تأمُّلاتٌ فِي سُورة ِ الـقَدْرِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
08/10/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 23 رمضان 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
تأمُّلاتٌ  فِي سُورة ِ الـقَدْرِ
   الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ لَيلَةَ القَدْرِ مِيقَاتاً لِنُزولِ كِتَابِهِ، وأَكْرَمَنا فِيهَا بِمُحكَمِ خِطَابِهِ، وشَرَّفَها بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ لَطَائِفِهِ وهِبَاتِهِ، وأَسبَغَ عَلَينَا مِنْ فُيوضِ رَحَمَاتِهِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَنْزَلَ القُرآنَ فِي لَيلَةِ القَدْرِ، وجَعَلَها خَيراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وشَاءَ أَنْ يُفْرَقَ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ، وصَلاَةُ اللهِ وسَلاَمُهُ الدَّائمانِ عَلَى خَيْرِ البَرِيَّةِ، وهَادِي البَشَرِيَّةِ إِلى الطَّرِيقَةِ السَّويَّةِ، والعُرْوَةِ الوُثْقَى القَوِيَّةِ، مَا تَعَاقَبَ الَّليلُ والنَّهَارُ، وغَرَّدَتْ عَلَى الأَيكِ الأَطْيَارُ، وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ الأَطْهَارِ، وأَتْبَاعِهِم الأَبْرَارِ، إِلى يَوْمِ الدِّينِ، يَوْم يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينِ.  أَمَّا بَعْدُ، فَيا عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، واتَّبِعُوا مَرَاشِدَ آيَاتِهِ، ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ))(1)، واعلَمُوا -رَحِمَكُم اللهُ- أَنَّ أَيَّامَكُم هَذِهِ أَيَّامٌ عَظِيمَةٌ، ولَيَالِيَكُم لَيالٍ جَلِيلَةٌ كَرِيمَةٌ، فَهِيَ مَظِنَّةُ لَيلَةٍ أَكْرَمَ اللهُ فِيهَا الوُجُودَ بِأَكْمَلِهِ، بِإِنزَالِ أَفْضَلِ كِتَابٍ وأَمثَلِهِ، إِنَّهَا لَيلَةُ القَدْرِ، التِي أَنْزَلَ اللهُ فِي شَأْنِها سُورَةً بِأَكْمَلِهَا فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ، وأَوضَحَ عَظِيمَ قَدْرِهَا فِي ذِكْرِهِ الحَكِيمِ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَك وتَعَالَى:(( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيلَةِ الْقَدْرِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ، سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ))(2)، لَقَدِ افتُتِحَتْ هَذِه السُّورَةُ بِقَولِ اللهِ عَزَّوَجَلَّ: (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ))(3)، إِنَّهَا فَاتِحَةٌ تَشعُّ بِالتَّوكِيدِ، وتَنْطِقُ بِالتَّوْحِيدِ، وتُعلِي شَأَنَ القُرآنِ بِالتَّمْجِيدِ، فَافْتُتِحَتِ السُّورَةُ بِحَرفِ التَّوكِيدِ (إنَّ) وبِالإِخبَارِ عَنْها بِالجُملَةِ الفِعلِيَّةِ، وكِلاَهُمَا مِنْ طُرُقِ التَّأَكِيدِ القَوِيَّةِ، وقَدْ أَسنَدَ اللهُ إِنْزَالَ القُرآنِ الكَرِيمِ إِلى ذَاتِهِ العَلِيَّةِ، بِنُونِ العَظَمَةِ، وفِي هَذَا إِعلاَءٌ لِشَأْنِ القُرآنِ، وتَبْرِئتُهُ مِمَّا قَدْ يَعتِري كَلاَمَ الإِنسَانِ، فَهُوَ كِتَابٌ مُحكَمُ البِنَاءِ والتَعْبِيرِ، مَحفُوظٌ مِنَ التَّبدِيلِ والتَّغييرِ، إِنَّهُ كِتَابُ الحِكْمَةِ البَالِغَةِ، وَكَيفَ لاَ يَكُونُ كَذَلِكَ وقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ الحَكِيمُ العَلِيمُ، قَالَ تَعَالَى: (( وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) (4)، إِنَّهُ كِتَابٌ مُبِينٌ أَقَامَ الحُجَّةَ عَلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ، ولاَ يَخلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وإِنَّهُ لَحَرِيٌّ بِذَلِكَ وقَدْ نَزَلَ مِنْ عِنْدِ خَالِقِ العِلْمِ ورَازِقِ الفَهْمِ، قَالَ تَعَالَى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))(5)، وهُوَ كِتَابٌ تَشعُّ مِنْ آيتِهِ مَعَانِي الرَّحْمَةِ، وتُشْرِقُ مِنْ كَلِمَاتِهِ دَلاَلاَتُ الرِّفْقِ، فَقَدْ أَوحَاهُ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إِلى مَنْ أَرْسَلَهُ رَحْمَةً لِلعَالَمِينَ، قَالَ تَعَالَى: ((تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) (6)، إِنَّ إِنْزَالَ القُرآنِ فِي شَهْرِ رَمضَانَ يَدُلُّ دَلاَلَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُ كِتَابٌ جَاءَ لِتَهْذِيبِ النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، وتَقْوِيمِ صِفَاتِها السُّلُوكِيَّةِ، فَشَهْرُ رَمضَانَ شَهْرُ الطُّهْرِ والنَّقَاءِ، شَهْرٌ تَتَهَذَّبُ بِصَوْمِهِ النَّفسُ، ويَرقَى بِقِيَامِهِ الحِسُّ.
