نحـوَ سَلامةٍ مُروريَّةٍ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
01/03/2008
خطبة الجمعة بتاريخ 29 صفر 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
نحـوَ سَلامةٍ مُروريَّةٍ
    الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ مِنَ الدِّينِ ما فِيهِ سَلاَمَةُ العِبادِ، وأَوجَبَ علَيهمُ السَّعيَ بِما يُصلِحُ البِلاَدَ، وَحَرَّمَ علَيهِم ضُروبَ الاستِهتارِ والفَسادِ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَريكَ لَهُ، صَانَ بِشَرعِهِ الشَّريفِ النَّفسَ البَشريَّةَ، وأَكرمَها ورَفعَها فِي المَنزِلَةِ العَلِيَّةِ، حَرَّمَ قَتلَها وإِيذاءَها، وأَوجَبَ حِفظَها ورِعايتَها، وفَرَضَ ما يَضْمَنُ وِقايتَها وسَلاَمتَها، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، وصَفِيُّهُ مِنْ خَلْقِهِ وحَبِيبُهُ، أَقْومُ النَّاسِ فِي سَيْرِهِ، وأَرعاهُم لِحقوقِ نَفْسِهِ وغَيْرِهِ، وأَشمَلُهم بِنَفْعِهِ وخَيْرِهِ، -صلى الله عليه وسلم-  وعلَى آلهِ وصَحْبِهِ أَجمَعينَ، والتَّابِعينَ لَهُم بِإحسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمّا بَعْدُ، فإِنَّ تَقْوى اللهِ جِماعُ كُلِّ صَلاَحٍ وخَيْرٍ، وبِها ذَهابُ كُلِّ شَرٍّ وضَيْرٍ، فَاتَّقوا اللهَ فِي أَقوالِكُم وأَفعالِكُم، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً))(1)، واعلَموا   -رَحِمَكُم اللهُ- أَنَّ للهِ علَيكُم نِعَماً لاَ تُعَدُّ ولاَ تُحْصَى، وآلاءً لاَ تُحَدُّ ولاَ تُستَقْصَى، وإِنَّ مِمّا أَنعَمَ اللهُ بِهِ علَينا فِي هَذا العَصْرِ المَركَباتِ بِكَافَّةِ أَنْواعِها، فَقَدْ مَلأَتِ البِلادَ، وطَوَتِ الشَّاسِعَ مِنَ المِهادِ، وأَراحَ اللهُ بِها العِبادَ، فَقَرَّبَتِ البَعِيدَ، وسَهّلَتِ العَسِيرَ، واختَصَرَتِ الأَوقات، وأَعانَتْ علَى الطَّاعاتِ، إِنَّها نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ وافِرَةٌ، وآلاءٌ واضِحَةٌ ظاهِرَةٌ، وقَدْ مَنَّ اللهُ علَينا لِسَيْرِها طُرُقاً سَهلَةً مُعبَّدةً، وشَوارِعَ للمُرورِ مُمهَّدةً، نِعْمَةً مِنَ اللهِ وفَضْلاً، إِنَّ النِّعَمَ تَبقَى وتَزِيدُ، إِذا استُعمِلَتِ الاستِعمالَ السَّدِيدَ، ووُجِّهَتِ التَّوجِيهَ الجَيِّدَ الرَّشِيدَ، مَعَ شُكْرٍ لِلمُنْعِمِ المُتَفَضِّلِ الحَمِيدِ، قَالَ سُبْحانَهُ: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ))(2)، فَشُكْرُ هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ يَكونُ بِاستِعمالِها فِيما جَعلَها اللهُ تَعالَى لَهُ، مِنْ قَضاءِ المَصالِحِ الخاصَّةِ والعامَّةِ، وإِذا كانَتْ صُوَرُ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفيرَةً، فَإِنَّ أَشْكالَ جُحودِها وكُفْرِها كَثِيرةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ الاعتِداءُ علَى الطُّرُقِ التِي هيَ مَسالِكُ عُبورِ هَذِهِ المَركباتِ، فَإِنَّ للطَّرِيقِ فِي الإِسلاَمِ حُرمَةً وحُقوقاً، لاَ يُلْقَى فِيها الأَذَى، ولاَ يَصِحُّ علَيها الاعتِداءُ، ولاَ يُضَايَقُ سَالِكُها، ولاَ تُنْتَهكُ حُرمَةُ عَابِرِها، إِنَّ الطُّرُقَ مَسالِكُ النَّاسِ إِلى شُؤونِهم، ومَعابِرُهم إِلى قَضاءِ حَوائجِهم، ودُروبُهم فِي تَحَرُّكاتِهم وتَحْصيلِ مَنافِعِهم، وسَبيلُهم إِلى أَسْواقِهم وكَسْبِ مَعاشِهم، وهِيَ مَنافِذُهم إِلى جَمِيعِ أَنْواعِ الحَرَكَةِ والتَّنَقُّلاتِ، لِذَلِكَ وَصَّى الإِسلاَمُ بِأداءِ حُقوقِها، وَحَذَّرَ مِنْ إِيذاءِ المَارَّةِ بِالجُلُوسِ علَيها، إِنَّ إِيقاعَ الأذَى وإِلحاقَ الضَّرَرِ بِالآخرينَ إِثْمُهُ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ، وخَطَرُهُ علَى صاحبِهِ جَسِيمٌ، والأَذَى كَلِمَةٌ جامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُؤذِي النَّاسَ مِنْ قَولٍ وعَمَلٍ.
