رِفْعةُُ الدَّرَجاتِ في إِصلاحِ الذَّاتِ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
12/12/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 5 ذي الحجة 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
رِفْعةُُ الدَّرَجاتِ في إِصلاحِ الذَّاتِ
   الحَمْدُ للهِ مَصْدرِ النِّعمِ الغامِرَةِ، والآلاءِ البَاطِنَةِ والظَّاهِرةِ، أَمَرَ عِبادَهُ بإِصلاَحِ الدُّنيا والآخِرةِ، سُبحانَهُ دَعاهُم للتَّوبَةِ والتَّخلُّصِ مِنَ العُيوبِ، وجَعلَ ذلكَ سَبِيلاً لتَزْكيَةِ النُّفوسِ وتَطْهيرِ القُلوبِ، أَحمدُه تعَالى بِما هوَ لهُ أَهلٌ مِنَ الحَمدِ وأُثنِي عَليهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتوكَّلُ عَليهِ، مَنْ يَهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لهُ، ومَنْ يُضْللْ فلاَ هَاديَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وصَفيُّهُ مِنْ خَلقِهِ ومُصطَفاهُ وحَبيبُهُ، طَهَّرهُ اللهُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ وزَكَّاهُ، وزَانَهُ بِكُلِّ خُلقٍ كَريمٍ وحَلاَّهُ، اللهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبَارِكْ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وَأصَحْابِهِ أجْمعينَ، والتَّابِعينَ لهُم بإِحسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الإِسْلامَ دِينٌ يَحُثُّ عَلى كُلِّ فَضِيلةٍ، ويَنْهى عَنْ كُلِّ رَذيلَةٍ، فَهوَ دِينٌ يَدْعو إِلَى مَكارِمِ الأَخْلاَقِ، ويُقدِّرُ كُلَّ قَولٍ وعَمَلٍ خَلاَّقٍ، فَتزكِيَةُ الأَخلاَقِ فِيهِ مُهمِّةٌ أَساسيَّةٌ أَصِيلَةٌ، مِنْ أَجْلِها بَعَثَ اللهُ رَسولَهُ -صلى الله عليه وسلم-؛ فأَكمَلَ اللهُ بِهِ دَعْوةَ الأَنبِياءِ وتَمَّم، يَقولُ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بُعثتُ لأُتمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاقِ))، ويَقولُ اللهُ سبْحانَهُ وتَعالَى: ((هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)) (1) ، ولَنْ يَكونَ لِلأَخلاَقِ الفاضِلَةِ استِقرارٌ وثَباتٌ، إِلاَّ إِذا تَخلََّى الإِنسَانُ عَنِ العُيوبِ ورَذائلِ الصِّفاتِ؛ فالتَّخلِيَةُ مُقدَّمةٌ عَلى التَّحلِيَةِ، ودَرءُ المَفاسِدِ مُقدَّمٌ عَلَى جَلْبِ المصَالِحِ، لذَلِكَ جَعَلَ الإِسلاَمُ اتِّقاءَ المَحارِمِ مِنْ أَعظَمِ أَلوانِ العِبادَةِ، بِهِ يَتحقَّقُ لِلإِنسَانِ الفَوزُ والنَّجاةُ والسَّعادَةُ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((اتَّقِ المَحارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ))، فَباتِّقاءِ المَحارِمِ تَبقى الصَّحِيفَةُ نَقيَّةً مِنَ التَّبِعاتِ، فَما أَتى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ وإِنْ قَلَّ يَكونُ عَظِيمَ الثَّمَراتِ كَثِيرَ البَرَكاتِ، أَمَّا إِذا تَراكَمَت عَلى القَلْبِ العُيوبُ والرَّذائلُ؛ فَقَد أَصبَحَ بَينَهُ وبَيْنَ ثِمارِ العَمَلِ الصَّالِحِ حَاجِبٌ وحَائلٌ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((الخُلُقُ الحَسَنُ يُذِيبُ الخَطايا كَما يُذِيبُ المَاءُ الجَليدَ، والخُلقُ السُّوءُ يُفْسِدُ العَمَلَ كَما يُفسِدُ الخَلُّ العَسَلَ)). إِنَّ الرَّذائلَ والعُيوبَ إِذا بَقيَتْ فِي النَّفسِ البَشرِيَّةِ دونَ إِزَالَةٍ وتَطْهيرٍ، كَانَ لبَقائها واستِقرارِها أَثرٌ خَطِيرٌ، حيثُ يَفشُو ضَررُها ويَتفاقَمُ خَطَرُها، فَلاَ يُغنِي عَمَلٌ صَالِحٌ عَنْ صَاحِبهِ شَيئاً، وربَّما أَودَتْ بِصاحبِها وأَورَدتْهُ النَّارَ، وإِنْ تَصَدَّقَ وقَامَ الليْلَ وصَامَ النَّهارَ، قِيلَ: ((يا رَسولَ اللهِ، إِنَّ فُلانَةً تُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِها وصَيامِها وصَدقتِها، غَيْرَ أَنَّها تُؤذِي جِيرانَها بِلسَانِها؟ فَقالَ: هِيَ فِي النَّارِ))، وعلَى العَكْسِ مِنْ ذَلِكَ مَنِ اتَّسَمَ خُلقُهُ بالعُلوِّ والرُّقِيِّ والسُّموِّ مَعَ أَنَّ عَملَهُ كََانَ بمقْدارِ، فَجَزاؤهُ جنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِها الأَنهارُ، قِيلَ: ((يا رَسولَ اللهِ، إِنَّ فُلاَنةً تُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صَلاتِها وصِيامِها وأَنَّها تَتصدَّقُ بِالأَثوارِ مِنَ الأَقْطِ -وهِيَ قِطَعٌ مِنَ اللبَنِ المُجفَّفِ- ولاَ تُؤذِي جِيرانَها بلسَانِها، قَالَ: هِيَ فِي الجنَّةِ))، إِنَّ بَيْنَ الإِيمانِ والأَخلاَقِ الحَسَنةِ ارتِباطٌ وثِيقٌ؛ فَإِنْ تَخلَّفَ أَحَدُهما تَنكَّبَ صَاحبُها السَّبِيلَ وضلَّ الطَّريقَ، ولقَد كَثُرَ النِّداءُ فِي القُرآنِ الكَريمِ بـ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) (2) ، ثُمَّ يَعقِبُ النِّداءَ العُلويَّ الكَريم أَمْرٌ بفَضيلَةٍ، أَو نَهيٌ عَنْ رَذيلَةٍ؛ ممَّا يُقدِّمُ الدَّليلَ والبُّرهانَ علَى ارتِباطِ الأَخلاَقِ بالإِيمانِ.
