أدَبُ الحِوارِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
01/11/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 21 شوال 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أدَبُ الحِوارِ
  الحَمْدُ للهِ الذِي خَلَقَ الإِنْسَانَ وعَلَّمَهُ البَيَانَ، ونَهَاهُ عَنِ اللَّغْوِ وأَمَرَهُ بِضَبْطِ الِّلسَانِ، سُبْحَانَهُ أَمَرَنَا بِاختِيارِ أَحْسَنِ الكَلِمَاتِ، وانتِقَاءِ أَفْضَلِ الجُمَلِ والعِبَارَاتِ، ونَهَانَا عَنِ المِرَاءِ ومَا لاَ يَحْسُنُ مِنَ المُجَادَلاتِ، أَحْمَدُهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأَومِنُ بِهِ وأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عُرِفَ بِصِدْقِ المَقَالِ، والبُعْدِ عَنِ الَّلغْوِ والجِدَالِ، -صلى الله عليه وسلم-  وَعَلَى آلهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ، والتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   لَقَدْ خَلَقَ اللهُ تَعَالَى لِلإِنْسَانِ قُدُرَاتٍ، ورَكَّبَ فِيهِ غَرَائِزَ وشَهَواتٍ، وَمِنْ لُطْفِهِ سُبْحَانَهُ أَنْ مَنَحَ الإِنْسَانَ عَقْلاً يَتَحَكَّمُ بِهِ فِي قُدُرَاتِهِ، ويَضْبِطُ بِه هَواهُ وشَهَواتِهِ، فَمَا الإِنْسَانُ إِلاَّ عَقْلٌ حَصِيفٌ ولِسَانٌ فَصِيحٌ؛ فبِالعَقْلِ يَحكُمُ الفِكْرَةَ، وبِالِّلسانِ يَضْبِطُ الَّلفْظَةَ، ومِنْ هُنَا عُنِيَ الإِسلاَمُ بِالحِوَارِ عِنَايَةً كُبْرَى، لأَنَّ الإِنْسَانَ مَيَّالٌ بِطَبْعِهِ وَفِطْرَتِهِ إِلَى الحِوَارِ وَالجِدَالِ، فَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى الإِنْسَانَ بِقَولِهِ سُبْحَانَهُ: ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)) (1) ، بَلْ إِنَّ صِفَةَ الجِدَالِ لَدَى الإِنْسَانِ فِي نَظَرِ الإِسْلاَمِ تَمتَدُّ إِلَى مَا بَعْدَ المَوْتِ، فَعَنْ يَوْمِ الحِسَابِ يَقُولُ الحَقُّ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ((يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)) (2)، وَقَدِ اعتَادَ النَّاسُ فِي مَجَالِسِهِمْ أَنْ يَتَنَاقَشُوا فِي أُمُورِهِمْ، وأَنْ يَتَجَادَلُوا فِي مَوْضُوعَاتٍ تَهَمُّهُمْ، إِلاَّ أَنَّ البَعْضَ يَجْهَلُ أُسلُوبَ النِّقاشِ وطَرِيقَةَ الجِدَالِ والحِوارِ، فَمَا أَحْرَى أَنْ نَتَبَيَّنَ الآدَابَ المَرْعِيَّةَ فِي ذَلِكَ، حَتَّى نَعُودَ بِالنَّتَائِجِ الإِيجَابِيَّةِ والعَوَاقِبِ الحَمِيدَةِ مِنْ نِقَاشِنَا ومُحَاوَرَاتِنَا.
  أَيُّها المُسلِمُونَ:
  الحِوَارُ -فِي أَبْسَطِ مَعَانِيهِ- المُرَادَّةُ والمُرَاجَعَةُ فِي الكَلاَمِ بَيْنَ طَرَفَيْنِ أَو عِدَّةِ أَطْرَافٍ، يَسْعَى بِهِ كُلُّ طَرَفٍ لِلتَّعَرُّفِ عَلَى وِجْهَةِ نَظَرِ الآخَرِ فِي أَمْرٍ مُعَيَّنٍ، لِيَصِلا إِلَى غَايَةٍ تَجْمَعُهُمَا مِنْ أَجلِ تَرْسِيخِ التَّفَاهُمِ والتَّوَادِّ بَيْنَ أَبنَاءِ المُجتَمَعِ، وَقَدْ وَضَعَ القُرآنُ الكَرِيمُ دَعَائِمَ أَسَاسِيَّةً لِلحِوَارِ وَالجِدَالِ فَقَالَ: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(3)، فَقَدْ فَرَّقَ القُرآنُ بَيْنَ المَطْلُوبِ فِي المَوْعِظَةِ والمَطْلُوبِ فِي الجِدَالِ، فَفِي المُوْعِظَةِ اكتَفَى القُرْآنُ الكَرِيمُ بِأَنْ تَكَونَ حَسَنَةً، أَمَّا فِي الجِدَالِ فَلَمْ يَرْضَ إِلاَّ أَنْ يَكَونَ بِالتِي هِيَ أَحْسَنُ، وسِرُّ ذَلِكَ أَنَّ المَوْعِظَةَ تَرْجِعُ عَادَةً إِلَى المُوافِقِينَ فِي الرَّأْيِ، المُلْتَزِمينَ بِالمَبْدأ والفِكْرَةِ، فَهُمْ لاَ يَحتَاجُونَ إِلاَّ إِلَى مَوْعِظَةٍ تُذَكِّرُهُم، وتُرَقِّقُ قُلُوبَهُم وتُقَوِّي عَزَائِمَهُم، عَلَى حِينِ يُوَجَّهُ الجِدَالُ عَادَةً إِلَى المُخَالِفِينَ، الذِينَ قَدْ يَدْفَعُ الخِلاَفُ مَعَهُم إِلَى شَيءٍ مِنَ القَسْوَةِ فِي التَّعْبِيرِ، أَوِ الخُشُونَةِ فِي التَّعَامُلِ، أَوِ العُنْفِ فِي الجَدَلِ، فَكَانَ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ يَطْلُبَ القُرآنُ اتِّخَاذَ أَحْسَنِ الطُرُقِ وأَمثَلِها لِلجِدَالِ حَتَّى يُؤْتِي أُكلَهُ.
 
   عِبَادَ اللهِ :
   لَقَدْ وَرَدَ لَفْظُ الجِدَالِ فِي تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ مَوْضِعاً مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، لِيَهتَدِيَ المُسلِمُ إِلَى الآدَابِ المَرْعِيَّةِ فِي ذَلِكَ، ويَسْتَطِيعَ أَنْ يَتَعَامَلَ مَعَ مُحَاوِرِهِ بِدِرَايَةٍ وحِكْمَةٍ، فَقَدِ امتَدَحَ القُرآنُ الحِوَارَ البَنَّاءَ الهَادِفَ الذِي يَرْمِي إِلَى النَّتَائِجِ الإِيجَابِيَّةِ فِي جَمِيعِ نَوَاحِي الحَيَاةِ، فَحينَ يَكُونُ الجِدَالُ نَاجِحاً ومُثْمِراً يَخْرُجُ الطَّرَفَانِ بِنَتِيجَةٍ لَها قِيمَتُها، قَالَ تَعَالَى: (( وَلا تُجَادِلُوا أَهلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(4)، وفِي القُرْآنِ سُورَةُ المُجَادَلَة، قَدَّمَتْ فِيها المَرأَةُ نَمُوذَجاً لِلجِدَالِ الهَادِفِ وهِيَ تَتَحاوَرُ مَعَ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-  فِي شَأْنِ زَوْجِهَا؛ فَأَثْنَى اللهُ عَلَيْها حَيْثُ قَالَتْ فَأَوْجَزَتْ، وحَكَتْ فَصَدَقَتْ، وحَاوَرَتْ فَتَأَدَّبَتْ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ )) (5) ، وَفِي المُقَابِلِ نَهَى اللهُ تَعَالَى عَنِ الجِدَالِ العَقِيمِ الذِي لاَ فَائِدَةَ مِنْهُ، أَو الذِي يَكُونُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ، أَوْ يَقْتَرِنُ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ وَمَعْصِيتِهِ، إِذْ هُوَ جِدَالٌ يُضَيِّعُ الأَوقَاتَ والحَسَنَاتِ، ولاَ يَجنِي المَرْءُ مِنْ قِبَلِهِ إِلاَّ السَّيِّئاتِ، قَالَ تَعَالَى: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ)) (6)، كَمَا أَنَّ الجِدَالَ قَدْ يَكُونُ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ لِيُوقِعَ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَولِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )) (7) .
