لطف الله في قدره
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
20/06/2007

خطبة جمعة بتاريخ 7 جمادى الثانية 1428هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

لُـطْفُ اللهِ في قََدَرِه

   الحَمْدُ للهِ وَسِعَ كُلََّ شَيءٍ رَحْمَةً وفَضلاً، وعَمَّ كُلَّ حيٍّ نِعْمَةً وعَدْلاً، وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحدَه لا شريكَ له، سُبحانَه يُسبِّحُ الرَّعدُ بحمدِه والملائكةُ منْ خِيفَتِه، أحمدُه سُبحانه وأشكرُه علَى عظيمِ آلائِه وجلائلِ منَّتِه، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا مُحمّداً عبدُ اللهِ ورسولُه، خيرتُهُ منْ بريِّتِه، ومصطفاهُ لرسالتِه، صلى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ.

   أمَّا بعد، فأُوصيكم عبادَ اللهِ ونَفْسي بتَقْوى اللهِ العظيمِ، فإنَّها الزادُ المُبلِّغُ إلى رضوانِه، يقول جل وعلا: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ))(1)، وهيَ وَصيَّةُ اللهِ تعالى للأوَّلينَ والآخرينَ حيثُ يقولُ سبحانه: (( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً))(2)، واعلموا - رحِمكمُ اللهُ- أنَّ في لطائفِ ما تَجري به المقاديرُ فضلاً منَ اللهِ تعالى ورحمةً، وما يسوقُه سبحانه مِنْ مكنونِ خزائنِ إنعامِه؛ يَستوجبُ منَ العبدِ الحمدَ والشكرَ على كلِّ حال، فاللهُ تعالى يُظهرُ لعبادِه بحِكمتِه بعضَ آياتِه، فإنْ أحسنَ المُؤمِنُ ظَنَّه بِرَبِّه، وأمعَنَ في تِلْكَ الآياتِ نَظَرَه، وَجَدَ أنَّ رحمةَ اللهِ تعالى بهِ غامرةٌ، وإحسانَهُ شاملٌ، ومِنَّتَهُ عظيمةٌ، فإذا بهِ يزدادُ إيماناً ويقيناً، مُدرِكاً أنَّ ما أصابَه لم يَكُنْ لِيُخطئَهُ، وأنَّ ما دفعَه اللهُ تعالى عنه أعظمُ مِمَّا أصابَه ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ))(3)، ولا ريبَ أنَّ المؤمنَ الحَقَّ يَتزوَّدُ ممِّا يَمرُّ بهِ مِنْ مواقفَ وحوادث، يَتَزَوَّدُ ثِقةً باللهِ تعالى، وإيماناً خالصاً، ويقيناً راجحاً، لأنَّهُ بهذهِ يَتَمكَّنُ مِنْ إكمالِ العطاءِ، ومنْ مواصلةِ العملِ، بل بذلِ المزيدِ، تلكَ العقيدةُ الراسخةُ في طَوايا نفسِه، لم تَزدْها الحوادثُ إلاَّ رُسُوخاً وثباتاً، لِيكونَ بَعدُ مِنْ آثارِها مُتابعةُ الصالحاتِ بمفهومِها الواسعِ الشاملِ، منَ العبادةِ للهِ عزَّ وجل، ومنَ السعيِ في الأرضِ لِكَسْبِ الرزقِ، وعمارةِ الأرضِ، والسَّعيِ في تنميةِ مجتمعِه، ومِنْ أنواعِ البرِّ، والتعاونِ على الخَيرِ والتقوى، والتعاطفِ والمواساةِ، يَنطلقُ في ذلكَ كلِّه مِنْ إيمانِه الذي يدعوه إلى العملِ حتى في آخرِ لحظاتِ هذه الحياةِ الفانيةِ؛ أولم يقلْ رسولُنا الكريمُ -عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلامِ-: ((إنْ قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ الساعةُ حتى يَغرسَها فليفعلْ))!

