كيفَ نـتعَامَلُُ مَعَ الواقع؟
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
26/02/2008
طبة الجمعة بتاريخ 22 صفر 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
كيفَ نـتعَامَلُُ مَعَ الواقع؟
   الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الحَمِيدِ، يَفْعَلُ مَا يَشاءُ ويَحكُمُ ما يُريدُ، جَعَلَ مِنْ سُنَّةِ الحَياةِ الدُّنيا التَّغَيُّرَ والتَّطَوُّرَ والتَّجدِيدَ، أَحمدُهُ سُبْحانَهُ بِما هوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثنِي علَيهِ، وأُومِنُ بِهِ وأَتوكَّلُ علَيهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، زَوَّدَ الإِنسانَ بِالعَقْلِ لِيَعلَمَ، وبِالإِرادَةِ لِيَعملَ بِما يَعلَمُ، وحَثَّهُ علَى تَحَرِّي الأَفضَلِ، واختِيارِ الأَحسَنِ والأَمثَلِ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ مِنْ خلْقِهِ وحَبِيبُهُ، حَلاَّهُ رَبُّهِ بأَحسَنِ الشَّمائلِ، وأَرسلَهُ داعِياً إِلى كُلِّ الفَضائلِ، أَخرَجَ اللهُ بِبِعثَتِهِ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ، وهَداهُم إِلَى أَفْضلِ وأَقْوَمِ الأُمُورِ، اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبَارِكْ علَيهِ وعلَى آلهِ وأَصحابِهِ أَجمَعينَ، والتَّابِعينَ لَهُم بإِحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ قَدْرَ الإِنسانِ فِي الإِسلاَمِ رَفيعٌ، وإِنَّ جانِبَهُ مَصونٌ مَنيعٌ، ولِمَ لاَ؟ وقَدْ حَظِيَ مِنَ اللهِ الكَريمِ، بالتَّقدِيرِ والتَّكْريمِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً))(1)، ومِنْ مَظاهِرِ هَذا التَّكْريمِ أَنْ مَنَحَهُ عقلاً يَزِنُ بِهِ أُمورَ حَياتِهِ، ويَضْبِطُ بِهِ تَصرُّفاتِهِ؛ لِيَضْمَنَ لِنَفسِهِ حاضِراً واعِداً، ويُؤَسِّسَ لَها مُستَقْبلاً مُشْرِقاً صَاعِداً، إِنَّ الإِنسانَ العَاقِلَ الرَّشِيدَ، ذا الفِكْرِ السَدِيدِ، يَعْرِفُ وَظيفَتَهُ نَحْوَ نَفْسِهِ، وواجِبَهُ نَحْوَ مُجتَمَعِهِ، وواجِبَهُ نَحْوَ رَبِّهِ، يَعْرِفُ وَظيفَتَهُ نَحْوَ نَفْسِهِ، فَيَصونُها مِنْ كُلِّ انحِرافٍ، ويُحصِّنُها بِمكارِمِ الأَخلاَقِ ومَحاسِنِ الأَوصافِ، لِيَجِدَ ثَمرَةَ ذَلكَ فِي دُنياهُ ثَناءً عَاطِراً، وفِي أُخراهُ خَيْراً حَاضِراً، يَقولُ اللهُ تُعالُى: ((وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ))(2)، ويَقولُ جلَّ شأنُهُ: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً))(3)، ويَعْرِفُ واجِبَهُ نَحْوَ مُجتَمَعِهِ؛ فَيَعملُ دائماً علَى ارتِقائِهِ، وطَهارتِهِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ ونَقائِهِ؛ لِيَتَفوَّقَ المُجتَمَعُ ويَصْعَدَ، ويَهنأَ ويَسْعَدَ، ويَعْرِفُ واجِبَهُ نَحْوَ ربِّهِ؛ فَلاَ يَفْعلُ ما نَهَى اللهُ عَنْهُ وحذَّرَ منهُ، ولاَ يَغْفَلُ لَحْظَةً عمَّا حَثَّ علَيهِ وأَمَرَ بهِ، وبِذلكَ يَسلُكُ الإِنسانُ الطَّريقَ القَويمَ؛ فَتَصلُحُ أُمورُهُ وتَستقِيمُ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))(4)، وفِي حَديثٍ مِنْ جَوامِعِ الكَلِمِ حَدَّدَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم- عَلاَقةَ الإِنسانِ بِرَبِّهِ وعلاَقتَهُ بِنَفْسِهِ وعلاَقتَهُ بِمُجتَمَعِهِ؛ فَقالَ -علَيهِ الصَّلاَةُ والسَّلامُ-: ((اتَّقِ اللهَ حَيثُما كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنةَ تَمْحُها، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)).
