مَنْ أُُعطِيَ فَليشكُر
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
17/12/2007
خطبة الجمعة بتاريخ 12 ذي الحجة 1428هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مَنْ أُُعطِيَ فَليشكُر
   الحَمْدُ للهِ ربِّ العَالَمينَ، يَذْكُرُ مَنْ ذَكَرهُ، ويَجزِي مَن شَكَرهُ، نُؤمِنُ بهِ ولاَ نُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، سُبحانَهُ أَعطَى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، أَحمَدُهُ بِما هوَ لهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثنِي عَلَيه، وأُومِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَليهِ، مَنْ يَهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لهُ ومَنْ يُضْللْ فَلاَ هَادِيَ لهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ  وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ أَهلُ المَجْدِ والثَّناءِ، ومُجزِلُ العَطاءِ ومُجِيبُ الدُّعاءِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، خَيْرُ مَنْ عبَدَ ربَّهُ وذَكَرهُ، وأَثنى عَليهِ وشَكرَهُ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وبَارِكْ عَليهِ وَعَلَى آلِهِ وأَصحابِهِ أَجمَعينَ، والتَّابِعينَ لهُم بإِحسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.  أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   مِنْ رَحمَةِ اللهِ بعِبادِهِ أَنْ جَعَلَ عَطاءَهُ لهُم مَمدوداً غَيْرَ مَقصورٍ، مُطلَقاً غَيْرَ مَحظُورٍ، والمُؤمِنُ الحَقُّ يَستَقبِلُ عَطاءَ اللهِ بالطَّاعَةِ والإِيمانِ، والشُّكْرِ والعِرفانِ، ففِي القُرآنِ الكَريمِ يَذْكُرُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ مَنْ يُريدُ الدُّنيا ومَنْ يُريدُ الآخِرةَ ثُمَّ يَقولُ: ((كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً))(1) ، والعَطاءُ كَلِمةٌ ذَاتُ لَفظٍ جَميلٍ، ومَعنىً سامٍ وراقٍ ونَبيلٍ، لَفظُها مَمدودٌ، ومَعناها بالنِّسبَةِ لعَطاءِ اللهِ خَيْرٌ يُعطَى بلاَ حُدودٍ، وبالنِّسبَةِ لعِبادِهِ عَطاءٌ عَلى قَدْرِ ما هوَ مُتاحٌ ومَوجُودٌ، فهيَ كَلِمةٌ تَعنِي الإِنفاقَ والكَرَمَ والسَّخاءَ والإِيثَارَ والجُودَ، وكُلُّ ذَلكَ مِنْ مَكارِمِ الأَخلاَقِ، ومِنْ أَفضَلِ الصِّفاتِ علَى الإِطلاَقِ، حَثَّنا اللهُ علَيْها فِي كِتابِهِ الكَريمِ، وأَوصَى بِها نَبيَّهُ العَظيمَ -صلى الله عليه وسلم- ، ويَكفِْيها شَرفاً وعُلوّاً، ورِفْعَةً وسُموّاً أَنَّ اللهَ جَعلَها علَى الإِيمانِ والبِّرِّ دَليلاً، وإِلى رُضْوانِهِ وجنَّةِ الفِردَوسِ سَبيلا، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ((2)، ويَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَنْ كَانَ يؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَليُكْرِمْ ضْيفَهُ))، وجَاءَ فِي الأَثَرِ: ((السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ))، وقَدَ قَرَنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ العَطاءَ بالتَّقوَى، ويَسَّرَ لِمَنْ أَعطَى واتَّقى العَمَلَ بِما يُرضِيهِ، وضَمِنَ لهُ الجنَّةَ تَحتَضِنُه وتُؤويِهِ، وأَكْرِمْ بِذلِكَ جَزاءً وثَواباً وعَطاءً، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى))(3) ، إِنَّ الذِينَ يُعطُونَ ولاَ يَمنَعونَ، ويُنفِقونَ ولاَ يُمسِكونَ؛ تَستَقبِلُ مَلائكَةُ اللهِ عَطاءَهم بالدُّعاءِ، وتَطْلُبُ لهُم مِنْ رَبِّهم حُسْنَ الجَزاءِ، والخَلَفَ عمَّا أَنفَقوا، وأَعطَوا وتَصدَّقوا، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ العِبادُ فِيهِ إِلاَّ مَلِكانِ يَنزِلاَنِ؛ فَيقولَ أَحدُهما: اللهُمَّ أَعْطِ مُنفِقاً خَلفاً، ويَقولُ الآخَرُ: اللهُمَّ أَعطِ مُمسِكاً تَلفاً)).
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ ممَّا لاَ شَكَّ فِيهِ ولاَ ارتِيابَ أَنَّ اللهَ هوَ المُعْطِي الوهّابُ، فهوَ سُبحانَهُ يُعْطِي الدُّنيا مَنْ يُريدُ، ويُعْطِي الآخِرةَ مَنْ يُريدُ، ويُعِطيهُما معاً مَنْ يُريدُ، بَيْدَ أَنَّ عَمَلَ الإِنسانِ هوَ الذِي يُحدِّدُ جِهَةَ العَطاءِ وكَيفيَّتَهُ، ومِقْدارَهُ ونَوعِيّتَهُ، فالمؤمِنونَ العَامِلونَ للصَّالِحاتِ يُعِطيهمُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ جنَّةً يَدخُلُونَها، لاَ يَرضَونَ عَنها بَدلاً، ولاَ يَبغونَ عَنها حِوَلاً، عَطاءً مِنَ اللهِ غَيْرَ مَمنوعٍ، ولاَ مَجذوذٍ ولاَ مَقطوعٍ، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ))(4) ، وقَد أَعطَى اللهُ لِسُلَيمانَ -عَليهِ السَّلاَمُ- فِي الدُّنيا مَا لم يُعطِهِ أَحَدٌ قَبْلَهُ، ولاَ يُعطاهُ أَحَدٌ بَعْدَهُ، مَعَ ما ادَّخَرَهُ لهُ فِي الآخِرَةِ، يَقولُ اللهُ تعَالَى لِسُليمانَ: ((هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ))(5) ، كمَا أَعطَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ الدُّنيا لقَارونَ وفِرعونَ وهامانَ، فلمَّا تَعرَّوا عَنِ الإِيمانِ، وقَابلوا العَطاءَ بالجُحودِ والنُّكرانِ؛ آلَ أَمرُهم إِلى الخُسْرانِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى فِي شَأنِ نهايَةِ فِرعونَ: ((فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ))(6) ، ويَقولُ فِي شَأنِ نهايَةِ قَارونَ: ((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ))(7) .
   أَيُّها المؤمِنونَ :
   مِنْ شُكْرِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ علَى النِّعمَةِ التُّحدُّثُ بها مِنْ غَيْرِ فَخْرٍ ولاَ تَعالٍ، بَلْ بقَصْدِ الاعتِرافِ بفَضْلِ اللهِ الكَبيرِ المُتَعالِ، يَقولُ اللهُ تعَالَى لرَسولهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ((8)، ومِنْ شُكْرِ النِّعمَةِ ظُهورُ أَثَرِها علَى المُنعَمِ علَيهِ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِذا أَنعَمَ اللهُ علَى عَبْدٍ نِعْمةً أَحبَّ أَنْ يَرى أَثَرَها علَيهِ))، وعندَما يُقدِّمُ امرؤٌ إِلى أَخيهِ مَعروفاً، فَمِنَ الوفاءِ شُكْرُهُ علَى ما أَسدَى، وقدَّمَ وأَهدَى، ومِنْ مَظاهِرِ الشُّكْرِ التِي يَنبَغِي أَنْ تُقدَّمَ إِليهِ الدُّعاءُ لهُ والثَّناءُ علَيهِ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ))، ويَقولُ     -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: ((مَنْ أُعطَيَ عطَاءً فَوجَدَ فَليُجْزِ بهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَليُثْنِ؛ فإِنَّ مَنْ أَثنَى فَقَد شَكَرَ، ومَنْ كَتَمَ فَقَد كَفَر))، وما أَيْسَرَ أَنْ يَقولَ المَرءُ لِمَنْ أَسدَى إِليهِ مَعروفاً: (جَزاكَ اللهُ خَيْراً)؛ فَهذا مِنْ أَبلَغِ الثَّناءِ، وأَعظَمِ أَلوانِ الوَفاءِ، فَهيَ لَيستْ مُجردَ كَلِمةٍ يَنطِقُ بِها اللسانُ، بَلْ هيَ تَعبيرٌ عمَّا استَقرَّ فِي القُلوبِ مِنْ إِيمانٍ، فَكلِمةُ (جَزاكَ اللهُ خيراً) دُعاءٌ والدُّعاءُ عِبادَةٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَواضُعٌ باتِّهامِ النَّفسِ بالتَّقصِيرِ، وإِحالَةِ الجَزاءِ إِلى اللهِ الكَريمِ، الذِي يُعطِي بلاَ حَدٍّ، ويَنعَمُ بلاَ حَصْرٍ ولاَ عدٍّ. وإِذا كَانَ مِنْ أَدَبِ المُعْطَى لهُ الوَفاءُ، والردُّ علَى العَطاءِ بالشُّكْرِ والثَّناءِ وخالِصِ الدُّعاءِ، فإِنَّ مِنْ أَدَبِ المُعْطِي أَنْ يَتجنَّبَ المَنَّ والإِيذاءَ، والسُّمعَةَ والرِّياءَ، وأَنْ يَجْعلَ عطَاءَهُ مَستوراً غَيْرَ مَنظُورٍ، خَفيّاً غَيْرَ مشُهورٍ، إِلاَّ إِذا قَصَدَ أَنْ يُذكِّرَ السَّاهِي ويَقتَدي بهِ الغَافِلُ اللاهِي؛ فالمَدارُ علَى النيَّةِ وسَلامَةِ الطَّويَّةِ، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ((9).
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-؛ وكونوا مِنَ الشَّاكِرينَ للهِ علَى عطَائهِ، وفَضْلهِ ونَعمائهِ، فَبالشُّكْرِ تَبقَى النِّعَمُ وتَزيدُ، ويأَتِي للشَّاكِرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَيرٌ جَديدٌ.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
   *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ لِكُلِّ نِعْمةٍ شُكْرَها المُناسِبَ لَها، إِذ لَيسَ مِنَ اللائقِ بالإِنسانِ قَصْرُ شُكْرِهِ علَى الثَّناءِ باللسانِ، بَلْ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يوجِّهَ النِّعمَةَ وِجهَةَ النَّفعِ والخَيْرِ، وذلِكَ باستِعمالِها فيمَا يُسْعِدهُ ويُسْعِدُ الغَيْرَ، وأَنْ يُحافِظَ علَيها باستِمرارٍ، وذلِكَ بالابتِعادِ عَنْ كُلِّ مُؤذٍ وضَارٍّ، واستِعمالِها فِي كُلِّ ما يَنفَعُ ويُفيدُ، مِنْ بِناءٍ وعُمرانٍ وتَشييدٍ، وكُلِّ عَمَلٍ مُفيدٍ خَلاَّقٍ، مَعَ الالتِزامِ بالتَّواضُعِ وكُلِّ مَكارِمِ الأخلاَقِ، فَمَنِ استَغلَّ صحَّتَهُ وعَافِيتَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ ونَفْعِ والديْهِ وولَدِهِ، ونَفسِهِ وبَلَدِه؛ فَقَد أَدَّى شُكْرَ نِعْمَةَ الصِّحةِ فِي بَدنِهِ؛ فَعَمرَ دُنياهُ ونَجا فِي أُخراهُ، وقَد ورَدَ أَنَّهُ ((مرَّ علَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- رَجلٌ، فَرأَى أَصحابَ رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ جَلَدِهِ ونَشاطِهِ فَقالوا: يا رَسولَ اللهِ، لو كَانَ هَذا فِي سَبيلِ اللهِ؟ فَقالَ رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى أَولاَدِهِ صغاراً فَهوَ فِي سَبيلِ اللهِ، وإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى أَبوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبيريْنِ فَهوَ في سَبيلِ اللهِ، وإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى نَفسْهِ يَعفُّها فَهوَ في سَبيلِ الله، وإِنْ كَانَ خَرجَ يَسْعَى رِياءً ومُفاخَرةً فَهوَ فِي سَبيلِ الشَّيطانِ))، ومَنْ أَنعَمَ اللهِ علَيهِ بالمَالِ فَمِنْ شُكْرِ اللهِ علَى هَذِه النِّعمَةِ المُحافَظةُ علَى هَذا المَالِ، والتَّصرُّفِ فِيهِ باعتِدالٍ، وذَلكَ بالبُعْدِ عَنِ الإِسرافِ والتَّبذيرِ، وعَدَمِ البُخْلِ والتَّقتِيرِ، وبِذلكَ يَنجو مِنَ المَلامَةِ والحَسْرَةِ، يَقولُ اللهُ تعَالَى: ((وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً))(10) ، ومَنْ أَنعَمَ اللهُ علَيهِ بأَولادٍ؛ فَعلَيهِ أَنْ يَشْكُرَ هَذِهِ النِّعمَةَ بِرعايَتِهم وحِفظِهم عَنْ كُلِّ انحِرافٍ وفَسادٍ، وذَلكَ يَكونُ بِتأدِيبِهم وتَقويمِهم وتَهذِيبهِم، مَعَ انتِهاجِ سَبيلِ الرِّقَّةِ واللُطْفِ، والبُعْدِ عَنِ الشِّدَّةِ والعُنفِ، فَمَنْ أَخطأَ فِي الوَسيلَةِ ضلَّ طَريقَهُ وسَبيلَهُ، فَوقَعَ ما كَانَ يَخشاهُ، وحَدثَ ما كَانَ يتَحاشَاهُ، فَقَد كَانَ مِنْ هَدْي الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- تَأدِيبُ الأَولاَدِ بأُسلوبٍ شَفيقٍ، وقَولٍ لَطيفٍ ورَقيقٍ، وهَذا هوَ الأَدبُ المَقصودُ، حتَّى يتَحقَّقَ الأَملُ المَنشُودُ، إِنَّ التأَديبَ المُتَّصِفَ بالحُسْنِ والجَمالِ كَفيلٌ بِتَحقِيقِ الأَهدافِ والآمالِ، يَقولُ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((الزَموا أَولاَدَكُم وأَحسِنوا أَدَبَهم)).