   عِبادَ الله :
   إِنَّهُ مِمّا لاَ شَكَّ فِيهِ ولاَ رَيبَ أَنَّهُ لاَ يَخلُو إنسَانٌ مِنْ خَطأ أَو عَيْبٍ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ)) وإِذا كَانَ الأَمرُ كَذلِكَ فَأكثرُ ما يَعيِبُ الإِنسَانَ عَدمُ إِصلاَحِ عُيوبِهِ، وعَدمُ التَّوبَةِ مِنْ ذُنوبِهِ، بِحيثُ يَبقى ذَلكَ العَيْبُ فِيهِ خُلُقا دَائماً ووصفاً لازِماً، لذَلِكَ وَجَبَ علَى كُلِّ إنسَانٍ أَنْ يَتخلَّصَ مِنْ عُيوبِهِ الشَّخصيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ مِنَ العَوائقِ لتَحقِيقِ ذَلِكَ هوَ عَدَمُ اعتِرافِ الإِنسَانِ بوجُودِ العَيْبِ فِيهِ، ومِنْ ثَمَّ فَهوَ لاَ يَعملُ علَى إِزالَتهِ، بَلْ إِنَّ بَعضَ النَّاسِ يَفعَلُ الشَّيءَ السَّيَّء القَبِيحَ، وهوَ يَحسَبُ أَنَّهُ حَسَنٌ وصَحِيحٌ، وهَؤلاءِ هُمُ الذِينَ وَصفَهمُ اللهُ فِي القُرآنِ بالخَيبْةِ والخُسْرانِ، يَقُول اللهُ تعَالَى: ((قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً))(3)، ويَقولُ جَلَّ شَأنُهُ: ((أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)) (4) ، وإِنَّ ممَّا يُساعِدُ الإِنسانَ علَى التَّخلُّصِ مِنْ عُيوبِهِ الذَّاتيَّةِ مَعرِفَتُهُ بأَسرارِ طَبيعَتهِ الإِنسَانيَّةِ، فَمَن عَرِفَ نَفسَهُ سَهُلَ علَيهِ التَّغلَّبُ علَى عُيوبِهِ، فَإِذا انضَمَّ إِلى مَعرِفَتهِ بنَفسِهِ مَضاءُ العَزيمَةِ وقوَّةُ الإِرادَةِ؛ تَحقَّقَ لهُ مَا أَرادَهُ.
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ مِنَ العُيوبِ التِي يُعانِي مِنْها بَعْضُ النَّاسِ الخَوفُ ممَّا يُخبِّؤهُ المُستَقبلُ مِنْ مُفاجآتٍ مُقلِقَةٍ وأَحداثٍ مؤرِّقةِ، وهَذا الشُّعورُ بالخَوفِ مِنَ الغَيْبِ هوَ خَطأٌ وعَيْبٌ، لأَنَّهُ يُصيبُ الإِنسَانَ بالتَّوتُّرِ ويُضفِي علَيهِ سَحابةً قاتِمةً مِنَ الكآبَةِ، لاَ لشَيءٍ وقَعَ لهُ أَو أَصابَهُ، بَلْ لمُجرَّدِ ظَنِّ بَعيدٍ عَنِ الحَقيقَةِ، أَظلَمَ علَيهِ سبِيلَهُ ولَبَس علَيهِ طَريقَهُ، ولَقَد نهَى اللهُ عَزَّ وجلَّ الإِنسَانَ عَنِ التَّعلُّقِ بالتَّخمِيناتِ والأَوهامِ، لأنَّها تَحولُ بَينهُ وبَينَ التَّقدُّمِ إِلَى الأَمامِ، فيُصَابُ بالجُمودِ ويَغْرَقُ فِي التِّيهِ والشُّرودِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) (5) ، ويَقولُ جَلَّ شأنُهُ: ((وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً)) (6) ، إِنَّ الاهتِمامَ بالمُستَقبلِ والتَّخطِيطَ لهُ أَمرٌ مَطلوبٌ، وتَصرُّفٌ مَرغوبٌ، وتَخْطِيطٌ مَحبُوبٌ، بَيْدَ أَنَّ الاهتِمامَ غَيْرَ الاغتِمامِ، فَمَنِ استَغرَقَ التَّفكِيرَ فِي غَدِه استِغراقاً يُنسِيهِ يَوْمَهُ؛ دَمَّرَ حَاضِرَه الذِي هوَ فيهِ، لِمُستَقبلٍ لاَ يَدري ما اللهُ فاعِلٌ فِيهِ، إِنَّ العَيْشَ فِي حُدودِ اليَوْمِ مَعَ التَّخطِيطِ للغَدِ فِي حُدودِ الطَّاقَةِ يَجعَلُ الإِنسانَ سَعِيدَ الحَالِ، مُستريحَ البَالِ، مُتخفِّفاً مِنَ الأَعْباءِ الثِّقالِ، وبِذلِكَ يَستطِيعُ مواصَلةَ المَسارِ، دونَ تَعرُّضٍ لكَبْوةٍ وعِثارٍ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-: ((مَنْ بَاتَ آمِناً فِي سِرْبِهِ، مُعافىً فِي بَدنِهِ، عندَهُ قُوتَ يَوْمِهِ؛ فَكأنَّما حِيزَتْ لهُ الدُّنيا بِحذافِيرِها))، إِنَّ الرَّسولَ -صلى الله عليه وسلم-يُبيِّن أَنَّ الأَمانَ وعَافِيةَ الأَبدانِ وكفايَةَ يَوْمٍ، ضَمانٌ لسَعادَةِ اليَقظَةِ وهُدوءِ النَّومِ؛ فَمَن ضمَّ هَذهِ العَناصِرَ إِليهِ؛ جَمَعَ الدُّنيا بأسْرِها بَينَ يَدْيِهِ، ومِنَ الخَطأ الذِي يَجْلِبُ للمَرءِ الضَّوائقَ، ويَسُدُّ أَمامَهُ الطَّرائقَ، الخَوْفُ مِنَ الفَقْرِ دونَ جُهْدٍ وحَركَةٍ، يُحقِّقُ الخَيْرَ والبَركَةَ، ولَنْ يُذْهِبَ هَذا الخَوفُ ويُصلِحَ هَذا الخَطأُ بالتَّمنِّي والكَسَلِ، بَلْ بالنَّشاطِ والعَمَلِ، فَالرِّزقُ لاَ يأتِي دونَ طَرْقٍ لأَسبابِ وصولِهِ، وضَمانٍ لكَسْبهِ وحُصولِهِ، يُقولُ اللهُ تَعالَى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)) (7) .
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ مِنَ العُيوبِ الشَّخصيَّةِ الانطِوائيَّةُ والانعِزاليَّةُ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَنطَوي علَى نَفسِهِ ويَنعَزلُ عَنْ مُجتَمَعهِ، وأَمثالُ هَؤلاءِ لاَ يُفيدونَ أَنفُسَهم ولاَ يَنفَعونَ غَيْرَهم، وللتَّغلُّبِ علَى هَذا العَيْبِ يَتطلَّبُ البَحثَ عَنْ أَسبابِهِ، وبالتَّعرُّفِ علَى هَذهِ الأسبابِ يُدْرِكُ الشَّخصُ ذَاتَهُ، فَهذِه شُؤونُهُ وتِلكَ حَياتُهُ، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)) (8) ، فَإِذا كَانَ سَببُ الانطِواءِ خَجَلاً مُفرِطاً؛ فَالتَّغلُّبُ علَيهِ يَسيرٌ غَيْرُ عَسيرٍ، وذَلِكَ يَكونُ بِتَهذِيبِ هَذا الخَجَلِ وتَقويمِهِ حتَّى يَصيرَ حَياءً، وبِذلِكَ يَكونُ الخَجولُ قَدْ وَضَعَ قَدمَهُ علَى الطَّريقِ السَّليمِ، حَيْثُ تَخلَّقَ بخُلُقٍ خَيِّرٍ قَويمٍ، فَالحَياءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، كَيفَ لاَ وهوَ مِنْ صِفاتِ سَيِّدِ الخَلْقِ ورَسولِ الحَقِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ حَيثُ كَانَ كَما وصَفهُ أَصحَابُهُ ((أَشَدَّ حَياءً مِنَ العَذراءِ فِي خِدْرِها))، وما بَيْنَ الخَجَلِ والحَياءِ حِجابٌ رَقيقٌ، وفَرْقٌ دَقيقٌ، فَالحيَاءُ فَضِيلَةٌ تَعنِي مُراعاةَ شُعورِ الآخَرِينَ وأَحاسِيسِهم لأَبْعدِ الحُدودِ، أَمّا الخَجَلُ فآفةٌ نَفسيَّةٌ، تَشُلُّ مَواهِبَ الإِنسانِ، وتَضَعُ بَينهُ وبَينَها العَوائِقَ والسُّدودَ، والتَّغلُّبُ علَى هَذِه الآفةِ يَكونُ بالثِّقَةِ فِي النَّفسِ وقُدراتِها، فَهوَ مِفتاحُ النَّجاحِ، وسبَبُ التَّفوّقِ والفَلاحِ، وطَريقُ الخَيْرِ والإِصلاَحِ.
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مَنِ اعتَرفَ بِعُيوبِهِ وحاولَ إِصلاَحَها؛ أَعانَهُ اللهُ، فَحقَّقَ ما أَرادَ، وبَلغَ المُنى والمُرادَ.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ أَنجَحَ عِلاجٍ يُحقِّقُ للإِنسانِ إِصلاَحَ عُيوبِهِ الذَّاتيَّةِ هوَ اللجوءُ إِلَى اللهِ عَزَّ وجَلَّ بالدُّعاءِ أَنْ يُصلِحَ اللهُ عُيوبَهُ، ويَغفِرَ لهُ ذُنوبَهُ، ولقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم-يَدعو ربَّهُ فَيقولَ: ((اللهُمَّ كَما حسَّنتَ خَلْقي فَحسِّنْ خُلُقي))، ويَقولُ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الشِّقاقِ والنِّفاقِ وسُوءِ الأَخلاَقِ))، وفِي هَذهِ الأَيّامِ العَشْرِ مِنْ ذي الحِجّةِ فُرصَةٌ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُصلِحَ اللهُ عُيوبَهُ، ويَغفِرَ لهُ ذُنوبَهُ، فَهيَ أَيّامٌ قَالَ فِي فَضلِها رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((ما مِنْ أَيّامِ العَمَلِ الصَّالِحِ فِيها أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِه الأَيّامِ يَعني الأَيّامَ العَشْرَ)) وقَدْ أَقسَمَ اللهُ بليَاليها فَقالَ: ((وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ)) (9) ، ومِنْ هَذِه الأَيّامِ العَشْرِ يَوْمٌ هوَ سيِّد أَيّامِ العَامِ وهوَ يَوْمُ عَرفَةَ، وهوَ يَوْمُ المُباهاةِ والمُناجاةِ، يَقولُ فِي شأنِهِ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((ما رُئيَ الشَّيطانُ يَوْماً هوَ فِيهِ أَصغَرَ ولاَ أَدْحَرَ ولاَ أَحقَرَ ولاَ أَغيَظَ مِنهُ فِي يَوْمِ عَرفَةَ، ومَا ذاكَ إِلاَّ لِما يَرى فِيهِ مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحمَةِ)).
   فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ أَعظَمَ عِلاجٍ لإِصلاَحِ العُيوبِ هوَ مُراقَبِةُ اللهِ عَلاَّمِ الغُيوبِ، وذَلكَ بأَنْ يَعلَمَ الإِنسانُ عِلماً يَقينيّاً بأَنَّ اللهَ يَراهُ، ويَطَّلِعَ علَى سِرِّهِ ونجْواهُ، فَمَن عَلِم ذَلِكَ استَحيا مِنَ اللهِ عَالِمِ الشَّهادَةِ والغَيْبِ، فامتَنَعَ عَنْ كُلِّ ذَنْبٍ وأَصلَحَ كُلَّ عَيْبٍ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (10).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
          
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الجمعة / 2 .
(2) سورة البقرة / 104 .
(3) سورة الكهف / 103-104 .
(4) سورة فاطر / 8 .
(5) سورة الإسراء / 36 .
(6) سورة النجم / 28 .
(7) سورة الملك / 15 .
(8) سورة القيامة / 14 .
(9) سورة الفجر / 1-2 .
(10) سورة الأحزاب / 56 .