   أيّها المؤمنونَ :

   إنَّ مِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ تعالى علَى العبدِ أنْ يُكرِمَهُ بالثَّباتِ وحُسنِ التَّدبِيرِ في كُلِّ أحوالِه، وأنْ تَكتنفَ العبدَ الحكمةُ في سائرِ أمورِه، فَما أوسعَ توفيقَ اللهِ عزَّ وجلَّ بالعبدِ حينما تَتَنزَّلُ عليه رَحَماتُ اللهِ تعالى وبركاتُه فيتحلَّى برِباطةِ الجأشِ، وجميلِ الصَّبرِ، وحُسنِ الرأي! أليسَ هذا مِنْ جُملةِ لطائفِ القَدْرِ التي خَبرنَاها فيما مَرَّت به بلادُنا الطيِّبةُ، المباركةُ بدعاءِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-  لأرضِها وبحرِها وشهادتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ لأهلِها! فالحمدُ للهِ على ما أولى وأنعم، ولهُ الشكرُ على ما حبا وتفضَّل. إنَّ سماتِ الأممِ تتجلَّى في أفراحِها وأتراحِها، والأمةُ القويَّةُ المُتحضِّرةُ هي التي تقومُ على سواعدِ أبنائِها، وتُبنى بأياديهم، وتُخطَطُ بعقولِهم، أخذاً بالأسبابِ، وتوكلاً على اللهِ تعالى مُسبِّبِ الأسباب، تراهم مُتعاونينَ فيما بينَهم، يَسعَى بعضُهم في حاجةِ بعضٍ، ويعينُ القادرُ منهم أخاه، ((كالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منهُ عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحُمَّى والسهر))، يغارُون على أُمَّتِهم وأوطانِهم غَيْرَتَهم على أعراضِهم وأنفسِهم، يعتمدونَ على أنفسِهم بلا تواكلٍ ولا مَلَلٍ ((كالبُنيانِ المرصوصِ يشدُّ بعضُه بعضاً)).

   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.

  *** *** ***

   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.

   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :

   إنَّ المؤمنَ لا ريبَ يُوقِنُ أنَّهُ لا رادَّ لقضاءِ اللهِ، ويُؤمنُ يقيناً أنَّ اللهَ تعالى لطيفٌ بالعبادِ، يقولُ سبحانه: (( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ))(4)، ويقول: (( اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ))(5)، وهذا مما يُقرِّبُ العبدَ مِنْ خالقِه، ومِمِّا يُقوِّي الإيمانَ في نفسِه، واللهُ عزَّ وجلَّ يُحبُّ مِنْ عبادِه الشاكرَ الصابرَ، قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((عجباً لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَه كلّهُ خيرٌ وليسَ ذاكَ لأحدٍ إلاَّ للمؤمن؛ إنْ أصابتْهُ سرَّاءُ شكرَ فكانَ خيراً له، وإنْ أصابتْهُ ضرَّاءُ صبرَ فكانَ خيراً له)). إنَّ هذا المعنى هو حقيقةُ الإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ، إنَّهُ إحسانُ الظنِّ بالمولى الكريم، ومراجعةُ النفسِ عمَّا قصَّرتْ فيه، ثُمَّ التوبةُ والاستغفارُ، فجِدٌّ وعملٌ وعمارةٌ وبناءٌ، بنفوسٍ راضيةٍ، وقلوبٍ مستسلمةٍ لقضاءِ الله، وضمائرَ يقظةٍ، وألبابٍ مُتشوِّفةٍ إلى مزيدٍ منَ البناءِ والتعميرِ والتعاونِ على البرِّ والتقوى والتفريجِ عنِ الناسِ ومواساتِهم والوقوفِ إلى جانبِهم قَدْرَ ما يتيسَّر.

   عِبَرٌ كثيرةٌ، وعظاتٌ وافرةٌ، ودروسٌ نافعةٌ، فهنيئاً لِمَنْ أحسنَ الانتفاعَ، وطُوبَى لِمَنْ حازَ فضلَ السَّبقِ في الأُولَى والآخرةِ ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))(6).

   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً:((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (7).

   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.

   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.

   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.

   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، واحفظ لعمان أمنها وأمانها، وأدم لها سلطانها، وأنعم على شعبها بالأمن والخير والاطمئنان.

   اللَّهُمَّ اكف عنا كل سوء وكل مكروه، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ الشاكرين لَكَ في كل حين.

   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وتجارتنا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.

   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.

   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.

   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.

   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.

   عِبَادَ اللهِ :

   (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).

(1) سورة البقرة / 197 .

(2) سورة النساء / 131 .

(3) سورة النحل / 18 .

(4) سورة يوسف / 100 .

(5) سورة الشورى / 19 .

(6) سورة التوبة / 105 .

(7) سورة الأحزاب / 56 .