرًا أَبقَى، وَالغُلُوُّ لا يَأْتِي بِخَيْرٍ، وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ شَرٌّ كُلُّهُ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَالرَّسُولُ المُصْطَفَى -عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- يُوصِينَا بِذَلِكَ فَيَقُولُ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ)).
 وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ فِي العَامِ الجَدِيدِ إلَى فِعلِ الخَيْرَاتِ، وَالمُسَارَعَةِ إِلَى البِرِّ وَالصَّدَقَاتِ، وَجَعَلَ اللهُ حَاضِرَ أَيَّامِنَا خَيْرًا مِنْ مَاضِيهَا، وَمُستَقْبَلَهَا خَيْرًا مِنْ حَاضِرِهَا.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: ( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ) ( ).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظِّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.

اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :
( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ).