اليقينُ سَعادٌة ونجاةٌ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
14/02/2008
خطبة الجمعة بتاريخ 8 صفر 1429هـ
بسم الرحمن الرحيم
اليقينُ سَعادٌة ونجاةٌ
    الحَمْدُ للهِ الذِي جَعَلَ اليَقِينَ مِنْ صِفاتِ عِبادِهِ المُؤمِنينَ، والثِّقَةَ فِيهِ مِنْ شَمائِلِ أَوليائهِ المُتَّقِينَ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، مَنِ استَمْسَكَ بِهدْيِهِ فَقَدِ استَمْسَكَ بِالعُروَةِ الوُثْقَى، ورُزِقَ الرَّاحةَ عِنْدَ المَصابِ والبَلْوَى، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، لَمْ تُزَعْزِعْهُ المَواقِفُ والبَلاَيا، ولاَ نَالَتْ مِنْ يِقِينِهِ المَصائِبُ والرَّزايا، -صلى الله عليه وسلم- وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ الأَطْهارِ، وعَلَى مَنْ تَبِعَهُم مِنَ المُتَّقِينَ الأَخْيارِ، صَلاَةً وَسلاَماً دَائمينِ مَا تَعاقَبَ اللَّيلُ والنَّهارُ.  أَمّا بَعْدُ، فَيا مَعْشَرَ المُؤمِنينَ، ويا جَمْعَ المُوَحِّدِينَ:اعمُروا صَرْحَ إِيمَانِكُم بِتَقوى اللهِ، واحرِصُوا عَلَى طَاعَتِهِ ورِضاهُ، قَالَ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ))(1)، واعلَموا -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنَّ اليَقِينَ دَرجَةٌ مِنَ الإيمَانِ عَالِيةٌ، ومَنْزِلَةٌ مِنَ الإِخلاَصِ للهِ رَاقِيَةٌ، لاَ يَصِلُ إِليها إِلاَّ مَنْ وَقَرَ الإِيمانُ فِي قَلْبِهِ، وسَيْطَرَ حُبُّ اللهِ عَلَى قِشْرِهِ ولُبِّهِ، واليَقِينُ مَنْزِلَةٌ يُحِبُّها اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى، ويُرِيدُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ يَصِلوا إِلَيها، ولِهَذا يَقُولُ اللهُ عزَّ وَجَلَّ: ((وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ))(2)، فإِبراهيمُ -عَلَيهِ السَّلاَمُ- كَانَ مُؤمِناً، لَكِنَّ اللهَ أَرادَ أَنْ يَزيدَهُ إِيماناً ويَجْعَلَهُ مِنَ المُوقِنينَ، فَجَعلَ اللهُ سُبْحانَهُ وَسيلَةَ ذَلِكَ أَنْ يُرِيَهُ مَلَكوتَ السَّماواتِ والأَرضِ، فَبَعْدَ أَنْ رَآهُ وَتأَمَّلَهُ، رَفَعَ اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى حُجَّتَهُ، والمُؤمِنُ مُوقِنٌ بِأَمْرِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالَى، لِذا فَهُوَ مُستَقِيمٌ عَلَى أَمْرِهِ سُبْحانَهُ، ويَقومُ بِأَداءِ العَمَلِ الذِي افتَرَضَهُ اللهُ تَبارَكَ وتَعالَى عَلَيهِ، كَمَا أَنَّهُ مُوقِنٌ بِقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ ومَشِيئَتِهِ، فَيُفَوِّضُ أَمْرَهُ للهِ وتَرتاحُ نَفْسَهُ لِما قَدَّرَهُ رَبُّهُ وأَمضَاهُ، قَالَ تَعالَى: ((ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))(3)، وحِينَ سَعَدَ هَؤلاءِ بِبَرْدِ اليَقينِ والتِزامِهِ، شَقِيَ آخرونَ بِانعدِامِهِ، قَالَ تَعالَى فِي شَأنِهم: ((وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُستَيقِنِينَ))(4)، وَقَدْ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- المِيزانَ الدَّقِيقَ لِليقِينِ فَقالَ: ((إِنَّ لِكُلِّ شَيءٍ حَقِيقَةً، ومَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حَتَّى يَعلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئهُ، ومَا أَخطأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ))، وإِذا وَصَلَ اليَقِينُ إِلَى القَلْبِ امتَلأَ القَلْبُ نُوراً وإِشراقاً وإِيماناً ومَحَبّةً للهِ، وخَوفاً مِنَ اللهِ، وثِقَةً فِي اللهِ، وشُكْراً لَهُ، ورِضاً بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ، وتَوَكُّلاً عَلَيهِ، وإِنابَةً إِلَيهِ، واليَقِينُ مِنْ أَعظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَى العَبْدِ، يَقُولُ -صلى الله عليه وسلم- : ((سَلوا اللهَ العَفْوَ والعَافِيَةَ، فَإِنَّ أَحداً لَمْ يُعْطَ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْراً مِنَ العَافِيَةِ))، وكَيفَ لاَ يَكُونُ اليَقينُ كَذَلِكَ وبِهِ اهتَدَى المُهتَدونَ، وفِيهِ تَنافَسَ المُتنافِسُونَ؟ قَالَ تَعالَى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) (5)، إِنَّ اليَقِينَ استِحسانٌ دَائمٌ لِما حَكَمَ اللهُ بِهِ، ورِضاً مُطلَقٌ بِما قَدَّرَهُ وقَضَاهُ، قَالَ تعَالَى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ))(6) .