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ مَنْ أُوتِيَ عَقلاً رَشِيداً وفِكْراً سَدِيداً يَتعَاملُ مَعَ الواقِعِ الذِي هوَ فِيهِ بِحِكْمَةٍ ورَوِيَّةٍ، وتَصرُّفاتٍ عاقِلَةٍ سَوِيَّةٍ، ولَنْ يَكونَ التَّعامُلُ مَعَ الواقِعِ ناجِحاً إِلاَّ إِذا بَدأَ بِدايَةً صَحِيحَةً، وسَارَ وِفْقَ تَنْظِيمٍ وتَرتِيبٍ، فَلاَ تَعامُلَ مَعَ الواقِعِ البَعِيدِ إِلاَّ بَعْدَ حُسْنِ التَّعامُلِ مَعَ الواقِعِ القَريبِ، وأَقْرَبُ وَاقِعٍ للإِنسانِ نَفسُهُ؛ فَلْيَكُنْ تَعامُلُهُ معَها علَى أَساسِ المَعْرِفَةِ بِالنَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، والعِلْمِ بِالطَّبِيعَةِ الإِنسانِيَّةِ، فالإِنسانُ مَخْلوقٌ مُزدَوَجُ التَّكوِينِ ثُنائيُّ الخِلْقَةِ، مِنْ حَيْثُ هوَ جَسَدٌ وروحٌ، وقَدْ أَشارَ اللهُ عزَّ وجلَّ إِلَى ذَلِكَ فَقالَ: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ))(5)، وقَالَ جلَّ شأنُهُ: ((إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ))(6)، ومَا دامَ الإِنسانُ جَسَداً ورُوحاً فَلْيتَعاملْ مَعَ نَفْسِهِ علَى أَساسِ واقِعِهِ الذِي هوَ فِيهِ؛ فَيُعْطِي لِلجَسَدِ حَقَّهُ وللرُّوحِ حَقَّها، لأَنَّ لِلجَسَدِ مَطالِبَهُ وللرُّوحِ أَشْواقَها، ومَنْ تَعاملَ مَعَ جَسَدِهِ ورُوحِهِ بِميزانٍ عادِلٍ دَقِيقٍ؛ سَلكَ أَقومَ سَبِيلٍ وأَسلَمَ طَريقٍ، فَلاَ هَدْرَ لِحقوقِ رُوحٍ علَى حِسابِ جَسَدٍ، ولاَ إِهمالَ لِحقوقِ جَسَدٍ علَى حِسابِ رُوحٍ، هَذا هوَ العَدلُ والإِنصافُ، وما عَداهُ ظُلْمٌ للنَّفْسِ وإِجحافٌ، وقَدْ نَعَى القُرآنُ الكَريمُ علَى قَومٍ أَغفَلوا مَطالِبَ الرُّوحِ، واستَغرقوا فِي الاستِجابَةِ لِمَطالِبِ الجَسَدِ؛ فاتَّخذوا إِلهَهُمْ هَواهُم، وأَصبَحَ كُلُّ هَمِّهِم دُنياهُم، فَقالَ تَباركَ وتَعالَى: ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً))(7)، كَما نَهَى اللهُ عزَّوجلَّ رَسولَهُ -صلى الله عليه وسلم- عنِ اتِّباعِ كُلِّ مَنِ اتَّبَعَ هَواهُ، واهتَمَّ بِجَسدِهِ ودُنياهُ، اهتِماماً أَنساهُ ذِكْرَ اللهِ، فَقالَ تَباركَ وتَعالَى: ((وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً))(8)، وكَما نَهَى الإِسلامُ عنِ الاعتِداءِ علَى مَطالِبِ الرُّوحِ، نَهَى كَذلِكَ عَنِ الاعتِداءِ علَى مَطالِبِ الجَسَدِ، وأَنْحَى بِالَّلائمَةِ علَى كُلِّ مَنْ أَفرَطَ وغالَى؛ فَحَرَّمَ ما أَحلَّ اللهُ تَباركَ وتَعالَى مِمّا فِيهِ حَظٌّ لِلجَسَدِ مِنْ طَعامٍ وشَرابٍ، وتَزيُّنٍ بِما أَحلَّ اللهُ مِنَ الثِّيابِ، فَقالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ((يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))(9)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- : ((كُلوا واشرَبُوا وتَصَدَّقُوا والبَسُوا فِي غَيْرِ إِسرافٍ ولاَ مَخيلَةٍ)).
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ التَّعاملَ مَعَ الواقِعِ لاَ يَعْنِي الرِّضا بِهِ علَى إِطلاَقِهِ، ولاَ يَعْنِي التَّمرُّدَ علَيهِ علَى إِطلاَقِهِ، بلْ يَعنِي التَّعامُلَ مَعَهُ بِذكاءٍ وبَصِيرةٍ؛ تُسعِدُ حاضِرَ الإِنسانِ وتُؤّمِنُ مُستقَبلَهُ ومَصيرَهُ؛ فَإِنْ كانَ الواقِعُ والحاصِلُ يُعانِي مِنِ اضطِرابٍ واختِلاَلٍ؛ حاولَ الإِنسانُ إِصلاَحَهُ وتَقويمَهُ؛ مُتسلِّحاً فِي سَبيلِ تَحقِيقِ ذَلِكَ بِالحِكْمَةِ والاعتِدالِ، فَرُبَّ إِنسانٍ أَفسَدَ مِنْ حَيْثُ أَرادَ الإِصلاَحَ، وأَخفَقَ مِنْ حَيْثُ أَرادَ النَّجاحَ، بِسبَبِ سُوءِ اختِيارِ الوَسيلَةِ الأَمثلِ والطَّريقَةِ الأَفضلِ، أَو بِسَببِ استِعجالِ الوُصُولِ إِلى الغاياتِ دُونَ تَرتِيبٍ للبِداياتِ، ولَنا فِي تَعامُلِ الرَّسولِ -صلى الله عليه وسلم- مَعَ الواقِعِ أُسْوَةٌ حَسَنةٌ وقُدوَةٌ طَيِّبَةٌ؛ فَلَقَدْ وَاجَهَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ بُعِثَ واقِعاً مُضطَّرِبَ المَوازينِ، مُعَقَّدَ الأَوضاعِ، مُنْتَكِسَ الطِّباعِ، لاَ يَحْكُمُهُ عَقلٌ راشِدٌ، بَلْ يَتَحكَّمُ فِيهِ تَقلِيدٌ سَائدٌ؛ فَظلَّ -صلى الله عليه وسلم- فِي مَكَّةَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ عاماً يَدعو النَّاسَ بِكُلِّ حِكْمَةٍ ورَوِيَّةٍ، إِلى انتِهاجِ الطُّرُقِ السَّوِيَّةِ، للوصولِ إِلى حَقِيقَةِ الوَحدانِيَّةِ، داعياً إِلَى حُسْنِ التَّعقُّلِ وجَودَةِ التَّفكُّرِ، دُونَما قَسوةٍ وشِدَّةٍ، وغِلظَةٍ وحِدَّةٍ، وكانَ بِذلكَ يُنفِّذُ ما أَوحَى إِليهِ رَبُّهُ مِنِ التِزامٍ بِالحكْمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنةِ، والجِدالِ بِأَحسَنِ طَريقَةٍ، تُوضِّحُ الأُمورَ وتَهْدِى إِلى الحَقِيقَةِ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))(10)، لَقَدْ كانَ -صلى الله عليه وسلم- يُذكِّرُ النَّاسَ دونَما قَهْرٍ وإِجبارٍ، أَو سَيْطَرةٍ واستِكبارٍ، وكانَ بِذلِكَ أَيضاً يُنفِّذُ أَوامِرَ ربِّهِ العالِمِ بِطَبائعِ المَخلوقاتِ وخَصائصِ المَوجوداتِ ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) (11)، يَقولُ اللهُ تَعالَى مُخاطِباً نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ))(12)، ويَقُولُ سُبْحانَهُ: ((فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ))(13).
   فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ التَّعامُلَ مَعَ الواقِعِ بإِيجابِيَّةٍ؛ يَمنَحُ الإِنسانَ حَياةً هَنِيئَةً، وطُمأنِينَةً قَلْبِيَّةً.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
   *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ؛ فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ الرِّضا بِالواقِعِ علَى عِلاَّتِه -حتَّى وإِنْ كانَتْ إِيجابيّاتُهُ أَكثَرَ مِنْ سَلْبِيَّاتِهِ - أَمْرٌ يَتنافَى مَعَ طَبِيعَةِ التَّغيُّرِ والتَّطوُّرِ، وهذِهِ الطَّبِيعَةُ سُنَّةٌ إِلهيَّةٌ وطَريقَةٌ طَبِيعيَّةٌ، فَمَنْ رَضِيَ بِوَاقِعِهِ وَقَفَ فِي نَفْسِ المَكانِ فِي وَقْتٍ يَتَحَرَّكُ فِيهِ الزَّمانُ؛ فَهوَ فِي الواقِعِ يَتأَخَّرُ، ويَتراجَعُ ويَتقَهقَرُ، وما أَشبَهَهُ وهوَ علَى هذِه الحالِ بِماءٍ طَيِّبٍ زُلالٍ، بَيْدَ أَنَّهُ راكِدٌ لاَ يَتحرُّكُ، فَإِنْ بَقِيَ علَى رُكودِهِ أَسِنَ وتَغيَّرَ، ولَحِقَهُ الكَدَرُ، إِنَّ أَصحابَ العُقولِ الرَّاشِدَةِ، والنُّفوسِ الطَّموحَةِ الأَبِيَّةِ، يَعملونَ بِجِدٍّ وإِيجابِيَّةٍ، لاَ يَتوقَّفونَ عَنْ عَملٍ، ولاَ يَتخلَّوْنَ عَنْ أَملٍ، إِنْ حَقَّقوا هَدَفاً أَرادوهُ رَصَدوا لَهُم هَدفاً آخَرَ، ثُمَّ اتَّجَهوا إِليهِ وقَصَدوهُ، وهَكَذا بِحَركَتِهم الدَؤوبَةِ وعَملِهم المُتواصِلِ لاَ يَرضَونَ بِالواقِعِ والحاصِلِ، دُونَ سُلوكِ الأَسبابِ وطَرقِ جَمِيعِ الأَبوابِ، وقَدْ جاءَ فِي الأَثَرِ: ((علَى العاقِلِ أَنْ يَكونَ بَصيراً بِزَمانِهِ، مُقْبِلاً علَى شانِهِ، حافِظاً لِلِسانِهِ)). إِنَّ الرِّضا الذِي يُريدُهُ الإِسلاَمُ هوَ رِضا العامِلينَ، لاَ رِضا المُتواكِلينَ الخامِلينَ، ولَقَدْ ساقَ القُرآنُ الكَريمُ قِصَّةَ ذِي القَرنَيْينِ مَثَلاً للمُؤمِنِ الذِي يَعْملُ بِدأْبٍ واستِمرارٍ، لِنَشْرِ الخَيْرِ ودَرأِ الأَخطارِ، ومُكافَحَةِ الأَضرارِ، مُتسلِّحا بِالعَزيمَةِ والإِصرارِ، فَكانَ لاَ يَفتأُ أَنْ يُغَيِّرَ واقِعاً فِيهِ خَلَلٌ، حتَّى يَتَّجِهَ إِلى واقِعٍ آخَرَ؛ لِيَعمَلَ علَى تَقويِمِهِ وإِصلاَحِهِ بِجِدٍّ وعَزْمٍ، وعَمَلٍ مُتَّسِمٍ بِالضَّبطِ والحَزمِ، مُتَّبِعاً سَبباً بِسَببٍ، وعَملاً بِعَملٍ؛ فاستَطاعَ أَنْ يُبَدِّلَ الواقِعَ المَعِيبَ المَرذُولَ إِلى واقِعٍ صالِحٍ مَقْبولٍ، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً))(14).
