وَقْفَةٌ في خِتَامِ الشَّـهْـرِ الكَـريم
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
10/10/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 30 رمضان 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
وَقْفَةٌ في خِتَامِ الشَّـهْـرِ الكَـريم
    الحَمْدُ للهِ الذِي أَكْرَمَنا بِصيامِ رَمضَانَ وقِيَامِهِ، ومَتَّعَنَا بِلَيَاليهِ وأَيَّامِهِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، سُبْحَانَهُ بِعَونِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وبِرَحْمَتِهِ يَغْفِرُ السَّيِّئَآتِ، وبِفَضلِهِ يُضَاعِفُ الحَسَنَاتِ، وبِكَرَمِهِ يَرفَعُ الدَّرَجَاتِ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُه،ُ أَرْسَلَهُ هَادياً وبَشِيراً، ومُرشِداً ونَذِيراً، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَيْهِ وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ ومَنْ تَبِعَهُ بِإِحسَانٍ إِلى يَوْمِ الدِّينِ.  أَمَّا بَعْدُ،((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) (1)، واعلَمُوا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ اللهَ أَكْرَمَكُمْ بِكَرَامَةٍ عَظِيمَةٍ، أَلاَ وهِيَ صِيَامُ شَهْرِ رَمضانَ وقِيَامُهِ، فَكَمْ مِنْ رَاغِبٍ فِي صِيَامِهِ لَمْ يَبلُغْهُ، وكَمْ مِنْ مُتَعَطِّشٍ إِليهِ لَمْ يُدْرِكْهُ، فَطُوبَى لَكُم مَا أَكْرَمَكُم بِهِ اللهُ مِنْ رَفِيعِ الدَّرَجَاتِ، وهَنِيئاً لَكُمْ مَا مَـنَّ بِهِ عَلَيكُم مِنْ مَحْوِ السَّيِّئاتِ، وحُقَّ لَكُم أَنْ تَقِفُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَقْفَةَ مُتَذَكِّرٍ حزِينٍ عَلَى فِرَاقِ هَذَا الشَّهْرِ الكَرِيمِ الذِي لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ، ولا يَخْلُقُ قَدِيمُهُ وحَدِيثُهُ، إِنَّّهُ شَهْرُ رَمضَانَ الذِي مَضَى وقَدْ عُمِرَتْ أَيَّامُهُ ولَيَالِيهِ بِالصَّالِحَاتِ والخَيْرَاتِ؛ بِالصِّيامِ والقِيَامِ وتِلاَوَةِ القُرآنِ، وبِالبِرِّ والنَّدَى والإِحسَانِ، مَضَى وقَدْ كُنَّا بِالأَمْسِ القَرِيبِ نَتَشوَّقُ لِلقَائِهِ، ونَتَطَلَّعُ لِنُورِهِ وبَهَائِهِ، ونَتَمنَّى أَنْ لَوْ طَالَ، ومَا تَصَرَّمَ كَطَيفِ الخَيَالِ، وفِي هَذِه الأَيَّامِ المُتْرَعَةِ بِالسُّرورِ، والمُفْعَمَةِ بِالبَهْجَةِ والحُبُورِ، تَجنُونَ غِرَاسَكُمُ الطَّيِّبَ، فَاجعَلُوا مِنْ لَحظَةِ وَدَاعِكُم لِلشَّهْرِ الكَرِيمِ إِيذَاناً بِالعَوْدَةِ الصَّادِقَةِ إِلى التَّسَابُقِ فِي مَيَادِينِ العِبَادَةِ، والإِكْثَارِ مِنْهَا والزِّيَادَةِ، اقتِداءً بِحَالِ المُصْطَفَى (، ونُقْطَةَ استِئْنَافٍ لاستِجَاشَةِِ مَكْنُونَاتِ النُّفُوسِ وطَاقَاتِها، وتَحْوِيلِها مِنَ الغَفْلَةِ والاختِلاَفِ، إِلى اليَقَظَةِ والاتِّحَادِ والائتِلاَفِ، واستِنْهَاضِ القِيَمِ النَّبِيلَةِ الزَّاكِيَةِ، والمُثُلِ العُلْيَا الرَّاقِيَةِ، وارغَبُوا إِلى اللهِ فِي قَبُولِ العَمَلِ، وتَحقِيقِ جَمِيلِ الظَّنِّ والأَمَلِ.