  أَيُّها المُسلِمونَ :
  إِنَّ المُتَتبِّعَ لِكتابِ اللهِ العَظِيمِ، والدَّارِسَ لِتارِيخِ مَنِ اختَصَّهم اللهُ بِالخَيْرِ والتَّكْرِيمِ، يَقِفُ وَقْفَةَ إِجلاَلٍ وإِكبارٍ لِصُوَرِ اليَقِينِ الذِي لاَ يَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، والثِّقَةِ فِي اللهِ الواحِدِ الأَحَدِ، انظُروا فِي سِيرَةِ شَيْخِ المُرسَلِينَ نوحٍ عَلَيهِ السَّلامُ الذِي قَامَ امتِثالاً لأَمْرِ رَبِّهِ لِيَصنَعَ سَفِينَةً عَلَى اليَابِسَةِ حَيْثُ لاَ بَحْرَ، قَالَ تَعالَى: ((وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ))(7)، سُبْحانَ اللهِ: أَيُّ عَقْلٍ لِهذا الرَّجُلِ؟ يَصْنَعُ سَفِينَةً ولاَ بِحارَ ولاَ أَنهارَ ولاَ مُحيطاتِ؟ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُمتَلِئُ القَلْبِ بِاليَقِينِ لأَمْرِ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالَى، وبَعْدَ أَنْ أَتمَّ نُوحٌ -عَلَيهِ السَّلاَمُ- صُنْعَ السَّفِينَةِ، واشَتَدَّ اضطِهادُ قَومِهِ لَهُ تَضَرَّعَ لِرَبِّهِ سُبْحانَهُ، قَالَ تَعالَى فِي وَصفِهِ: ((فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ))(8)، فَكانَتِ النَّتِيجَةُ: ((فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ))(9)، وهَذا إِبراهيمُ -عَلَيهِ السَّلاَمُ- يَضَعُ مَبْدأً عَظِيماً فِي اليَقِينِ الصَّادِقِ، تَهَُونُ عَلَى مَنْ  التَزَمَهُ هُمومُ الحَياةِ، ويَتَدلَّى لِمَنْ عَمِلَ بِهِ حَبلُ السَّعادَةِ والنَّجاةِ، بِهِ تَطْمَئنُّ النُّفوسُ، وتَنْزاحُ الكُروبُ، ومَعَهُ تَهونُ المَصائِبُ والخُطُوبُ، حَكَى اللهُ عَنْهُ قَولَهُ مُخاطِباً قَوْمَهُ الذِينَ لَمْ يَعْمروا قُلوبَهم بِاليَقينِ، ولَمْ يَعتَمِدوا عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ تعَالَى: ((قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ، أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ، الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ، وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين))(10)، إِنَّها عَقِيدةُ المُوَحِّدِينَ وثِقَةُ المُوقِنينَ، رُزِقَ صَاحِبُها الولَدَ وهوَ شَيْخٌ شَيْبُهُ ظَاهِرٌ، وامرأَتُهُ عَجُوزٌ عَاقِرٌ، فَجَاءتْهُ البُشْرَى مِنْ رَبِّ الوَرى، وبِهذا اليقِينِ أَيْضاً تَرَكَ إبراهيمُ الخَلِيلُ زَوْجَتَهُ وولَدَهُ فِي مَكَّةَ المُكَرَّمةِ وهِيَ يَومَئِذٍ وادٍ غَيْرُ ذِي زَرْعٍ، تَركَهُم امتِثالاً لأَمْرِ اللهِ، وبَعْدَها ضَرَعَ إِليهِ ودَعاهُ، فَقَالَ: ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ))(11)، وهَذا نَبِيُّ اللهِ موسَى -عَلَيهِ السَّلاَمُ- عِنْدَما كَانَ فِرْعَونُ وجُنْدُهُ مِنْ خَلْفِهِ، والبَحْرُ أَمامَهُ، والمُستَضْعَفونَ مَعَ نَبِيِّ اللهِ موسَى يَخْشَونَ مِنْ فِرعَوْنَ وبَطْشِهِ، قَالَ تَعالَى: ((فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ))(12)، فَقَالَ صَاحَبُ اليقينِ مُوسَى -عليهِ السَّلامُ-: ((قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)) (13) .