                                  
   أيُّها المُسلِمونَ:
  إِنَّ استِعمالَ الطَّريقِ بِأَنَاةٍ وهُدوءٍ مِنْ صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ، قَالَ اللهُ تَعالَى: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا))(3)، فَعِبادُ الرَّحمنِ: يَمْشُونَ فِي الطَّرِيقِ هَوْناً، فَلاَ تَصنُّعَ ولاَ تَكلُّفَ، ولاَ كِبْرَ ولاَ خُيلاءَ، مِشْيَةً تُعَبِّرُ عَنْ شَخْصيَّةٍ مُتَّزِنَةٍ، ونَفْسٍ سَوِيَّةٍ مُطمَئنَّةٍ، تَظْهَرُ صِفاتُها فِي مِشْيَةِ صَاحِبِها، وَقارٌ وسَكِينَةٌ، وجِدٌّ وقُوّةٌ مِنْ غَيْرِ تَماوُتٍ أَو مَذلَّةٍ، تأَسِّياً بِالقُدْوَةِ الأُولَى مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-  ، أَعْدَلِ النَّاسِ مِشْيَةً وأَحسَنِها وأَسكَنِها، هكَذا وَصَفَهُ الواصِفونَ، وتِلْكَ هِيَ مِشْيةُ أُولِي العَزْمِ والهِمَّةِ والشَّجاعَةِ، يَمْضِي إِلى قَصْدِهِ فِي انطِلاقٍ واستِقامَةٍ، لا يُصَعِّرُ خَدَّهُ استِكباراً، ولاَ يَمشِي فِي الأَرْضِ مَرَحاً، لاَ يَقصِدُ إِلى مُزاحَمَةٍ، ولاَ سُوءِ أَدَبٍ فِي المُمازَحَةِ، يَحتَرِمُ نَفْسَهُ فِي أَدَبٍ جَمٍّ، وخُلُقٍ عَالٍ رَفِيعٍ، إِنَّهُ خُلُقُ القُرآنِ، والذِي رَسَمَهُ لَنا الخَالِقُ المَنَّانُ، حَيْثُ قَالَ سُبْحانَهُ: ((وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ))(4)، وقَدْ كَانَ -صلى الله عليه وسلم-  فِي سَيْرِهِ يَحُثُّ الجُموعَ التِي مَعَهُ ويُنادِيهِم ويَرفَعُ يَدَهُ اليُمْنَى قَائلاً: ((يا أَيُّها النَّاسُ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ))، وكَانَ -صلى الله عليه وسلم-  يَكْبَحُ مِنْ سُرْعَةِ راحِلَتِهِ بِشَدِّ زِمامِها حتَّى كَادَ رأَسُها أَنْ يُلاَمِسَ رَحْلَها، وذَلِكَ خَشْيَةَ أَنْ يَشُقَّ علَى المُسلِمينَ فِي سَيْرِهِم، أَو أَنْ يُضايِقَ أَحداً مِنْهُم فِي طَرِيقِهِ، هَذا خُلُقُهُ -صلى الله عليه وسلم- ، فأَيْنَ هَذا الهَدْيُ الرَّائِعُ مِنْ أُولئكَ الذِينَ يَتجاوَزونَ المَركَباتِ، فِي أَماكِنَ التَّجاوزُ فِيها مِنَ المَمنوعاتِ، وبِطَريقَةٍ هِيَ في عِدادِ المَحْظوراتِ، فِي استِهتارٍ واضِحٍ بِالقِيَمِ، واستِخفافٍ صَريحٍ بِاللَّوائحِ والنُّظُمِ، وتَعْريضٍ بَغِيضٍ لِحياةِ النَّاسِ ومُمتلَكاتِهم؟؟ إِنَّ الرِّفْقَ أَدَبٌ رَفِيعٌ مِنَ الآدابِ النَّبَوِيَّةِ، وخُلُقٌ سامٍ مِنَ الأَخلاَقِ الإِسلاَميَّةِ، يُوْجِبُ مَحبَّةَ اللهِ، وتُستَمطَرُ بِهِ نِعَمُهُ وعَطاياهُ، فَعَنْ عائشَةَ أُمِّ المُؤمنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْها عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-  أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم-  قَالَ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لاَ يُعْطِي علَى العُنْفِ وما لاَ يُعْطِي علَى ما سِواهُ))، وعَنْ أَبِي الدَّرْداءَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ- عَنْهُ -صلى الله عليه وسلم-  : ((مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الخَيْرِ، ومَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهِ مِنَ الخَيْرِ))، فَيَنبَغِي لِكُلِّ مُسلِمٍ أَنْ يَتِّصِفَ بِالرِّفْقِ والهُدوءِ فِي أُمورِهِ عَامَّةً، وفِي قِيادَتِهِ لِلسَّيّارَةِ خاصَّةً.
   أيُّها المُسلِمونَ:
  إِنَّ قائدَ المَركَبَةِ مَسؤولٌ مسؤوليَّةً كَامِلَةً عَنْ مَركَبَتِهِ فِي سَيْرِها ومَا يَنْجُمُ عنْها، يَحْرُمُ علَيهِ إِيذاءُ النَّاسِ بِها، بَلْ وحتَّى نَفْسِهِ التِي بَيْنَ جَنبَيْهِ مَسؤولٌ عنْها، فَلاَ يَنْشَغِلُ بِشَيءٍ يُؤثِّرُ علَى رُؤْيتِهِ وتَركِيزِهِ أَثناءَ القِيادَةِ؛ لأَنَّهُ مَسؤولٌ أَمامَ اللهِ عَنْ سَلاَمَةِ نَفْسِهِ وسَلاَمَةِ الآخَرينَ، قَالَ تَعالَى: ((مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ))(5)، فَلاَ بُدَّ مِنَ الاطمِئنانِ علَى حُسْنِ القِيادَةِ وِفْقَ الأَنظِمَةِ، وإِدراكِ التَّعلِيماتِ ودِقَّةِ الالتِزامِ بِها، والنَّفسُ لَيْسَتْ مُلْكًا لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، بَلْ حتَّى ولاَ لِصاحبِها، وإِنَّما هِيَ مُلْكٌ للهِ وَحْدَهُ؛ ومِنْ أَجلِ ذَلِكَ حَرَّمَ سُبْحانَهُ الاعتِداءَ علَيها، حتَّى مِنْ قِبَلِ صاحبِها، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-  : ((إِنَّ دِماءَكم وأَموالَكم وأَعراضَكم علَيكم حَرامٌ))، وقَالَ تَعالَى: ((وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))(6)، وقَالَ سُبْحانَهُ: ((وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ))(7).