  أَيُّهَا المُسْلِمُونَ:
  لَقَدْ يَسَّرَ اللهُ طُرُقَ الخَيْرَاتِ، وتَابَعَ لِعِبادِهِ مَوَاسِمَ الحَسَناتِ، ورَبُّنَا وَحْدَهُ هُوَ مُصَرِّفُ الأَيَّامِ والشُّهُورِ، قَالَ تَعَالَى: ((يُولِجُ ?لَّيلَ فِى ?لنَّهَارِ وَيُولِجُ ?لنَّهَارَ فِى ?لَّيلِ)) (2) ، لَقَدْ جَعَلَ اللهُ فِي تَعَاقُبِ اللَّيلِ والنَّهَارِ عِبْرَةً لأُولِي الأَلْبَابِ، وذِكْرَى لِمَنْ آمَنَ بِاللهِ ويَوْمِ الحِسَابِ، ورَغِبَ مِنَ اللهِ فِي عَظِيمِ الأَجْرِ وجَزِيلِ الثَّوَابِ، قَالَ تَعَالَى: ((إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ )) (3) ، كَمَا جَعَلَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً، ولِكُلِّ عَمَلٍ حِسَاباً، وجَعَلَ الدُّنيَا سُوقاً يَغْدُو فِيها النَّاسُ ويَرُوحُونُ، فَبَائعٌ نَفْسَهُ فَمُعتِقُها أَوْ مُوبِقُها، والأَيَّامُ أَجزَاءٌ مِنَ العُمْرِ، ومَرَاحِلُ فِي الطَّريقِ تَفْنَى يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ، وقَدْ مَضَتْ بِنَا لَيالٍ غُرٌّ بِفَضَائِلِها ونَفَحَاتِ رَبِّها، وكَأنّهَا ضَرْبُ خَيَالٍ، لَقَدْ قَطَعَتْ بِنَا مَرْحَلَةً مِنْ حَيَاتِنَا لَنْ تَعُودَ، هَذَا هُوَ شَهْرُكُم، وهَذِهِ هِيَ نِهَايَتُهُ، كَمْ مِنْ مُستَقْبِلٍ لَهُ لَمْ يَستَكمِلْهُ، وكَمْ مِنْ مُؤمِّلٍ أَنْ يَعُودَ إِلَيهِ لَمْ يُدْرِكْهُ، ومَا الحَيَاةُ إِلاَّ أَنْفَاسٌ مَعْدُودَةٌ، وآجَالٌ مَحْدُودَةٌ، وإِنَّ عُمْراً يُقَاسُ بِالأَنْفَاسِ لَسَرِيعُ الانصِرَامِ، فَالأَيَّامُ تُطْوَى، والأَعْمَارُ تَنْقَضِي وتَفْنََى، فوَدِّعُوا شَهْرَكَمْ بِكَثْرَةِ الإِنَابَةِ والاستِغْفَارِ، والدُّعَاءِ والقِيَامِ للهِ فِي دُجَى الأَسْحَارِ، فَفِي ذَلِكَ كُنُوزٌ غَالِيَةٌ، وسَلُوا الكَرِيمَ جَنَّتَهُ العَالِيَةَ، فَخَزَائِنُهُ مَلأَى ويَدَاهُ سَحَّاءُ، واستِنْزِلُوا بَرَكةَ أَمْوَالِكُمْ بِالصَّدَقَةِ، وحَصِّنوهَا بِالزَّكَاةِ، وكُونُوا لِلقُرآنِ مِنَ التَّالِينَ، وإِنْ استَطَعتُم أَنْ لاَ يَسْبِقَكُمْ إِلى اللهِ أَحَدٌ فَافْعَلُوا، قَالَ تَعَالَى:((سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ))(4)، وَقِفُوا مَعَ أَنْفُسِكُم وأَعْمَالِكُم؛ فَالرَّشِيدُ مَنْ وَقَفَ مَعَ نَفْسِهِ وَقْفَةَ حِسَابٍ وعِتَابٍ، يُصَحِّحُ مَسِيرَتَها ويَتَدَارَكُ زَلَّتَها، وأَفْضَلُ ذَوِي العُقُولِ مَنْزِلةً أَدْوَمُهُمْ لِنَفْسِهِ مُحَاسَبَةً، والسَّعيِدُ مَنِ استَوْدَعَ صَالِحاً مِنْ عَمَلِهِ، والشَّقِيُّ مَنْ شَهِدَتْ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ بِقَبِيحِ زَلَلِهِ، والطَّاعَةُ لَيْسَ لَها زَمَنٌ مَحْدُودٌ، ولاَ لِلعِبَادَةِ أَجَلٌ مَعْدُودٌ، قَالَ تَعَالَى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (5) ، ويَجِبُ أَنْ تَسِيرَ النُّفُوسُ عَلَى نَهْجِ الهُدَى والرَّشَادِ بَعْدَ رَمَضَانَ، فَعِبَادَةُ رَبِّ العَالَمِينَ لَيْسَتْ مَقْصُورَةً عَلَى رَمَضَانَ، ولَيْسَ لِلعَبْدِ مُنْتَهىً مِنَ العِبَادَةِ دُونَ المَوْتِ، وبِئْسَ القَوْمُ لاَ يَعْرِفُونُ اللهَ إِلاَّ فِي رَمضَانَ.
         
  أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
  إِنَّ لِلقَبُولِ والرِّبحِ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلاَمَاتٍ، ولِلخَسَارَةِ والرَّدِّ أَمَارَاتٍ، وإِنَّ مِنْ عَلاَمَةِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعلَ الحَسَنَةِ بَعْدَها، ومِنْ عَلاَمَةِ السَّيِّئةِ السَّيِّئةَ عَلَى إِثْرِها، فَأَتْبِعُوا الحَسَناتِ بِالحَسَناتِ تَكُنْ عَلاَمةً عَلَى قَبُولِها، وأَتْبِعُوا السَّيِّئاتِ بِالحَسَناتِ تَكُنْ كَفَّارَةً لَها ووِقَايَةً مِنْ خَطَرِها، قَالَ جَلَّ وعَلاَ: (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّـيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ))(6)، وَيقُولُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: ((اتّقِ اللهَ حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ))، فَاللهُ يَرْضَى عَمَّنْ أَطَاعَهُ فِي أَيِّ شَهْرٍ كَانَ، ويَغْضَبُ عَلَى مَنْ عَصَاهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وآنٍ، ومَدَارُ السَّعَادَةِ فِي طُولِ العُمْرِ وحُسْنِ العَمَلِ، يَقُولُ المُصْطَفَى -صلى الله عليه وسلم-:((خَيْرُ النَّاسِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ وصَلَحَ عَمَلُهُ))، ومُدَاوَمَةُ المُسلِمِ عَلَى الطَّاعَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْرِها عَلَى زَمَنٍ مُعَيَّنٍ أَوْ شَهْرٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَانٍ فَاضِلٍ مِنْ أَعظَمِ البَرَاهِينِ عَلَى القَبُولِ وحُسْنِ الاستِقَامَةِ، وإِذَا انقَضَى مَوْسِمُ رَمَضَانَ فَإِنَّ الصِّيَامَ لاَ يَزَالُ مَشْرُوعاً فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ، فَقَدْ أَوصَى نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-أَبَا هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِصِيامِ ثَلاَثةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وقَالَ: ((صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ كصَوْمِ الدَّهْرِ كُلِّهِ))، كَمَا سَنَّ -صلى الله عليه وسلم-لأُمَّتِهِ إِتْبَاعَ صِيامِ رَمَضَانَ بِصِيامِ سِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ صَامَ رَمضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتّاً مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كِصِيَامِ الدَّهْرِ))، وَلَئِنِ انقَضَى قِيَامُ رَمَضَانَ فَإِنَّ قِيَامَ اللَّيلِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ لَيلَةٍ مِنْ لَيَالِي السَّنَةِ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصفِ عِبَادِهِ المُؤمِنينَ فِي رَمضَانَ وغَيْرِهِ: ((وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)) (7)، وقَالَ سُبْحَانَهُ: ((الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُستَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ)) (8)، وأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ أَدْوَمُها وإِنْ قَلَّ، ومَنْ أَصلَحَ مَا بَينَهُ وبَيْنَ اللهِ أَصلَحَ اللهُ مَا بَينَهُ وبَيْنَ الخَلْقِ، فَلْنَحْذَرِ المَعَاصِيَ بَعْدَ شَهْرِ الغُفْرَانِ، فَالعَاصِي فِي شَقَاءٍ، والخَطِيئَةُ تُذِلُّ الإِنسَانَ وتُخْرِسُ اللِّسَانَ، وإِنَّ الرَّجُلَ يُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ، وأَقْبِحْ بِالذَّنْبِ بَعْدَ الطَّاعَةِ، والبُعْدِ عَنِ المَولَى بَعْدَ القُرْبِ مِنْهُ، وتَذَكَّرُوا وأَنْتُم تُوَدِّعُونَ شَهْرَكَم سُرْعَةَ مُرورِ الأَيَّامِ، وانقِضَاءِ الأَعْوَامِ، فَإِنَّ فِي مُرورِها وسُرْعَتِها عِبْرَةً لِلمُعتَبِرِينَ، وعِظَةً لِلمُتَّعِظِينَ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ)) (9) ، والعُمْرُ فِي هَذِه الحَيَاةِ الدُّنْيا فُرْصَةٌ لاَ تُمنَحُ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَإِذَا مَا ذَهَبَتْ هَذِه الفُرْصَةُ وَوَلَّتْ، فَهَيْهَاتَ أَنْ تَعُودَ مَرَّةً أُخْرَى، عَنْ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزِيزِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللَّيلَ والنَّهَارَ يَعْمَلانِ فِيكَ، فَاعْمَلْ أَنْتَ فِيهِما))، وقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَا نَدِمْتُ عَلَى شَيءٍ نَدَمِي عَلَى يَوْمٍ غَرَبَتْ شمْسُهُ، نَقَصَ فِيهِ أَجَلِي ولَمْ يَزِدْ فِيهِ عَمَلِي))، واختِمُوا شَهْرَكَمْ بِالاستِغْفَارِ والتَّوْبَةِ، فَإِنَّ الاستِغْفَارَ خِتَامُ الأَعمَالِ الصَّالِحَةِ، وَقَدْ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-فِي آخِرِ عُمْرِهِ: (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً)) (10) .
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ عِبَادَةَ الإِنسَانِ للهِ تَعَالَى مَطْلَبٌ مُتَّصِلٌ، ووَاجِبٌ عَلَى العَبْدِ لاَ يَنْفَصِلُ، يُلاَزِمُ الإِنسَانَ طُولَ حَيَاتِهِ، ويَنْتَفِعُ بِهِ فِي حَيَاتِهِ وبَعْدَ مَمَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: ((قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))(11)، فَالعِبَادَةُ لاَ تَقْتَصِرُ عَلَى شَهْرٍ دُونَ غَيْرِهِ، ولاَ وَقْتٍ دُونَ سِواهُ، ولاَ ظَرفٍ دُونَ مَا عَدَاهُ، ولِتَأْصِيلِ هَذِهِ الحَقِيقَةِ فِي النَّفْسِ، وتَأَكِيدِ هَذَا المَعنَى فِي الحِسِّ، شَرَعَ اللهُ يَوْمَ العِيدِ بَعْضَ العِبَادَاتِ، وأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِبَعْضِ الطَّاعَاتِ، وحَثَّ عَلَى بَعْضِ القُرُبَاتِ، لِتَكُونَ بِمَثَابَةِ تَأكِيدِ العَبْدِ بِصِلَةِ عَهْدِهِ مَعَ اللهِ، فَشَرَعَ صَلاَةَ العِيدِ فِي صَبِيحَةِ يَوْمِ الفِطْرِ، وحَثَّ فِيهِ عَلَى الشُّكْرِ، وأَمَرَ بِالتَّكْبِيرِ والذِّكْرِ، لِلَفْتِ الانتِبَاهِ، إِلى أَهَمِّيَّةِ الصَّلاَةِ، ومَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ اللهِ، قَالَ تَعَالَى: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)) (12) ، وأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَدَاءِ صَلاَةِ العِيدِ فِي جَمَاعَةٍ، تَأكِيداً لِلحِرْصِ عَلَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الأَوقَاتِ قَدْرَ الاستِطَاعَةِ، كُلُّ ذَلِكَ تَعظِيماً للهِ، وشُكْراً لَهُ عَلَى التَّمَامِ، قَالَ عَزَّ وجَلَّ: ((وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (13)، وتَقْويَةً لِمَبْدأِ التَّكَافُلِ فِي المُجتَمَعِ الإِسلاَمِيِّ، وتَشْجِيعاً لِلتَّعَاوُنِ فِي الجَمْعِ الإِيمَانِيِّ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-أُمَّتَهُ بِزَكَاةِ الفِطْرِ، فَعَن عَبْدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: ((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ الَّلغْوِ والرَّفَثِ، وطُعْمَةً لِلمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبلَ الصَّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ))، وهِيَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كَونِها يَسِيرَةً فِي مِقْدَارِهَا، ولَكَنَّها جَلِيلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي مَعنَاهَا، فَهِيَ تَقْوِيَةٌ لِمَا تَأَصَّلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ مَعَانِي النُّبلِ والكَرَمِ، والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ فِي نُفُوسِ المُؤمِنينَ، وفِيَها لَفْتٌ لانتِبَاهِهِم إِلى المُحتَاجِينَ مِنْ إِخْوَانِهِم، فَلاَ يَشْغَلُهُم عَنْهُم فَرَحٌ ولاَ عِيدٌ، بَلْ يَحْرِصُ كُلُّ فَردٍ مِنْهُم عَلَى إِسعَادِ أَخِيهِ ومُوَاسَاتِهِ، ومُشَارَكَتِهِ فِي فَرحِتهِ ومُعَانَاتِهِ، فَاهنئُوا -عِبَادَ اللهِ- بِيَوْمِ عِيدِكُمُ السَّعِيدِ، واسْعَوا فِيهِ عَلَى أولاَدِكُمْ وأَهلِيكُم، فَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ: ((خَيْرُ مَالِ المَرْءِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى أَهلِهِ))، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ ولاَ تَبذِيرٍ، ولاَ شُحٍّ أَو تَقْتِيرٍ، فَإِنَّ خَيْرَ الأُمُورِ الوَسَطُ، والإَسرَافُ مَذْمُومٌ، وصَاحِبُهُ مِنْ أَجْرِ الإِنفَاقِ مَحْرُومٌ، سَواءٌ كَانَ فِي المَلْبَسِ أَو المَأكَلِ، أَو المَشْرَبِ أَو غَيْرِهِ مِنْ أُمُورِ الحَيَاةِ، قَالَ تَعَالَى: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ )) (14).
   فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ -، واقتَفُوا سُنَّةَ نَبِيِّكُم -صلى الله عليه وسلم-فِي صَوْمِكُم وفِطْرِكم، وفَرَحِكُم وأَيَّامِ عِيدِكُم؛ تُفْلِحُوا ويُبَارِكِ اللهُ لَكُمْ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (15).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الحشر / 18 .
(2) سورة الحج / 61 .
(3) سورة يونس / 6 .
(4) سورة الحديد /21 .
(5) سورة الحجر / 99.
(6) سورة هود / 114 .
(7) سورة الفرقان / 64 .
(8) سورة آل عمران / 17 .
(9) سورة النور / 44 .
(10) سورة النصر / 1-3 .
(11) سورة الحج / 61 .
(12) سورة الحج / 61 .
(13) سورة الحج / 61 .
(14) سورة الحج / 61 .
(15) سورة الأحزاب / 56 .