     
  عِبَادَ اللهِ :
  إِنَّ لِلجِدَالِ وَالحِوَارِ أُصُولاً يَنْبَغِي اتِّبَاعُها، وقَوَاعِدَ يَنْبَغِي مُرَاعَاتُها لِيَنْجَحَ المُحَاوِرُ فِي مَسْعَاهُ، ويُحَقِّقَ مَقْصَدَهُ ومَرْمَاهُ، فَمِنْ آدَابِ الحِوَارِ وأُصُولِهِ إِخْلاَصُ النِّيَّةِ للهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ الهَدَفُ هُوَ الوصُولُ إِلَى الحَقِيقَةِ، فَالحَقُّ هَدَفُ العَاقِلِ وضَالَّةُ المُؤمِنِ أَنَّى وَجَدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَيَلْزَمُ مَنْ يُحَاوِرُ أَنْ يُحْسِنَ قَصْدَهُ، فَلاَ يَكُنْ هَمُّهُ الانتِصَارَ لِلنَّفْسِ، أَو الإِعْجَابَ بِهَا وإِظْهَارَ مَقْدِرَتِها وبَرَاعَتِها، وقَدْ كَانَ شِعَارُ الأَنْبِياءِ فِي حِوَارِ أَقْوَامِهِمْ -كَمَا حَكَى اللهُ عَلَى لِسَانِ بَعْضِهم-: (( إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصْلاحَ مَا استَطَعْتُ وَمَا تَوفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (8)، وَيَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوى))، وَقَدْ كَانَ أَحَدُ العُلَمَاءِ يَقُولُ: "مَا نَاظَرْتُ أَحَداً إِلاَّ وَدَدتُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَجْرَى الحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ"، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: "رَأْيِي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطَأَ، ورَأْيُ غَيْرِي خَطَأٌ يَحتَمِلُ الصَّوابَ"، كَمَا يَنْبَغِي عَلَى المُحَاوِرِ أَنْ يَفْهَمَ نَفْسِيَّةَ مَنْ يُخَاطِبُ، ويَتَبَيَّنَ مُستَواهُ العِلْمِيَّ، وقُدُرَاتِهِ الفِكْرِيَّةَ؛ لِيُخَاطِبَهُ بِحَسْبِ مَا يَفْهَمُ، يَقُولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكذَّبَ اللهُ ورَسُولُهُ؟))، وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: ((أُمِرْتُ أَنْ أُخَاطِبَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِم))، ومِنْ أَهَمِّ آدَابِ الحِوارِ أَن يُحْسِنَ المُحَاوِرُ الاستِمَاعَ لأَقْوَالِ الطَّرَفِ الآخَرِ، ويَتَفّهَمَها فَهْماً صَحِيحاً، وأَلاَّ يُقَاطِعَ مُحَاوِرَهُ، أَو يَعتَرِضَ عَلَيْهِ أَثْنَاءَ حَدِيثِهِ، وأَنْ يَبتَعِدَ عَنِ الَّلجَجِ، ورَفْعِ الصَّوْتِ، والفُحشِ فِي الكَلاَمِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((لَيْسَ المُؤمِنُ بِالَّلعَّانِ ولاَ بِالطَّعَّانِ، ولاَ الفَاحِشِ ولاَ البَذِيءِ))، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرو بنِ العَاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  فَاحِشاً ولاَ مُتَفَحِّشاً))، وَكَانَ -صلى الله عليه وسلم-  يَقُولُ: ((إِنَّ خِيَارَكُم أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقاً)).
  أَيُّهَا المُسلِمُونَ :
  إِنَّ المُتَأمِّلَ فِي آيِ القُرآنِ الكَرِيمِ يَجِدُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدَّمَ لَنا نَمَاذِجَ لِلحِوَارِ الهَادِفِ عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ ورُسُلِهِ -عَلَيْهِمُ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ-، فَجَميعُ الأَنْبِياءِ حَاوَرُوا أَقْوَامَهُم وجَادَلُوهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، رَغْمَ صَلَفِ المُعَارِضِينَ إِلاَّ أَنَّ الحِوَارَ بِالحُسنَى بَقِيَ شَاهِداً لِلأَنْبِياءِ عَلَى أَقْوَامِهم، وأُسْلُوباً عَمَلِيَّاً لِلدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَنا فِي إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ، حَيْثُ حَاوَرَ أَبَاهُ، وَإِلَى الحَقِّ دَعَاهُ، بِأُسُلوبٍ هَيْمَنَ عَليهِ الأَدَبُ واحتِرَامُ الوَالِدِ، فَقَدْ كَانَ يَستَجِيشُ عَاطِفَةَ الأُبُوَّةِ عِنْدَ أَبِيهِ؛ فيُعبِّرُ فِي جَمِيعِ مُحَاوَراتِهِ بِلَفْظِ: ((يَا أَبَتِ)) ، كَمَا جَعَلَ مِنْ تَواضُعِهِ لِلعِلْمِ حَقّاً عَلَى أَبِيهِ أَنْ يَتَّبِعَهُ لِيَهتَدِيَ إِلَى الصِّرَاطِ السَّوِيِّ المُستَقِيمِ فَقَالَ: ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً))(9)، وَأَرْجَعَ الكُفْرَ إِلَى الشَّيْطَانِ لاَ إِلَى النَّفْسِ لِيَمتَدِحَ فِيهِ الفِطْرَةَ السَّوِيَّةَ، وبِهَذَا يُقْنِعُهُ بِالبُعْدِ عَنِ العِصْيَانِ وَيَستَمِيلُهُ لِيَتَّبِعَ الحَقَّ، فَقَالَ: ((يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً )) (10) ، وَرَغْمَ هَذَا الأُسلُوبِ الفَرِيدِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَقِيَ مِنْ أَبِيهِ التَّهْدِيدَ وَالوَعِيدَ، لَكِنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- قَابَلَ المَوقِفَ بِحُسْنِ الخُلُقِ وجَمِيلِ التَّصَرُّفِ، فَأًلْقَى عَلَى أَبِيهِ السَّلاَمَ وَوعَدَهُ أَنْ يَستَغْفِرَ لَهُ، (( قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرنِي مَلِيّاً، قَالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً))(11)، وَهَذَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم-  يُعَلَّمُهُ القُرْآنُ بِأَنْ يُقدِّمَ نَمُوذَجاً رَائِعاً مِنْ نَمَاذِجِ الحِوَارِ مَعَ المُخَالِفِينَ، لِيَستَمِيلَهُم إِلَى الإِيمَانِ، وَيُقَرِّبَهُم مِنْ سَاحَتِهِ، ولاَ يَستَثِيرَ دَوَافِعَ الخُصُومَةِ وَحُبَّ الجَدَلِ فِي نُفُوسِهِم فَيَقُولَ: ((قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ))(12)، ثُمَّ يَتَجَنَّبُ إِغْضَابَ الآخَرِ لِيَسْتَطِيعَ أَنْ يُوْصِلَ إِلَيْهِ رَأْيَهُ، فَيَقُولُ: (( قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ))(13) ، فَهُوَ يَفْتَرِضُ فِي نَفْسِهِ التَّقْصِيرَ ولِذَلِكَ يُعبِّرُ بِقَولِهِ: ((أَجْرَمْنَا)) لِيَرْقَى بِالحِوَارِ عَنِ الأَهوَاءِ، ويَفْتَرِضَ فِي خَصْمِهِ الاجتِهَادَ لِيُقَرِّبَهُ مِنَ الإِنْصَافِ فَيُعبِّرَ بِقَوْلِهِ: (( تَعْمَلُونَ))، وبِهَذَا يَكُونُ قَدْ قَدَّمَ الحُجَّةَ وَأْظْهَرَ الحَقَّ، وَلَيْسَ أَحَدٌ سِوَى اللهِ يَفْصِلُ بَينَهُم، فَقَرَّرَ هَذِهِ الحَقِيقَةَ فَقَالَ: (( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ)) (14) .