   أَيُّها المُسلِمُونَ :
   وَعَلَى عَادَةِ القُرآنِ فِي تَعظِيمِ كَثِيرٍ مِنَ الأُمُورِ بِالسُّؤَالِ؛ عَظَّمَ اللهُ شَأْنَ لَيلَةِ القَدْرِ فَقَالَ: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ الْقَدْرِ)) (7)، فَلَيلَةُ القَدْرِ اسْمٌ جَعَلَهُ اللهُ لِلَّيلَةِ التِي ابتَدأَ فِيهَا نُزُولُ القُرآنِ، والتِي سَجَّلَهَا الوجُودُ كُلُّهُ فِي فَرَحٍ وغِبْطَةٍ وابتِهَالٍ، إنها لَيلَةُ بَدْءِ الاتِّصَالِ بَيْنَ الأَرْضِ والمَلأِ الأَعلَى، بِإِنزَالِ هَذَا القُرآنِ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- ، فَهِيَ لَيلَةٌ ذَاتُ حَدَثٍ عَظِيمٍ، لَمْ تَشْهَدِ الأَرْضُ مِثْلَهُ فِي عَظَمَتِهِ، وفِي دَلاَلَتِهِ، وفِي آثَارَهِ فِي حَيَاةِ البَشَرِيَّةِ جَمِيعاً، العَظَمَةُ التِي لاَ يُحِيطُ بِها الإِدْرَاكُ البَشَرِيُّ، والنُّصُوصُ القُرآنِيَّةُ التِي تَذْكُرُ هَذَا الحَدَثَ تَفِيضُ بِالنُّورِ الهَادئِ السَّارِي الرَّائِقِ، نُورِ اللهِ المُشْرِقِ فِي قُرآنِهِ، إِنَّ الليلَةَ التِي تَتَحَدَّثُ عَنْهَا هَذِهِ السُّورَةُ الكَرِيمَةُ هِيَ الليلَةُ التِي جَاءَ ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ الدُّخَانِ مَوْصُوفَةً بِالبَرَكَةِ، قَالَ تَعَالَى: (( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))(8)، والمَعْروفُ أَنَّهَا لَيلَةٌ مِنْ لَيَالِي رَمضَانَ، بِدَلِيلِ قَولِ اللهِ تَعَالَى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالْفُرقَانِ))(9)، والقَدْرُ الذِي عُرِفَتِ اللَيلَةُ بِالإِضَافَةِ إِلَيهِ هُوَ بِمَعنَى الشَّرَفِ والفَضلِ، فَهِيَ لَيلَةٌ عَظِيمَةُ القَدْرِ والشَّرَفِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَحُقَّ لِلنَّاسِ أَنْ يُعَظِّمُوهَا ويُجِلُّوا قَدْرَها، كَمَا أَعطَاهَا سُبْحَانَهُ مِنَ البَرَكَةِ مَا يَجْعَلُ أَفئِدَةً تَهفُو إِلى إِحيَائِها وقِيَامِها، وَمِنْ إِعجَازِ القُرآنِ الكَرِيمِ أَنْ جَاءَتْ كَلِمَةُ القَدْرِ مُعَرَّفَةً؛ لِتَشْمَلَ كُلَّ قَدْرٍ ومَنْزِلَةٍ عَالِيَةٍ.