   عِبادَ اللهِ :
   إِنَّ الرَّفْضَ للواقِعِ المُعاشِ دُونَ مُساهَمَةٍ فِي الإِصلاَحِ بِهِمَّةٍ وإِيجابيَّةٍ يُعَدُّ مِنَ التَّصرُّفاتِ السَّلْبِيَّةِ التِي تَقتُلُ الطُّموحَ فِي النَّفسِ البَشريَّةِ، والطُّموحُ شَمْعَةٌ مُضِيئةٌ لاَ يَجوزُ بِحالٍ إِطفاؤها وإِخمادُها، بلْ ولاَ إِقصاؤها وإِبعادُها؛ فالطُّموحُ مَعَ اتِّخاذِ الأَسبابِ ارتِقاءٌ وارتِفاعٌ، وعَدمُهُ تَدنٍّ واتِّضاعٌ، يُؤدِّي إِلى الخُسْرانِ والضَّياعِ، وإِنَّ الطُّموحَ يَدفَعُ الإِنسانَ دَفعاً إِلى العَملِ، ويُذكْي فِيهِ رُوحَ الأَملِ، ومَنْ رَفَضَ الواقِعَ دُونَ عَملٍ وحَركَةٍ وَأَدَ وقتَهُ ونَزَعَ مِنهُ البَركَةَ، إِنُّ كُلَّ لَحظَةٍ تَضِيعُ مِنْ عُمُرِ الإِنسانِ دُونَ عَملٍ مُثمِرٍ بِنّاءٍ هيَ أَوقاتٌ غَبَنَها الإِنسانُ حَقَّها، يَقولُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((نِعْمتانِ مَغْبونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ))، وقَدْ قِيلَ: ((إِنْ لَمْ يَكُنِ الشُّغْلُ مَحْمَدةً كانَ الفَراغُ مَفْسَدَةً، فَلاَ تُفْرِغْ قَلبَكَ مِنْ فِكْرٍ، ولاَ وَلَدكَ مِنْ تأدِيبٍ؛ فَإِنَّ القَلبَ الفَارِغَ يَبْحَثُ عَنِ السُّوءَ، واليَدَ الفارِغَةَ تُنازِعُ إِلى الآثامِ)).
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، وَعِيشوا واقِعَكُم، وتَعامَلوا مَعَهُ بِما يُصلِحُ أَعمالَكم، يُحَقِّقِ اللهُ آمالَكُم.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))(15).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
                      
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ :(( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الأسراء / 70 .
(2) سورة فاطر / 18 .
(3) سورة آل عمران / 30 .
(4) سورة الأنفال / 24 .
(5) سورة السجدة / 7-9.
(6) سورة ص / 71-72 .
(7) سورة الفرقان / 43-44 .
(8) سورة الكهف / 28 .
(9) سورة الأعراف / 31-32 .
(10) سورة النحل / 125 .
(11) سورة الملك / 14 .
(12) سورة ق / 45 .
(13) سورة الغاشية / 21-22 .
(14) سورة الكهف / 83-84 .
(15) سورة الأحزاب / 56 .