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، واعْلَمُوا أَنَّ الحِوَارَ الهَادِفَ النَّبِيلَ، إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ أَقْرَبُ سَبِيلٍ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
  الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
  إِنَّ مَنْ ضَبْطِ النَّفْسِ أَنْ يَحفَظَ المَرْءُ لِسَانَهُ عَنِ الكَلاَمِ فِيما لاَ يُفِيدُ، وأَنْ يَتَجَنَّبَ الجِدَالَ العَقِيمَ الذِي يُورِثُ الضَّغَائِنَ، ويُوقِعُ العَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ، فَهُوَ مِنَ الَّلغْوِ الذِي يَجِبُ الاعرَاضُ عَنْهُ، لِهَذَا أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بِحِفْظِ الِّلسانِ وتَخَيُّرِ أَحْسَنِ الكَلاَمِ فَقَالَ: ((وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً))(15)، وَقَدْ بَشَّرَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  مَنْ تَرَكَ الجِدَالَ بِمَنْزِلَةٍ عَظِيمَةٍ فِي الجَنَّةِ فَقَالَ: ((أَنَا زَعِيمٌ -أَي ضَامِنٌ- بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقّاً))، كَمَا أَنَّ مِنْ ضَبْطِ النَّفْسِ أَلاَّ يَتَحَدَّثَ المَرْءُ فِيمَا لاَ يَعنِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيمَا لاَ يَعنِيهِ سَمِعَ مَا لاَ يُرْضِيهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَركُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ))، وَمِنْ أَدَبِ الحِوَارِ أَنْ يُفَكِّرَ المَرْءُ قَبلَ الكَلاَمِ، وَأَنْ يُخَطِّطَ قَبلَ الحِوَارِ، فَلاَ يُجَادِلُ فِي قَضِيَّةٍ إِلاَّ بَعْدَ أَنْ يَدْرُسَها ويُمَحِّصَها، ويَعْرِفَ أَدِلَّتَها وَيَطَّلِعَ عَلَى حَقِيقَتِها، كَي يَكُونَ نِقَاشُهُ مَبنِيّاً عَلَى عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ، ولاَ يَكُنْ تَعَنُّتاً ومِرَاءً ومُعَانَدَةً، فَإِنَّ مَنْ لاَ يَتَقَيّد بِأُصُولِ المُنَاظَرَةِ الهَادِئَةِ قَدْ يَضُرُّ غَيْرَهُ بِسُوءِ الظَّنِّ، أَو يُشِيعَ فِتْنَةً وهُوَ لاَ يَدْرِي، وَقَدْ حَذَّرَ القُرآنُ مِنْ هَذَا فَقَالَ: ((إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ)) (16).
  فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، والتَزِمُوا بِأَدَبِ الحِوَارِ، وابتَعِدوا عَنِ الجِدَالِ المَذْمُومِ، يَستَمِرُّ الحُبُّ بَينَكُم ويَدُومُ.
  هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (17).
  اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
  اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
 
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
              
  اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
  اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
  رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
  رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
  رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
  اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
  عِبَادَ اللهِ :
(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ)).
(1) سورة الكهف / 54 .
(2) سورة النحل / 111 .
(3) سورة النحل / 125.
(4) سورة العنكبوت / 46 .
(5) سورة المجادلة / 1 .
(6) سورة البقرة / 197 .
(7) سورة الأنعام / 121 .
(8) سورة هود / 88 .
(9) سورة مريم /43 .
(10) سورة مريم / 41- 47 .
(11) سورة مريم / 41- 47 .
(12) سورة سبأ / 24 .
(13) سورة سبأ / 25 .
(14) سورة سبأ / 26 .
(15) سورة الإسراء / 53 .
(16) سورة النور / 15 .
(17) سورة الأحزاب / 56 .