  أَيُّها المُسلِمونَ:
  عَلَى نَهْجِ إِبراهِيمَ الخَلِيلِ، وإِخوانِهِ مِنَ الأَنبِياءِ ذِي القَدْرِ الجَلِيلِ، رَبَّى نَبِيُّنا مُحَمّدٌ -صلى الله عليه وسلم- نَفْسَهُ وأَصحابَهُ عَلَى اليَقِينِ قَولاً وعَمَلاً، فِكْراً وسُلوكاً، عَقِيدَةً ومَنْهجاً، قَالَ تَعالَى: ((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ))(14)، وعَلَى هَذا أََصحابُهُ -رُضوانُ اللهِ تَعالَى عَلَيهم-، قَدْ مَلأَ اليَقِينُ قُلوبَهم، وسَيْطَرَ عَلَى مَشَاعِرِهم، وهَذَّبَ سُلوكَهم، قَالَ عَزَّ وجَلَّ فِي وَصْفِهم: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))(15)، بَلْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم- يُرَبِّي النَّاشِئةَ عَلَى اليَقِينِ، فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْماً فَقَالَ: ((يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احفَظِ اللَّهَ يَحفَظْكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ))، إِنَّها تَرْبِيَةٌ وإِعدادٌ لِلنُّفوسِ، كَي لاَ تَنْهارَ جَزَعاً أَمامَ الشَّدائِدِ، ولاَ تَموتَ حَسْرَةً عِنْدَ المَصائِبِ، فَتلْزَمَ التَّجَمُّلَ والتَّماسُكَ والثَّباتَ، لِيَجْعَلَ اللهُ بَعْدَ العُسْرِ يُسْراً، إِنَّهُ الرَّجاءُ فِي اللهِ والثِّقَةُ بِهِ والاعتِمادُ عَلَيهِ، ولاَ بُدَّ لَنا -أَمُّةَ الإِسلاَمِ- وقَدْ كَلَّفَنا اللهُ بِعِمَارَةِ الأَرْضِ، أَنْ نَمْلأَ قُلوبَنا يَقِيناً بِاللهِ؛ لِنَتهيَّأَ لِمَشاقِّ الحَياةِ ونَنْهَضَ بِواجِبِنا الضَّخْمِ، ونُؤَدِّيَ دَوْرَنا المَرْسومَ، فِي ثَباتٍ وثِقَةٍ وطُمأنِينَةٍ واعتِدالٍ، مَا أَحوجَنا إِلى اليَقِينِ بِاللهِ والتَّوكُّلِ عَلَيهِ؛ لِنَعْمُرَ حَياتَنا كُلَّها سَكِينةً وطُمأنِينَةً، ولْنرَ فِي أَحلَكِ الظٌُّروفِ وأَصْعَبِ الأَوقاتِ نَافِذةً رَبّانِيّةً يَشِعُّ مِنْها النُّورُ.
  فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واحرِصوا - رَحِمَكُم اللهُ - عَلَى اليَقِينِ الصَّادِقِ مَعَ اللهِ، والثِّقَةِ فِي صَلاَحِ مَا قَدَّرَهُ وقَضَاهُ، تَطْمَئِنُّ نُفوسُكُم، وتَرتاحُ قُلوبُكم، وتَصْلُحُ أَعمالُكُم.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
   *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الوُصُولَ إِلَى اليَقِينِ لاَ يَكونُ إِلاَّ بِتَنْقِيَةِ النَّفْسِ وتَخْلِيَتِها مِنْ كُلِّ مَا قَدْ يَعلَقُ بِالنُّفوسِ مِنْ رَواسِبِ الشِّركِ، ومَا يَشوبُ السُّلوكَ مِنْ تَصرُّفاتٍ غَيْرِ سَوِيَّةٍ، فَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نقَّى سُلوكَ أَصحَابِهِ، وصفَّى فِكْرَ أُمَّتِهِ وأَتباعِهِ، مِنْ كُلِّ فِكْرٍ أَو مُعتَقَدٍ يَقْدَحُ فِي يَقِينِهم بِاللهِ، أَو يَجْعلُهم يَحْسَبونَ أَنَّ نَفْعاً أَو ضرًّاً يَكُونُ مِنْ أَحَدٍ سِواهُ، قَالَ تَعالَى: ((قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))(16).
   فَاتَّقوا اللهَ - عِبادَ اللهِ -، واحرِصوا علَى ما يُقوِّي يَقينَكُم، وتَعْظُمُ مَعَهُ بِاللهِ ثِقَتُكم؛ تَسْعَدوا فِي دُنياكُم، وتُفْلِحوا فِي آخرتِكُم.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: (( إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (17).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
   (( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة التوبة / 119 .
(2) سورة الأنعام / 75 .
(3) سورة البقرة / 2-5 .
(4) سورة الجاثية / 32 .
(5) سورة السجدة / 24 .
(6) سورة المائدة / 50 .
(7) سورة هود / 37-38 .
(8) سورة القمر / 10 .
(9) سورة القمر / 11-14.  
(10) سورة الشعراء / 75-82 .
(11) سورة إبرايهم / 37.
(12) سورة الشعراء / 61 .
(13) سورة الشعراء / 62 .
(14) سورة التوبه / 40 .
(15) سورة آل عمران / 173 .
(16) سورة التوبه / 51 .
(17) سورة الأحزاب / 56 .