 
   أيُّها المُسلِمونَ:
   إِنَّ حَوادِثَ السَّيْرِ أَلحَقَتْ أَضراراً جَسِيمَةً بِالفَردِ والأُسْرَةِ والمُجتَمَعِ والدَّولَةِ، وأَدَّتْ إِلى تَيَتُّمِ أَطفالٍ أَبْرياءَ، وخَسارَةِ شَبابٍ أَقوياءَ، وقَتْلِ شُيوخٍ ضُعفاءَ، وتَرمُّلِ نِساءٍ، وهَدْرٍ لِلوقْتِ والمَالِ فِي العِلاَجِ والدَّواءِ، ولَوْ رَجعْنا إِلى أَرقامِ الإِحصَائياتِ، ودَقَّقْنا النَّظَرَ فِي نَتائجِ الدِّراساتِ، لَوَجَدْنا أَنَّ لِقائدِ المَركَبةِ اليَدَ الطُّولَى، والسَّبَبَ المُباشِرَ فِي مُعْظَمِ حَوادِثِ المُرورِ بِسَبَبِ الإِهمالِ وسُوءِ التَّصرُّفِ والتَّجاوُزِ الخاطِئِ ونَقْصِ الوَعْيِ والتَّخلِّي عَنِ المَسؤوليَّةِ، إِنَّ لُغَةَ الأَرقامِ تَحكِي حَقائقَ دَقِيقَةً، وَوَقَائعَ مُوثَّقةً، وهِيَ مَعَ هَولِها علَى النَّفسِ تَضَعُ الفَردَ والجَماعَةَ أَمامَ المَسؤوليَّةِ المُباشِرَةِ، وإِنَّ الأَمْرَ يَبدو أَكثَرَ خَطَراً، وأَعْظَمَ بلاءً وضَرراً، إِذا عَلِمْنا أَنَّ مُعْظَمَ تِلْكَ الوَفيّاتِ كانَ ضَحيَّتُها الفِئَةَ التِي هِيَ عِمادُ الإِنتاجِ فِي المُجتَمعِ، ومَنْ هُمْ فِي أَعمَارِ الشَّبابِ والقُوَّةِ، ومَرحلَةِ النَّشاطِ والفُتوَّةِ، أَليْسَ هَذا مِنْ ضُروبِ الإِفسادِ فِي الأَرْضِ؟ إِنَّهُ تَهْدِيدٌ للأَمْنِ الاجتِماعيِّ لِلعِبادِ، وعَبَثٌ بِالاستِقرارِ الاقتِصادِيِّ فِي البِلادِ، فَهؤُلاءِ هُمُ العائلونَ للأُسَرِ، فِيهِمُ الآباءُ والأُمَّهاتُ، وضِمْنُهم الشَّبابُ والشَّابَّاتُ، فأَيْنَ المُتسَبِّبونَ فِي هَذِهِ الحَوادِثِ مِنْ قَولِهِ تَعالَى: ((مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ))(8)، إِنَّ السُّرعَةَ الزَّائدَةَ عَنْ حَدِّها تُؤَدِّي إِلى قَتْلِ وتَمْزيقِ الإِنسانِ، بِالإِضافَةِ إِلى ما تُخَلِّفُهُ مِنْ جُروحٍ وعاهاتٍ وتَشوُّهاتٍ، وما تَستَنزِفُهُ مِنْ ثَرواتٍ؛ ولِذلِكَ كانَتْ الفَتْوى الشَّرعيَّةُ بأَنَّ مَنْ تَجاوَزَ الحَدَّ المُقرَّرِ للسُّرْعَةِ فَتسبَّبَ فِي قَتْلِ نَفسِهِ أَو قَتْلِ غَيْرِه كانَ مَسؤولاً أَمامَ اللهِ، قَالَ تَعالَى: ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا))(9)، وقَالَ: ((وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بالحَقّ))(10)، والسُّرعَةُ الزَّائدةُ عَنْ حَدِّها تُؤَدِّي إِلى تَحْطِيمِ وتَخْريبِ المُمتَلكاتِ العامَّةِ والخاصَّةِ، وقَدْ نَهَى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-  عَنْ إِضاعَةِ المالِ، وقَالَ فِي حَجَّةِ الوداعِ: ((إِنَّ دِماءَكم وأَموالَكم عَليكُم حَرامٌ، كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذا، فِي شَهْرِكُم هَذا))، وقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((كُلُّ المُسلِمِ علَى المُسلِمِ حرامٌ: دَمُهُ ومَالُهُ وعِرْضُهُ))، ولكَي يَغْرِسَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  فِي النُّفوسِ تَقدِيسَ حُقوقِ الإِنسانِ وقَفَ أَمامَ الكَعْبَةِ يَوْماً فَقالَ: ((ما أَطْيَبَكَ وأَطْيَبَ رِيْحَكَ، وما أَعظَمَكَ وأَعْظَمَ حُرمَتَكَ، والذِي نَفْسُ مُحمَّدٍ بِيَدِهِ، لَحُرْمَةُ المُؤمِنِ أَعظَمُ عِندَ اللهِ حُرمَةً مِنكَ، مَالُهُ ودَمُهُ)).
   فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- ، واحذَروا ما فِيهِ أَذَىً لِنُفوسِكُم ولِغَيْرِكُم، وإيّاكُم وما يَتسبَّبُ فِي ضَياعِ أَموالِكُم واعتِلالِ صِحَّتِكم.
  أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ عامَّةَ أَسْبابِ حَوادِثِ السَّيْرِ يُمكِنُ تَلاَفِيها، فالعاقِلُ اللَّبِيبُ مَنْ يأْخُذُ بِأسبابِ السَّلاَمَةِ، ويَسْعَى فِيها جاهِداً، وإِنَّ مِنْ أَهَمِّ أَسْبابِ هَذِهِ الحَوادِثِ تَسلِيمَ السَّياراتِ لأَطفالِ السِّنِّ أَو أَطفالِ العُقولِ، مِمَّنْ ظَهَرَ استِهتارُهم بأَنفُسِهم وبالآخَرينَ، إِنَّ المَسؤُولِيَّةَ فِي هَذا الأَمْرِ تَقَعُ علَى عاتِقِ مَنْ يَتَساهَلُ بِجَعلِ السَّياراتِ بأَيدِي هؤلاءِ الذِينَ لاَ يُدْرِكونَ قِيمَةَ النِّعَمِ ولاَ يُحسِنونَ استِغلالَها، ولاَ يَتصوَّرونَ الضَّرَرَ النَّاتِجَ مِنْ سُوءِ استِعمالِها، ولَو تأَمَّلْنا مَقاصِدَ شَريعَةِ الإِسلاَمِ لَوَجَدْنَا مِنْ أَهمِّ مَقاصِدِها حِفْظَ الأَبدانِ والأَرواحِ؛ فَهَلاَّ حَزَمْنَا أَمْرَنا وكُنَّا صارِمينَ مَعَ مَنْ وَلاَّنا اللهُ رِعايتَهم؛ فَنَمنَعُهم مِنْ قِيادَةِ المَركَبةِ إِنْ رَأَيْنا مِنهُم عَبثاً، ونَسْمَحُ لَهُم بِها إِنْ آنسْنا مِنهُم رُشداً؟ فإِنَّ لِكُلِّ سائقٍ قُدْرةً، وَجِهاتُ الاختِصاصِ أَدْرَى بِما يَصلُحُ لِكُلِّ ذَلكَ، فَينْبَغِي الالتِزامُ بِما رَسَمتْ، فَهوَ أَدْعَى لِلسَّلاَمَةِ، فَما وُضِعَتْ أَنظِمةُ المُرُورِ إِلاَّ لِضَبْطِ السَّيْرِ وسَلاَمَةِ النَّاسِ، وأَكثَرُ الحَوادِثِ بِسبَبِ تَجاهُلِ تِلْكَ الأَنظِمَةِ، وأَسبابُ السَّلاَمَةِ كَثيرةٌ، ومَنْ طَلَبَ أَسبابَها وَجدَها، والعاقِلُ مَنِ وُعِظَ بِغَيرِهِ.
   فاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ- فِي أَنفُسِكُم وأَولاَدِكُم، وفِي إِخوانِكُم وأَموالِكُم، وَتَذكَّروا نِعَمَ اللهِ علَيكُم، وتَعاونوا علَى البِرِّ والتَّقوى، ولاَ تَعاونوا علَى الإِثْمِ والعُدوانِ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ))(11).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ. اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ : ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة الاحزاب / 70 .
(2) سورة إبراهيم / 7.
(3) سورة الفرقان / 63 .
(4) سورة لقمان / 18-19 .
(5) سورة الاحزاب / 4 .
(6) سورة النساء / 29 .
(7) سورة البقرة / 195 .
(8) سورة المائدة / 32.
(9) سورة النساء / 29 .
(10) سورة الأنعام / 151 .
(11) سورة الأحزاب / 56 .