   أَيُّهُا المُسْلِمُونَ:
   لَقَدْ نَصَّتِ السُّورَةُ الكَرِيمَةُ أَنَّ لَيلَةَ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وذَلِكَ بِتَضْعِيفِ فَضلِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحَاتِ، واستِجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَوَفْرَةِ ثَوابِ الصَّدَقَاتِ، ومَا حَصَلَ لِلأُمَّةِ جَمِيعاً مِنْ أَرزَاقٍ وبَرَكَاتٍ، لأَنَّ تَفَاضُلَ الأَيَّامِ واللَّيَالِي لاَ يَكُونُ بِمَقَادِيرِ أَزْمِنَتِها، ولاَ بِطُولِها أَو بِقِصَرِهَا، بَلْ بِمَا يَحْصُلُ فِيها مِنَ الصَّلاَحِ والخَيْرَاتِ لِلنَّاسِ أَفَرَاداً وجَمَاعَاتٍ، فَفَضلُ الأَزْمَانِ إِنَّمَا يُقَاسُ بِمَا يَحْصُلُ فِيهَا، لأَنَّها ظُروفٌ لِلأَعمَالِ ولَيْسَتْ لَهَا صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ يُمكِنُ أَنْ تَتَفاضَلَ بِهَا كَتَفَاضُلِ النَّاسِ، فَفَضلُ ليلةِ القَدرِ بِمَا أَعَدَّهُ اللهُ فيها مِنَ التَّفْضِيلِ، كَتَفْضِيلِ ثُلُثِ اللَّيلِ الأَخِيرِ، ونَحْنُ مَأَمُورُونَ أَنْ لاَ نَنْسَى ولاَ نَغْفَلَ هَذِه الذِّكْرَى؛ وقَدْ جَعَلَ لَنَا نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- سَبِيلاً لإِحيَائِها فِي أَرْوَاحِنَا لِتَظَلَّ مَوْصُولَةً بِهَا أَبَداً، ومَوْصُولَةً كَذَلِكَ بِالحَدَثِ الكَونِيِّ الذِي كَانَ فِيهَا، وذَلِكَ فِيمَا حَثَّنَا عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ هَذِهِ اللَّيلَةِ مِنْ كُلِّ عَامٍ، ومِنْ تَحَرِّيَها والتَّطَلُّعِ إِليْهَا فِي لَيَالِي العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْ رمَضَانَ، فَقَد جَاءَ عَنهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((تَحَرَّوْا لَيلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ)).
   عِبَادَ اللهِ:
   ولَيلَةُ القَدْرِ لَيلَةُ سَلاَمٍ وبَرَكَةٍ، كَيفَ لاَ وهِيَ ظَرْفٌ لإِنْزَالِ الكِتَابِ الدَّاعِي إِلى السَّلاَمِ، ومَنْهَجِ الوِحْدَةِ والوِئَامِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ))(10)، إِنَّهَا أَمْنٌ وسَلاَمٌ كُلُّهَا بِمَا تُفِيضُهُ مِنَ الرُّوحِ والسَّكِينَةِ، والأَمْنِ والطُّمَأَنِينَةِ، عَلَى المُؤمِنِينَ عَامَّةً، وعَلَى مَنْ شَرَّفَهُ اللهُ بِقِيَامِ هَذِه اللَّيلَةِ المُبَارَكَةِ خَاصَّةً، فَفِي هَذَا بَيَانٌ لَمَزِيَّةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ مَزَايا هَذِه اللَّيلَةِ، إِنَّهَا لَيلَةٌ يُظِلُّهَا ويَشْمَلُهَا السَّلاَمُ المُستَمِرُّ، والأَمَانُ الدَّائِمُ، لِكُلِّ مُؤمِنٍ يُحْيِيهَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وهِيَ سَالِمَةٌ مِنْ كُلِّ أَذَىً وسُوءٍ لِكُلِّ مُؤمِنٍ ومُؤمِنَةٍ حَتَّى طُلُوعِ الفَجْرِ.
