الـتوازُنُ فِي الإِسْلامِ |
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء | |
21/10/2007 | |
طبة الجمعة بتاريخ 7 شوال 1428هـ بسم الله الرحمن الرحيم الـتوازُنُ فِي الإِسْلامِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، جَعَلَ التَّوَازُنَ فِي الإِسْلاَمِ أَمْراً مَعلُوماً، ومَنْهَجاً مَرسُوماً، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيهِ، وَأُومِنُ بِهِ وأَتَوَكَّلُ عَلَيهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، أَمَرَ عِبَادَهُ بِالعَدلِ والإِحْسَانِ، وَجَعَلَ فِي التَّوَازُنِ صَلاَحَ حَيَاةِ الإِنْسَانِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ رَبُّهُ بِالهُدَى والنُّورِ، وزَانَهُ بِالتَّوَازُنِ فِي كُلِّ الأُمُورِ، اللَهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبَارِكْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ والتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : إِنَّ التَّوَازُنَ بِمَعنَاهُ العَامِّ يَعنِي الوَسَطِيَّةَ والاعتِدَالَ بَيْنَ خِيَارَيْنِ أَو بَدِيلَيْنِ مُتَاحَيْنِ ولَيْسَ بَيْنَ ضِدَّينِ، فَلاَ شَطَطَ فِي اتِّباعِ أيٍّ مِنَ الخَيَارَيْنِ، ولاَ إِفْرَاطَ فِي الأَخْذِ بِأَيٍّ مِنَ البَدِيلَيْنِ، والتَّوَازُنُ صِفَةُ مَدْحٍ لاَ قَدْحٍ، فَفِي مَقَامِ التَّقْدِيرِ والإِعْجَابِ يُذْكَرُ الفِكْرُ المُتَوازِنُ والرَّأيُ المُتَوازِنُ والشَّخْصُ المُتَوازِنُ، وفِي هَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ وبُرْهَانٌ سَاطِعٌ عَلَى مَا لِلتَّوَازُنِ فِي حَيَاةِ الإِنسَانِ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ، ومَا ذَلِكَ إِلاَّ لأَنَّهُ يَجْعَلُ لِحَيَاةِ الإِنسَانِ قِيمَةً، إِذْ يَضَعُهُ عَلَى سَبِيلٍ سَوِيٍّ وطَرِيقَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ، والفَرقُ وَاضِحٌ جَلِيٌّ بَيْنَ مُتَّزِنٍ فِي قَصْدِهِ، مُستَقِيمٍ فِي مَسلَكِهِ، وبَيْنَ مُتعَثِّرٍ يُعَانِي مِنَ المَشَقَّةِ والأَمْرِ العُضَالِ، فَالأَوَلُ مُهتَدٍ سَعِيدٌ، والثَّانِي عَنِ الهِدَايَةِ والسَّعَادَةِ نَاءٍ وبَعِيدٌ، الأَوَلُ يَصِلُ إِلى هَدَفِهِ لأَنَّهُ بِتَوفِيقِ اللهِ مَوْصُولٌ، والثَّانِي لاَ يَنْتَهِي إِلَى هُدىً ولاَ خَيْرٍ ولاَ وُصُولٍ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم))(1)، والجَوَابُ الأَكِيدُ بَلْ وَالوَحِيدُ هُوَ: مَنْ يَمشِي عَلَى طَرِيقٍ مُستَقِيمٍ سَوِيٍّ، ولِهَدَفٍ وَاضِحٍ جَلِيٍّ، أَهْدَى مِمَّنْ حَادَ عَنِ الجَادَّةِ، وانْحَرَفَ وسَارَ بِلاَ هَدَفٍ ولاَ غَايَةٍ. إِنَّ الشَّخْصَ المُتَوازِنَ إِنْ تَكَلَّمَ أَو عَمِلَ جَاءَ كَلاَمُهُ أَو عَمَلُهُ وكَأَنَّهُ مُقدَّرٌ بِميزانٍ دَقِيقٍ تَتَسَاوَى فِيهِ الكَفَّتَانِ، فَلاَ بَخْسَ لإِحْدَاهُمَا ولاَ نُقْصَانَ، ولاَ زِيَادَةَ ولاَ رُجْحَانَ، وفِي ظِلِّ هَذَا التَّوَازُنِ يَسلَمُ الإِنسَانُ مِنَ الانْحِرَافِ والشَّطَطِ، ويَسلُكُ السَّبِيلَ المُتَوَازِنَ الوَسَطَ، وهُوَ السَّبِيلُ الذِي أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ وأَنْزَلَ الكُتُبَ لِيَدُلَّ النَّاسَ عَلَيْهِ، ويَأُخُذَ بِأَيْدِيهم إِلَيْهِ؛ لِتَحقِيقِ العَدلِ المَنْشُودِ، والوُصُولِ إِلَى الهَدَفِ المَقْصُودِ، وفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّ فِي عُلاَهُ: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (2)، ويَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ)) (3) . عِبَادَ اللهِ : لَقَدْ وَجَّهَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ -لِمَعْرِفَةِ أَهَمِّيَّةِ التَّوَازُنِ وقِيمَتِهِ، ونَتَائِجِهِ وثَمَرَتِهِ- إِلَى التَّفَكُّرِ فِيمَا خَلَقَهُ سُبْحَانَهُ فِي الأَرْضِ التِي يَعِيشُونَ عَلَيْهَا ويَتَعيَّشُونَ مِنْهَا ومِمَّا يَنْبُتُ فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ، فَعَنْ طَرِيقِ هَذَا التَّفْكِيرِ يَصِلُونَ إِلَى نَتِيجَةٍ مَفَادُها أَنَّ التَّوَازُنَ فِي هَذِهِ الأَرْضِ مَوْجُودٌ، وهُوَ مَعنِيٌّ ومَقْصُودٌ، لِيَتَّخِذُوا مِنَ التَّوَازُنِ فِي كُلِّ أَعْمَالِهم وأَقْوَالِهم مَسْلَكاً وعَادَةً؛ فيُحقِّقوا لأَنْفُسِهمُ الرَّاحَةَ والسَّعَادَةَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)) (4) ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ بدِقَّةٍ وإِحكَامٍ، وتَرتِيبٍ ونِظَامٍ، وتَوَازُنٍ وتَقْدِيرٍ، لاَ مَثِيلَ لَهُ ولاَ شَبِيهَ وَلاَ نَظِيرَ، فَمَنْ أَرَادَ الفَوزَ والنَّجَاةَ، والابتِعَادَ عَنِ التَّخبُّطِ فِي كُلِّ صَوْبٍ واتِّجَاهٍ، فَلَيَنْظُرْ إِلَى خَلْقِ اللهِ المَوزُونِ، فَالنَّظَرُ والتَّفَكُّرُ عِبَادَةٌ وَعَدَ اللهُ أَصْحَابَها أَجْراً غَيْرَ مَقْطُوعٍ ولاَ مَمنُونٍ، إِنَّ الإِنسَانَ العَاقِلَ الرَّشِيدَ ذَا الفِكْرِ الثَّاقِبِ والرَّأيِ الصَّائِبِ يَعلَمُ عِلْماً لاَ يُخَالِطُهُ شَكٌّ، ولاَ يُقَارِبُهُ رَيْبٌ أَنَّ الإِفْرَاطَ أَوِ التَّفْرِيطَ، أَوِ المُغَالاَةَ أَوِ التَّقْصِيرَ لاَ يُقْدِمُ عَلَى أيٍّ مِنْها إِنْسَانٌ عَاقِلٌ بَصِيرٌ، لِمَا لَهَا مِنْ سُوءِ عَاقِبَةٍ وسُوءِ مَصِيرٍ، لَقَدْ جَاءَتْ نَظْرَةُ الإِسْلاَمِ إِلَى الحَيَاةِ نَظْرَةً مُتَوازِنَةً تَرْعَى الفِطْرَةَ الإِنسَانِيَّةَ، وتُهَذِّبُ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ، فَالنُّفُوسُ إِذَا تُرِكَتْ عَلَى هَوَاهَا انْقَلَبَتِ الحَيَاةُ إِلَى حَلَبَةِ صِرَاعٍ، فَانْقَلَبَتْ بِذَلِكَ الأُمُورُ وانْعَكَسَتِ الأَوْضَاعُ، لأَنَّ النَّفْسَ البَشَرِيَّةَ تَوَّاقَةٌ إِلَى حِيَازَةِ كُلِّ شِيءٍ، ولاَ تَقْبَلُ أَن يَمنَعَها أَحَدٌ مِنْ شَيءٍ، ولاَ تَسْمَحُ فِي نَفْسِ الوَقْتِ لِلآخَرِينَ بِشَيءٍ، فَيَأْتِي التَّوَازُنُ أَدَاةً لِتَهْذِيبِها، وَوَسِيلةً لِتَقْوِيمِها وتَأْدِيبِها، وَوضْعِها عَلَى الطَّرِيقِ النَّيِّرِ، وحَثِّها عَلَى العَمَلِ الطَّيِّبِ والسُّلُوكِ الخَيِّرِ، وبِذَلِكَ يُصْبِحُ الإِنسَانُ مَشْمُولاً بِالرَّحْمَةِ الإِلهِيَّةِ وَالمَغْفِرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (5) ، ومَنْ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى زَكَّى نَفْسَهُ فَطَهَّرَها مِنَ المَعَايِبِ، ونَقَّاها مِنَ المَثَالِبِ، ومَنْ تَحَقَّقَ لَهُ ذَلِكَ تَحَقَّقَ لَهُ الصَّلاَحُ، فَظَفَرَ بِالفَوزِ والفَلاَحِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا))(6)، فَلاَ شَيءَ كَالتَّوَازُنِ يُهذِّبُ النَّفْسَ ويُرَقِّيهَا، ويُطَهِّرُهَا مِنَ الشَّوائِبِ ويُنَقِّيها، فَلَولا التَّوَازُنُ لَتَطَرَّفتِ النَّفْسُ صُعُوداً فَكَانَ الظُّلْمُ والطُّغْيَانُ، أَو تَطَرَّفَتْ هُبُوطاً فَكَانَ الضَّعفُ والهَوانُ، وكِلاَ الأَمْرَيْنِ هَلاَكٌ وخُسْرَانٌ. عِبَادَ اللهِ : إِنَّ فِي التَّوَازُنِ والاعتِدَالِ، فِي كُلِّ أَمْرٍ وفِي كُلِّ مَجَالٍ، مَا يُحقِّقُ مَصلَحَةَ الفَرْدِ والجَماعَةِ، فَالإِسْلاَمُ بِتَوَازُنِهِ لاَ يَكْبِتُ رَغَبَاتِ الفَردِ ودَوَافِعَهُ لِيُحقِّقَ مَصلَحَةَ الجَمَاعَةِ، ولاَ يُطْلِقُ لَهُ نَزَواتِهِ لِيُؤذِي الجَمَاعَةَ، فَرَغَباتُ الفَردِ مَشْرُوعَةٌ لَكِنَّها إِنْ أَضَرَّتْ بِالآخَرِينَ أَصْبحَتْ مَحظُورَةً ومَمنُوعَةً، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ ضَررَ ولاَ ضِرَارَ))، وتَحقِيقاً لِلتَّوَازُنِ كَوَسِيلَةٍ لِتَهذِيبِ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ لَمْ يُحَرِّمِ الإِسْلاَمُ عَلَى النَّفْسِ الاستِمتَاعَ بِالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزقِ، ولَكِنْ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ واللَّحظَةِ ذَاتِها يَنْهَى عَنِ الإِسْرَافِ، لأَنَّهُ زَيْغٌ وانْحِرَافٌ، فَالاستِجَابَةُ لِكُلِّ مَا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وتَهْوَاهُ يُصْبِحُ بِهِ الإِنْسَانُ عَبْداً لِنَفْسِهِ وَهَواهُ، وَقَدْ وَرَدَ (( أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَابَلَ أَحَدَ الصَّحَابَةِ فَسَأَلَهُ عَنْ وِجْهَتِهِ؟ قَالَ: اشتَهَيْتُ كَذَا وذَاهِبٌ لِشِرَائِهِ؛ فَقَالَ عُمَرُ مُعَاتِباً: أَوكُلَّمَا اشتَهَيتُم اشتَرَيتُم)). إِنَّ النَّفْسَ تَتَمنَّى بِلاَ حُدودٍ، وتَشْتَهِي الشَّيءَ سَواءً أَكَانَ مَوْجُوداً أَو غَيْرَ مَوْجُودٍ، فَيَأْتِي التَّوَازُنُ لِيَحكُمَ زِمَامَها ويَشُدَّ لِجَامَها؛ لِتَقِفَ عِنْدَ حُدودَِ الاعتِدَالِ لاَ تَتَعدَّاهُ، وحُدودَِ القَصْدِ لاَ تَتَجَاوَزُهُ ولاَ تَتَخطَّاهُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)) (7) ، ومِنَ التَّوازُنِ الذِي يَجِبُ تَحقِيقُه التَّوَازُنُ بَيْنَ المَطَالِبِ الدُّنْيَويَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، ولَقَدْ كَانَ مِنَ الدُّعَاءِ الذِي وَاظَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، لأَنَّهُ دُعَاءٌ يُحَقِّقُ التَّوَازُنَ المُرَادَ بَيْنَ الدَّنْيَا والآخِرَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) (8) . فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ-، وزِنُوا أُمُورَكُم، تَسلَموا وتَربَحُوا وتَغْنَمُوا. أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ. *** *** *** الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ : إِنَّ التَّوَازُنَ مَطْلَبٌ مُلِحٌّ لِنَمَاءِ الاقتِصَادِ وازدِهَارِهِ، وتَعْدِيلِ وجْهَتِهِ ومَسَارِهِ، يَستَوي فِي ذَلِكَ اقتِصَادُ الفَرْدِ والجَمَاعَةِ، فَإِذَا وَازَنَ كُلُّ فَردٍ بَيْنَ دَخْلِهِ وخَرْجِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ سَيَنْعَكِسُ إِيجَاباً عَلَى المُجتَمَعِ، فَمَا المُجتَمَعُ إِلاَّ مَجْمُوعَةُ أَفْرَادٍ، إِذَا أَصلَحَ كُلُّ فَرْدٍ أَمْرَهُ صَلَحَ أَمْرُ الجَمِيعِ، إِنَّ المَرْءَ سَيَشْعُرُ حَتْماً بِالاطمِئنَانِ والرَّاحَةِ إِذَا تَصَرَّفَ فِي حَيَاتِهِ وِفْقَ إِمكَانِيَّاتِهِ المُتَاحَةِ، فَلاَ إِسْرَافَ ولاَ تَبذِيرَ، ولاَ شُحَّ ولاَ تَقْتِيرَ، وإِنَّمَا قَوَامٌ وَسَطٌ بَيْنَ ذَلِكَ، وَلَقَدْ وَصَفَ القُرآنُ الكَرِيمُ عِبَادَ الرَّحْمنِ بِعِدَّةِ صِفَاتٍ مِنْهَا تَوَازُنُهُم فِي الإِنْفَاقِ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعالَى: ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)) (9) ، ومِنَ التَّصَرُّفِ المَحْبُوبِ والتَّوَازُنِ المَطْلُوبِ الاعتِدَالُ بَيْنَ التَّمَتُّعِ بِالمَالِ وإِنْفَاقِهِ فِي أَوْجُهِ الخَيْرِ، وبَيْنَ الإِبقَاءِ عَلَى نِسْبَةٍ مَعقُولَةٍ لِلوَرَثَةِ، وعِنْدَمَا أَرَادَ سَعْدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يُوصِيَ بِمَالِهِ كُلِّهِ، قَالَ لَهُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ، قَالَ: فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَالثَّلْثُ؟ قَالَ: الثُّلْثُ، والثُّلْثُ كَثِيرٌ، إِنَّكَ إِنْ تَدَع وَرثَتَكَ أَغْنِياءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُم عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ)). إِنَّ العَاقِلَ المُتَوازِنَ هُوَ مَنْ يَجْعَلُ احتِيَاجَاتِهِ فِي حُدودِ قُدُرَاتِهِ، حَتَّى لاَ يَقَعَ فِي مُستَنْقَعِ الحَاجَةِ، فَيَذَلَّ ويَهُونَ ويَرْضَى بِالدُّونِ، ورُبَّمَا يَضْطَرُّ إِلَى السُّؤَالِ وهُوَ مَذَلَّةٌ وعَارٌ، أَو الاستِدَانَةِ والدَّيْنُ هَمٌّ بِاللَّيلِ وذُلٌّ بِالنَّهَارِ. ومِنْ مَجَالاتِ التَّوَازُنِ التَّوَازُنُ فِي الأَخْلاَقِ، ومَا دَامَتِ الفَضَيلَةُ وَسَطاً بَيْنَ رَذِيلتَيْنِ فَإِنَّ طَرَفَيْها اختِلاَلٌ، يَجِبُ عَدَمُ الوقُوعِ فِيهِ بِأَيِّ حَالٍ، وَلَقَدْ جَمَعَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الأَخْلاَقِ أَزكَاهَا، وأَرقَاهَا وأَسْمَاهَا، وكَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِ عَلَى سَوَاء، فَلاَ صِفَةَ تَطْغَى مِنْ صِفَاتِهِ عَلَى أُخْرَى، ولاَ خُلُقٌ فِيهِ يَرْبُو عَلَى آخَرَ، فَصِفَاتُهُ -صلى الله عليه وسلم- مُتَوازِنَةٌ فِيمَا بَينَها، كَمَا أَنَّ كُلَّ صِفَةٍ فِيهِ مُتَوَازِنَةٌ فِي حَدِّ ذَاتِها، فَاستَحَقَّ عَنْ جَدَارَةٍ أَنْ يَصِفَهُ رَبُّهُ بِقَولِهِ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ: ((وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (10) . فَاتَّقُوا اللهَ –عِبَادَ اللهِ-، واعلَمُوا أَنَّ التَّوَازُنَ سَبِيلُ الصَّلاَحِ، وطَرِيقُ الرُّقِيِّ والفَلاَحِ. هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))(11). اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ. اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ. عِبَادَ اللهِ : (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )). (1) سورة الملك / 22 . (2) سورة الحديد / 25 . (3) سورة الشورى / 17 . (4) سورة الحجرات / 19 . (5) سورة يوسف / 70-71 . (6) سورة الشمس / 9-10 . (7) سورة الاعراف / 31-32 . (8) سورة القصص / 77 . (9) سورة الفرقان / 67 . (10) سورة القلم / 4 . (11) سورة الأحزاب / 56 . |