   أَيُّها المُسلِمونَ:
   مِنْ أَولَى النَّاسِ بالشُّكْرِ والعِرفانِ الوالِدانِ، فَهُما أَكثَرُ النَّاسِ عَطاءً، فَليَكونا أَولَى النَّاسِ جَزاءً وثَناءً، كَيفَ لاَ؟ وقَدْ قَرنَ اللهُ الإِحسانَ إِلَيهِما بِعبادَتِهِ ووحَدانِيَّتِه، كَما قَرَنَ شُكْرَهُما بِشُكْرِهِ، فَقالَ تَعالَى: ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً))(11) ، وقَالَ جَلَّ شَأنُهُ: ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ))(12) ، وشُكْرُ الوالِدَيْنِ يَكونُ بِطاعَتهِما فِي المَعروفِ وفِيما هوَ خَيْرٌ والإِحسانِ إِلَيهِما، وبِرِّهِما فِي حَياتِهما وبَعْدَ مَوتِهما، فَقَد جَاءَ رَجلٌ إِلى رَسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ((يا رَسولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبويَّ شَيءٌ أَبُرُّهُما بهِ بَعْدَ مَوتِهما؟ قَالَ: نَعَم الصَّلاةُ عَليهِما -أَي الدُّعاءُ والاستِغفارُ لَهُما-، وإِنفاذُ عَهْدِهِما، وصلَةُ الرَّحِمِ التِي لاَ تُوصَلُ إِلاَّ بِهِما، وإِكرامُ صَديِقهِما))، ومِنَ النِّعَمِ التِي تَجِبُ أَنْ تُشكَرَ وطَنُ الإِنسانِ الذِي أَظلَّتهُ سَماؤُهُ، وأَقلَّتُه غَبْراؤُهُ وخَضْراؤُهُ، وغذَّاهُ هَواؤُهُ ونَباتُهُ، وعَمَّتهُ خَيْراتُهُ، فُهوَ نِعْمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُشكَرَ ولا يُكفَر، ويُحمَدَ ولا يُجْحدَ، وشُكْرهُ يَكونُ بِالاعتِزازِ بهِ والتَّشرُّفِ بالانتِماءِ إِلَيهِ، وبَذْلِ الجُهودِ لِمواصَلةِ التَّقدُّمِ والرُّقيِّ بهِ.
    فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وانظُروا مَوقِفَكُم مِنْ نِعَمِ اللهِ، وأَعلَموا أَنَّ مِنْ أَعظَمِ أَلوانِ الوَفاءِ شُكْرُ العَطاءِ، وذَلِكَ بِحُسْنِ الجَزاءِ أَو كَلِمةِ ثَناءٍ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (13).
   اللَّهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
                      
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الإسراء / 20.
(2) سورة آل عمران / 92 .
(3) سورة الليل / 5-7 .
(4) سورة هود / 108 .
(5) سورة ص / 39-40 .
(6) سورة القصص / 40 .
(7) سورة القصص / 81 .
(8) سورة الضحى / 11 .
(9) سورة البقرة / 274 .
(10) سورة الإسراء / 29 .
(11) سورة النساء / 36 .
(12) سورة لقمان / 14 .
(13) سورة الأحزاب / 56 .