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وتَدَبَّروا فِي مَعَانِي آيَاتِ كِتَابِهِ، واحرِصُوا عَلَى أَجْرِهِ سبحانه وثَوَابِهِ، بِالصِّيَامِ والقِيَامِ، والإِنْفَاقِ عَلَى الفُقَراءِ والمُحتَاجِينَ والأَيتَامِ، فَإِنَّكُم فِي أَيَّامٍ ثَوَابُها عَظِيمٌ، ولَيَالٍ قَدْرُهَا جَسِيمٌ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا أيُّهَا المُسلِمُونَ:
   يَتَفَضَّلُ رَبُّنَا عَلَى عِبَادِهِ بِنَفَحَاتِ الخَيْرَاتِ ومَوَاسِمِ الطَّاعَاتِ، فَيَغْتَنِمُ الصَّالِحُونَ نَفَائِسَها، ويَتَدَارَكُ الأَوّابُونَ أَوَاخِرَهَا، لَيالٍ مُبَارَكَة أَوشَكَتْ عَلَى الرَّحِيلِ، لَيَالِي شَهْرٍ كَرِيمٍ، أَبْوَابُ الجِنَانِ فِيهِ مُفَتَّحَةٌ، وأَبْوَابُ النَّارِ فِيهِ مُغْلَقَةٌ، والشَّيَاطِينُ فِيهِ مُصَفَّدَةٌ، العَشْرُ الأَخِيرَةُ مِنْهُ تَاجُ اللَّيَالِي، كَانَ نَبِيُّنََا -صلى الله عليه وسلم- إِذَا دَخلَتْ أَحيَا ليلَهُ وأَيقَظَ أَهلَهُ وشَدَّ مِئزَرَه، فَعَنْ أُمِّ المُؤمِنِينَ عَائِشةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَنَّهَا قَالَتْ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَجتََهِدُ فِي رَمَضانَ مَا لاَ يَجتَهِدُ فِي غَيْرِهِ، وفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ مَا لاَ يَجتَهِدُ فِي غَيْرِها))، وقِيامُ اللَّيلِ مِنْ أَفْضَلِ الأَعمَالِ، ومِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الجِنَانِ، فَقَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((يَا أَيُّها النَّاسِ: أَفْشُوا السَّلامَ، وأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وصَلُّوا بِاللَّيلِ والنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَنََّةَ بِسَلامٍ))، ولَيَالِي رَمضَانَ مُبَشَّرٌ مَنْ قَامَها بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا واحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِهِ))، وفِي كُلِّ لَيلَةٍ سَاعَةُ إِجَابَةٍ، الأَبْوَابُ فِيهَا تُفتَحُ، والكَرِيمُ فِيهَا يَمنََحُ، فَسَلُوا –عِبَادَ اللهِ- فِيهَا مَا شِئتُم فَالمُعْطِي عَظِيمٌ، وأَيقِنُوا بِالإِجَابةِ فَالرَّبُّ كَرِيمٌ، وبُثُّوا إِلَيْهِ شَكْوَاكُم فَإِنَّهُ الرَّحمَنُ الرَّحِيمِ، وارفَعَوا إِلَيْهِ أَكُفَّكُّم فَهُوَ السّمِيعُ البَصِيرُ، ورَدَ عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ فِي اللّيْلِ لسَاعَةً لاَ يُوافِقُها رَجُلٌ مُسلِمٌ يَسْأَلُ اللهَُ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنيا والآخِرَةِ إِلاَّ أَعطَاهُ إِيَّاهُ، وذَلِكَ كُلَّ لَيلَةٍ))، ونَسَماتُ آخرِ الليلِ مَظِنَّةُ إِجابَةِ الدَّعَواتِ، قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- : أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَع؟ قَالَ: ((جَوفُ اللّيلِ الأَخِيرِ، ودُبُرُ الصَّلَواتِ المَكُتُوبَاتِ))، فارغَبُوا إِلى رَبِّكُم بِالطَّاعة، وداوِمُوا عَلَى ذِكْرِهِ قَدْرَ الاستِطَاعَةِ، وأكْثِروا مِنَ الدُّعَاءِ فِي سَاعَاتِ الإِجَابَةِ، فَتِلْكَ لَحَظَاتٌ تُغتَنَم، فَالعَبْدُ إِذَا قَرُبَ مِنْ رَبِّهِ لَطَفَ اللهُ بِهِ، وسَاقَ إِلَيْهِ الإِحسَانَ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُ، وعَصَمَه مِنَ الشَّرِّ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحتَسِبُ، ورَفَعَه إِلَى أَعلَى المَرَاتِبِ بِأَسْبَابٍ لاَ تَكُونُ مِنَ العَبْدِ عَلَى بَالٍ، وقَدْ سَأَلَتْ أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضيَ اللهُ عَنها- رَسُولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عَمَّا تَقُولُه إذَا وَافَقَتْ لَيلةَ القدرِ فقالَ لها -صلى الله عليه وسلم-: ((قُولي: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌ كَرِيمٌ تُحِبُ العَفوَ فاعفُ عَنِّي)).
   فاتقوا اللهَ -عبادَ الله-، واحرِصُوا على هَذا الأَجْرِ العَظِيمِ، وتَضَرُّعوا إلى رَبِّكمُ الكريمِ، تُغفَرْ ذنوبُكم، وتُرفَعْ عندَ اللهِ دَرجاتُكم، وتُيَسَّرْ أمورُكم، وتَصلح أُسرُكم ومجتمعاتكم، ويبارِكِ اللهُ في أموِالكم وذُرِّياتِكم.
                                            
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (11).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
                                            
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
                                            
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
                                            
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
                                            
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
                                            
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة لقمان /33 .
(2) سورة القدر / 1 .
(3) سورة القدر / 1 .
(4) سورة فصلت / 41-42 .
(5) سورة غافر / 2 .
(6) سورة فصلت / 2 .
(7) سورة القدر / 2 .
(8) سورة الدخان / 3-6 .
(9) سورة البقرة / 185 .
(10) سورة القدر / 5 .
(11) سورة الأحزاب / 56 .