التَّـقوَى ثمَراتٌ ومجَالاتٌ
كتب قسم الخطب بدائرة الائمة والخطباء   
27/04/2008
طبة الجمعة بتاريخ 26 ربيع الثاني 1429هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
التَّـقوَى ثمَراتٌ ومجَالاتٌ
   الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، جَعَلَ التَّقوَى مَعْدِنَ الخَيْراتِ، ومَصْدَرَ البَركاتِ، وحَثَّ عَلَيْها فِي كَثِيرٍ مِنَ الآيَاتِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِما هُوَ لَهُ أَهلٌ مِنَ الحَمْدِ وأُثْنِي عَلَيْهِ، وأُؤمِنُ بِهِ وأَتَوكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ومَنْ يُضلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، القَائمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، الرَّقِيبُ عَلَى  كُلِّ جَارِحَةٍ بِما اجتَرَحَتْ، الذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ تَحَرَّكَتْ أَو سَكَنَتْ، يَقْبَلُ طَاعَاتِ عِبَادِهِ وإِنْ قَلَّتْ، ويَتَفَضَّلُ بِالعَفْوِ عَنْ مَعاصِيهم وإِنْ كَثُرَتْ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمَامُ المُتَّقِينَ، وقُدْوَةُ السَّابِقينَ واللاحِقينَ، اللَهُمَّ صَلِّ وَسلِّمْ وبَارِكْ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحابِهِ الذِينَ تَسَربَلُوا بِسِرْبالِ التَّقوَى؛ فَكَانوا أَكْرَمَ وأَعَزَّ وأَقْوَى، ورَضِيَ اللهُ عَنِ التَّابِعينَ لَهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى عِبادِهِ أَنْ يَتَّقوهُ حَقَّ تَقْواهُ، فَلاَ يَعْبُدونَ غَيْرَهُ ولاَ يَستَعِينونَ بِسِواهُ، ويَستَمِرُّونَ عَلَى ذَلِكَ مَا دَامَ فِيهِم رَمَقٌ مِنْ حَياةٍ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ))(1)، ولِتَقْوى اللهِ عَزَّ وجَلَّ فَوائدُ نَافِعَةٌ، وثِمارٌ يَانِعَةٌ، وآثَارٌ يَافِعَةٌ، فَمَنِ اتَّقَى اللهَ عَزَّ وجَلَّ وَفَّقَهُ اللهُ لِلْقَولِ السَّدِيدِ، ولِكُلِّ عَمَلِ صَالِحٍ رَشِيدٍ، وغَفَرَ لَهُ ذُنُوبَهُ، وأَنَارَ لَهُ دُروبَهُ، وخَفَّفَ عَنْهُ هُمُومَهُ، وفَرَّجَ عَنْهُ كُروبَهُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً))(2)، ويَقولُ سُبْحانَهُ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))(3)، ويَقُولُ جَلَّ فِي عُلاَهُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، َيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))(4)، ويَقولُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً))(5)، ويَقُولُ: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً))(6).
   عِبادَ اللهِ :
   لَقَدْ عُنِيَ القُرآنُ الكُرِيمُ بِالتَّقْوَى عِنَايَةً فَائقَةً قُصْوَى، لِما لَهَا مِنْ أَثَرٍ طَيِّبٍ فِي عِمارَةِ الدُّنْيا والأُخْرَى، لِذَلِكَ وَعَدَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَى التَّقوَى الثَّوابَ العَظِيمَ، والأَجْرَ السَّخِيَّ الكَرِيمَ، فَقالَ تَباركَ وتَعالَى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))(7)، كَما جَعَلَها اللهُ عَزَّ وَجلَّ سَبَباً لِمَغْفِرَتِهِ التَّامَّةِ، ورَحْمَتِهِ الشَّامِلَةِ العَامَّةِ، فَقالَ تَبارَكَ وتَعالَى: ((وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً))(8)، كَما جَعَلَها سَبَباً لِمَعِيَّتِهِ المُفْضِيَةِ إِلى الحِفْظِ والعِنايَةِ، والحِمايَةِ والرِّعايَةِ، فَقالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ))(9)، وقَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ))(10)، كَما أَثْبَتَ اللهُ تَباركَ وتَعالَى وأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ تَفَضُّلاً وتَكَرُّماً مَحَبَّتَهُ لِمَنِ اتَّقاهُ، ومَنْ أَحبَّهُ اللهُ رَفَعَ دَرَجَتَهُ ورَقَّاهُ، وخَلَّدَ ذِكْرَهُ وأَبقاهُ، فَقالَ جَلَّ فِي عُلاَهُ: ((بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ))(11)، والتَّقوَى وَسِيلَةُ النَّجاةِ مِنْ مَكْرِ الشَّيْطانِ وَوَسَاوِسِهِ، وحِيَلِهِ ودَسائسِهِ، ومَنْ نَجا مِنْ وَساوِسِ الشَّيْطانِ أَبْصَرَ الحَقَّ ورآه؛ فَسَعِدَ فِي دُنْياهُ وفَازَ فِي أُخْراهُ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ))(12)، وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً))(13)، ومَنِ اتَّقَى اللهَ عَزَّ وجَلَّ لاَ يَصْدُرُ عَنْهُ مَا يَضُرُّ ويَسُوءُ، ولِذَلِكَ لاَ يَمَسُّهُ ضُرٌّ ولاَ سُوءٌ، يَقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ: ((وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))(14)، وَلَنْ يَكونَ امرؤٌ للهِ وليّاً إلاَّ إِذا آمَنَ وكَانَ تَقِيّاً، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))(15)، والتَّقوَى طَرِيقٌ مُستَقِيمٌ، مُوَصِّلٌ إِلَى جَنَّاتٍ النَّعِيمِ، ومَنْ وَصَلَ إِلَى الجَنَّةِ حُظِيَ بِوِراثَتِها، وفَازَ بِنَعِيمِها وخَيْراتِها، يَقولُ اللهُ تَعالَى: ((تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً))(16)، ويَقُولُ جَلَّ شأْنُهُ: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))(17)، ويَقُولُ تَعالَى: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ))(18).
   عِبادَ اللهِ :
   بِالتَّقوَى يَحفَظُ اللهُ الإِنْسانَ ويَحْمِيهِ، وبِها يَرُدُّ كَيْدَ مَنْ يُعادِيهِ، يَقُولُ سُبْحانَهُ وتَعالَى: ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً))(19)، ومَنْ أَرادَ العِزَّةَ والكَرَامَةَ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ النَّاسِ؛ فَلْيَجْعَلِ التَّقوَى لَهُ خَيْرَ زَادٍ وخَيْرَ لِباسٍ، فَكُلُّ زَادٍ يَنْفَدُ إلاَّ زَادَ التَّقوَى، وَكُلُّ لِباسٍ يَبْلَى إِلاَّ لِباسَ التَّقوَى، وكُلُّ كَرِيمٍ عِنْدَ النَّاسِ قَدْ يُهانُ إلاَّ مَنْ أَكْرَمَهُ اللهُ فَحَلاَّهُ بِالتَّقوَى وزَانَهُ، ولِذلِكَ فَهُوَ لاَ يَتَعَرَّضُ أَبَداً لِمَذلَّةٍ أَو مَهانَةٍ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى))(20)، ويَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: ((وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ))(21)، ويَقُولُ سُبْحانَهُ: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))(22)، وإِذا كَانَ لِلتَّقوى هَذِهِ المَكَانَةُ الرَّاقِيَةُ، والثمَّراتُ الخَالِدَةُ البَاقِيَةُ؛ فَلاَ عَجَبَ أَنْ جَعلَها اللهُ تَباركَ وتَعالَى وَصِيَّتَهُ لِلأَوّلِينَ والآخَرِينَ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ))(23)، كَما كَانَتْ وَصِيَّةُ الأَنْبِياءِ والمُرسَلِينَ أَجْمَعِينَ، فَما مِنْ رَسُولٍ أَرسَلَهُ اللهَ إلاَّ أَوصَى قَومَهُ بِالتَّقوَى، وعَظَّمَ أَمْرَها فَأَكَّدَها وكَرَّرها، يَذْكُرُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ نُوحاً وقَومَهُ فَيقُولُ اللهُ سُبْحانَهُ: ((كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ))(24)، وكَذَلِكَ الشَّأْنُ مَعَ هُودٍ وصَالِحٍ ولُوطٍ وشُعَيْبٍ كَما جَاءَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الشُّعراءِ، وكَذلِكَ الشَّأْنُ مَعَ غَيْرِهم مِنْ أَنْبياءِ اللهِ ورُسُلِهِ كَما جَاءَ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِ مِنْ سُورةٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ، كَما أَوصَى بِها رَسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  أَصْحابَهُ، ومِنْهُم تَنتَقِلُ وَصِيَّتُهُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرضَ ومَنْ عَلَيْها، فَقَدْ وَعَظَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  أَصْحابَهُ يَوماً فَقالوا لَهُ: كأَنَّها مَوعِظَةُ مُوَدِّعٍ فأَوصِنا فَقالَ: ((أُوصِيكُم بِتَقوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَةِ))، كَما كَانَ الرَّسولُ -صلى الله عليه وسلم-  -وهُوَ إِمَامُ المُتَّقِينَ- يَسأَلُ رَبَّهُ التَّقوَى؛ لِيُعِينَهُ رَبُّهُ عَلَى الثَّباتِ عَلَيْها، فَقَدْ جَاءَ فِي دُعائهِ -صلى الله عليه وسلم-  : ((اللهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ الهُدَى والتُّقَى والعَفافَ والغِنَى)).
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ التَّقوَى رَأْسُ كُلِّ أَمْرٍ، وجِماعُ كُلِّ خَيْرٍ؛ فَتَسلَّحوا بِها لِدُنْياكُم وأُخْراكُم.
   أقُولُ قَوْلي هَذَا   وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ   لي وَلَكُمْ،   فَاسْتغْفِرُوهُ   يَغْفِرْ لَكُمْ    إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ،  وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ   إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
     
  *** *** ***
   الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ.
   أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
   إِنَّ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ والتَّصَوُّرِ العَقِيمِ فَهْمَ وتَصَوُّرَ أَنَّ التَّقِيَّ فَقَطْ هُوَ العَابِدُ النَّاسِكُ، المُحافِظُ عَلَى الشَّعائِرِ والمَناسِكِ، والحَقِيقَةُ أَنَّ التَّقوى أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ وأَشْمَلُ، إِذْ هِيَ وَصِيَّةٌ لاَ يَستَغْنِي عَنْها عَامِلٌ أَو صَانِعٌ فِي مَصنَعِهِ، أَو زَارِعٌ فِي مَزرَعَتِهِ، أَو تَاجِرٌ فِي تِجارَتِهِ، أَو مُوَظَّفٌ فِي وَظِيفَتِهِ، أَو عَالِمٌ فِي عِلْمِهِ، لاَ تَستَغْنِي عَنِ التَّقوَى الحَياةُ الأُسَرِيَّةُ، والدَّوائرُ الحُكومِيَّةُ، والمُؤسَّساتُ التَّنمَوِيَّةُ والتَّعلِيميَّةُ، والشَّركاتُ الاستِثْمارِيَّةُ، وكُلُّ مَظاهِرِ الحَياةِ الاجتِماعِيَّةِ، ولَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  حَرِيصاً عَلَى أَنْ يُذَكِّرَ النَّاسَ بِالتَّقوَى فِي المُناسَباتِ العَامَّةِ، والظُّروفِ الطَّارئةِ الهَامَّةِ، فَكَانَ إِذا عَقَدَ قِرانَ الزَّواجِ تَلاَ عَلَى النَّاسِ آياتٍ مِنَ القُرآنِ الكَرِيمِ تَتَضَمَّنُ الدَّعوَةَ إِلى تَقوى اللهِ؛ لِتَبدأَ الأُسْرَةُ الجَدِيدَةُ مَسِيرَها عَلَى أَساسٍ مِنَ التَّقوى المُوجِبَةِ لِتَحَرِّي العَدلِ والإِنْصافِ، بَعِيداً عَنْ كُلِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الظُّلْمِ والإِجْحافِ، والتَّدنِّي والإِسفافِ، وبِذَلِكَ تُحَصَّنُ الأُسْرَةُ، فَلاَ يَحْدُثُ فِيها مَا يُذَمُّ أَو يُعابُ، ولاَ يُدْرِكُها خَلَلٌ واضطِرابٌ، فَكُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرادِ الأُسْرَةِ يَعْرِفُ حَقَّهُ، ويُؤدِّي واجِبَهُ بِكُلِّ هِمَّةٍ ودِقَّةٍ، وبِذلِكَ تَسِيرُ سَفِينَةُ الأُسْرَةِ رَخاءً نَحْوَ غَايَاتِها النَّبِيلَةِ، مِجْدافُها الحُبُّ وشِراعُها الفَضِيلَةُ، وكَانَ -صلى الله عليه وسلم-  إِذا رأَى مَظْهراً مِنْ مَظاهِرِ الفَقْرِ والفَاقَةِ ذَكَّرَ النَّاسَ بِتَقوى اللهِ، فَبِهذِهِ التَّقوَى يَتَحقَّقُ الحُبُّ فَيَترسَّخُ الإِخاءُ، فَيَنْمَحِي الفَقْرُ ويَعُمُّ الرَّخاءُ، إِنَّ أَصْحابَ القُلوبِ التَّقِيَّةِ هُمْ أَصْحابُ القُلوبِ السَّلِيمَةِ النَّقِيَّةِ، الذِينَ لاَ يَهْدأُ لَهُم بَالٌ، ولاَ يَستَقِرُّ لَهُمْ حَالٌ، حتَّى يُساهِموا فِي تَخْفِيفِ الأَزَماتِ، وحَلِّ المُشْكِلاتِ وإِزالَةِ الكُرُباتِ، وهَؤلاءِ هُمُ النَّاجُونُ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ ولاَ بَنونَ، قَالَ اللهُ تَعالَى:  ((يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))(25)، لَقَدْ رأَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-  صَباحَ يَوْمٍ قَوماً تَظْهَرُ عَلَى أَشْكَالِهم وهَيْئاتِهم الفَاقَةُ وشِدَّةُ الحَاجَةِ، فَخَطَبَ الرَّسُولُ -صلى الله عليه وسلم-  النَّاسَ فَقَرأَ قَولَ اللهِ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً))(26)، كَما تَلاَ قَولَ اللهِ تَعالَى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))(27).
   فَاتَّقوا اللهَ -عِبادَ اللهِ-، واعلَموا أَنَّ مِنْ أَهَمِّ مَجالاَتِ التَّقوَى حُسْنَ المُعامَلَةِ وطِيبَ الأَخْلاَقِ، ابتِغاءَ مَرْضَاةِ اللهِ العَلِيمِ الخَلاَّقِ.
   هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً: ((إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا )) (28).
   اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
   اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجمع كلمتهم عَلَى الحق، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظالمين، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعَبادك أجمعين.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
   اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
   اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
   رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
   رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
   رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
   اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
   عِبَادَ اللهِ :
((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ )).
(1) سورة آل عمران / 102 .
(2) سورة الاحزاب / 70-71 .
(3) سورة الحديد / 28.
(4) سورة الطلاق / 2-3 .
(5) سورة الطلاق / 4 .
(6) سورة الطلاق / 5 .
(7) سورة البقرة / 103 .
(8) سورة النساء / 129.
(9) سورة البقرة / 194.
(10) سورة النحل / 128.
(11) سورة آل عمران / 76.
(12) سورة الأعراف / 201 .
(13) سورة النبأ / 31 .
(14) سورة الزمر / 61 .
(15) سورة يونس / 62-64 .
(16) سورة مريم / 63.
(17) سورة المرسلات / 41-44 .
(18) سورة الذاريات / 15-16 .
(19) سورة آل عمران / 120 .
(20) سورة البقرة /  197.
(21) سورة الأعراف / 26 .
(22) سورة الحجرات / 13 .
(23) سورة النساء / 131 .
(24) سورة الشعراء / 105-108 .
(25) سورة الشعراء / 88-89 .
(26) سورة النساء / 1 .
(27) سورة الحشر / 18 .
(28) سورة الأحزاب / 56 .